في صيف عام 2001، انعقد الاجتماع الأول للمنتدى الاجتماعي العالمي تحت شعار «عالم آخر ممكن تحقيقه». أعلن المنتدبون إلى هذا المنتدى، وهو بديل اشتراكي للمنتدى الاقتصادي العالمي، عزمهم على تعطيل العولمة الرأسمالية، ومناصرة حقوق دول الجنوب العالمي، ومقاومة الإمبريالية الأميركية. قلّةٌ استجابت لصرخة حشدهم. قبل أكثر من عقد، ظهرت ملامح النظام العالمي الجديد مع سقوط الاتحاد السوفياتي، وكان مناصرو السوق الحرّة سعداء للغاية بهذا الأمر. انتهى التاريخ حينها. لقد انتصرت الرأسمالية. العولمة، التي تمّ إنشاؤها كعمليّة حتمية، ستجلب فوائد السوق الحرّة إلى الأجزاء الأكثر تخلّفاً في العالم إذا سمحت لها بالدخول فقط. كان الكوكب يعاني من كساد جماعي حادّ أطلق عليه مارك فيشر «الواقعية الرأسمالية»: كان من الأسهل على معظم الناس تخيّل نهاية العالم من تخيّل نهاية الرأسمالية.بعد سبع سنوات من انعقاد ذلك المنتدى، هزّت الأزمة المالية عام 2008 الاقتصاد العالمي حتى صميمه، وكُشفت أحلام الاقتصاديّين في «ترويض» الدورة الاقتصادية على أنها مجرّد محض خيال. وعندما انفجرت فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة، توقّفت التدفّقات المالية التي دعمت النظام المصرفي العالمي فجأة. تبخّر رأس المال الوهمي الذي تم إنشاؤه في أسواق الأصول المالية على مدى العقود السابقة، ووجدت العديد من المؤسسات المالية والشركات والأسر نفسها متعثّرة نتيجة لذلك. اجتاحت الأزمة المالية، التي بدأت في سوق الإسكان الأميركي، العالم، وخلقت أطول وأعمق ركود عالمي منذ عام 1929. وانخفضت تدفقات التجارة والاستثمار بشكل حادّ، ما يمثّل بداية عملية تباطؤ العولمة التي تستمرّ حتى يومنا هذا.

سارع القادة السياسيّون إلى استخدام خطاب الواقعية الرأسمالية. وجادلوا بأنه يجب إنقاذ النظام المالي العالمي، لأنه لم يكن هناك بديل. وبحسب خطابهم، إن الأشخاص العاديين العاملين هم الذين سيُعانون إذا لم يتم إنقاذ النظام. ضخّت الحكومات السيولة في النظام المالي، وزادت التأمين على الودائع، وزودت مصارفها المحلية المتعثّرة برؤوس الأموال. سارعت الحكومات إلى تنفيذ برامج التحفيز، وخفّضت أسعار الفائدة، وأطلقت أكبر تجربة نقدية منذ اتفاقية «بريتون وودز» أتت على شكل «التيسير الكمي». في المقابل فإن البلدان التي لا تتحكم في سياساتها النقدية، وجدت نفسها في مواجهة غضب أسواق السندات. تحوّلت الأزمة المالية بسرعة إلى أزمة ديون سياديّة، مع تأثير حادّ على منطقة اليورو. نظرت دول شمال الكرة الأرضية برعب إلى المأساة اليونانية. وزعموا أنّ التقشّف هو السبيل الوحيد للمضيّ قدماً.
لقد تجاهلت أحزاب يسار الوسطي في جميع أنحاء العالم هذا التّعاقب في المظالم، وهم أنفسهم لم يكونوا قادرين على تخيّل أنه كان هناك طريقة مختلفة للاستجابة للأزمة. في أعقاب الانهيار مباشرة، لم يكن هناك أي مقاومة على الإطلاق. بحلول عام 2015، كان الانهيار الوشيك للرأسمالية العالمية قد أتى وذهب من دون أن يهدّد، ولو لمرّة، النظام السياسي الذي تقوم عليه. إلا أنّ الأمور لم تكن كذلك تماماً. فبالنسبة للذين كانوا لا يزالون في مرحلة التعليم عندما حدثت الأزمة المالية، تحطّمت تعويذة الواقعية الرأسمالية. تشكّلت هوياتهم خلال فترة من عدم اليقين العميق. لقد عاشوا خلال موت عالم الازدهار النيوليبرالي، وولادة عالم الركود الذي أعقب الأزمة. تمكّنوا من رؤية حالة الطوارئ التي عاشها النظام الحالي. فجأة، أصبح تشكّل عالم آخر أمراً ممكناً مرّة أخرى. لكن أي نوع من العوالم سيكون؟
في عام 2007 انهار مظهر النمو الذي تقوده الأسواق المالية، تاركاً الركود في أعقابه. لقد بُنيت مؤسّساتنا السياسية والاقتصادية خلال فترة الازدهار، وهي لم تكن مجهّزة للتعامل مع التوترات التي نشأت منذ الانهيار. دفنت النخب الحاكمة رؤوسها في الرمال، مدافعة بيأس عن بقايا نموذج يحتضر، بينما ينظر الجميع إلى مستقبلهم ولا يرى سوى المشقّة والانحدار. لقد انهارت عملية تشكّل الوعي الجماعي، التي تشرف عليها وسائل إعلام بعيدة عن الظروف التي يواجهها الناس العاديون. وبدلاً من ذلك، ظهرت روايات جديدة في أوساط المجتمعات السياسية. في جميع أنحاء العالم، كان الناس يقولون لبعضهم «لا يمكن للأشياء أن تستمر على حالها».
من الصعب فهم خطورة اللحظة بالنسبة لأولئك الذين عاشوا فترة الاستقرار التي أعقبت سقوط جدار برلين. لكن الدرس الأكثر أهمية الذي نتج عن أحداث العقود الماضية هو أنه لا يمكن لأي نظام رأسمالي أن يظل مستقراً لفترة طويلة. لا يعمل الاقتصاد العالمي وفقاً لقوانين الاقتصاد النيو _كلاسيكي، التي تقصيها الصدمات الخارحية. بدلاً من ذلك، تولد الرأسمالية، خلال الأزمات، التناقضات ما يعني أنه حتى أفضل الاقتصادات الرأسمالية تنظيماً تميل حتماً نحو الفوضى. تحاول المؤسّسات الاقتصادية والسياسية الرأسمالية احتواء التناقضات من خلال إخضاع المجتمعات الرأسمالية لتسلسلات هرميّة صارمة، يمتلك فيها الملاك كل الثروة والسلطة. ولكن، كما أوضح لنا ماركس، فإن مثل هذه التشكيلات المؤسّسية لا يمكنها احتواء الفوضى التي أطلقها دافع الربح. عندما لا تستطيع هذه المؤسسات السيطرة على التناقضات التي صُمّمت لاستيعابها، فإنها تنكسر. تتميز هذه الفترات باضطرابات سياسية وقانونية واجتماعية وتغيّرات متكررة في السلطة وحتى بالثورات.
الدّرس الأكثر أهمية الذي نتج عن أحداث العقود الماضية هو أنّه لا يمكن لأي نظام رأسمالي أن يظل مستقراً لفترة طويلة


كان العقد الذي انقضى، منذ الأزمة المالية عام 2007، أحد هذه الفترات. النمو المدفوع من قبل الأسواق المالية هو نظام يقوم على قمع الأجور واستخراج الريع من قبل النّخب، وهي عملية تخلق القليل من القيمة حتى عندما تنقل الموارد من الأسفل إلى الأعلى. مع المزيد من الموارد التي يسيطر عليها أصحاب رأس المال، كان الشيء الوحيد الذي يدعم الرأسمالية الأنغلو _ أميركية، قبل الانهيار، هو خلق كميات أكبر من الديون. ولكن مع جفاف هذا الدين، تم الكشف عن الركود الناجم عن نظام قائم على زيادة انعدام المساواة. يتشابه علم الاقتصاد مع لعبة صفرية، حيث الربح لمجموعة معينة يعني خسارة لمجموعة أخرى. والذين يتمتعون بالسلطة السياسية يستخدمون هذه اللعبة لاحتكار المكاسب المتناقصة من النمو لأنفسهم. طالما بقيت أسس نموذج النمو الذي تقوده الأسواق المالية كما هي، فإن هذه التناقضات ستستمر في التصاعد.
في هذا المناخ السياسي المحموم، لا يمكن للمركز الرأسمالي المزعوم أن يبقى حياً. عندما شجبت المؤسسة الليبرالية صعود الخطاب «الشعبوي»، فإنها تثبت مرة أخرى أنها تفتقر إلى أي فهم للحظة السياسية الحالية. إن الازدراء الموجه إلى الذين يحاولون إحداث تغيير سياسي خارج المؤسسات «المتحضّرة» للديموقراطية الليبرالية ينطوي على فشل كامل في فهم أن تلك المؤسسات لم تعد تعمل. بدلاً من صياغة رؤية لما يمكن أن يبدو عليه المجتمع الجديد، تريح النخبة الليبرالية نفسها من خلال اقتراح تعديلات تكنوقراطية على مجالات سياسية مختلفة في محاولة لجعل النظام يعمل من جديد.
قد تستمر النخب في الادعاء بأنه «لا يوجد بديل» للنظام الحالي، لكنهم يعرفون في أعماقهم أن الواقعية الرأسمالية قد ماتت. فقط الذين يعرفون أن «العالم الجديد» آتٍ يمكنهم الاستعداد لوصوله، واليوم نحن نواجه الاختيار بين الاشتراكية والهمجية. عندما امتدحت الصحافة المالية الدولية انتخاب الرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو في البرازيل، رأينا أين تكمن ولاءات الطبقات الحاكمة حقاً. يفضّل حماة النظام الحالي مشاهدة البشر ينقلبون على بعضهم البعض في نوبة من الهستيريا الفاشية بدلاً من مشاهدتهم يعملون معاً من أجل عالم جديد وأفضل مبني على المساواة بدلاً من التسلسل الهرمي.
في نهاية المطاف، ستنتهي الرأسمالية بمعركة كبيرة بين الذين يريدون رؤية البشر يتقاتلون بعضهم البعض على بقايا نظام يحتضر، والذين يريدون بناء شيء جديد. بالنسبة للذين يرغبون في تجنّب ولادة الفاشية من جديد، فإن الاشتراكية هي السبيل الوحيد للمضي قدماً. والذين يزعمون أن الاشتراكية لا يمكن أن تنجح أبداً يميلون إلى القيام بذلك على أساس أن المجتمعات والاقتصادات متناقضة لدرجة لا يمكن أن يحكمها منطق التخطيط، فقط المنطق اللامركزي للسوق يمكن أن يوفر التخصيص الأمثل للموارد. ولكن مع تركيز المزيد من النشاط الاقتصادي داخل الشركات الضخمة والبيروقراطية والهرمية، وفي الدول الضخمة والبيروقراطية والهرمية، تصبح هذه الحجّة أكثر سخافة. في الواقع، الذين يزعمون أن الهرمية والتناقضات لا يختلطان، لديهم وجهة نظر. نظراً لأن البشرية أصبحت أكثر تقدّماً من الناحية التكنولوجية وأكثر ترابطاً من أي وقت مضى، فقد أصبح النموذج الرأسمالي أقل قابلية للتطبيق. إنّ إخضاع المجتمعات المعقدة لصلابة التسلسل الهرمي الرأسمالي القائم على ملكية مركّزة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى عدم الاستقرار والظلم.
وفي حين أن الرأسمالية غير قادرة على السيطرة على قوى التناقضات، يجب عليها الآن أن تفسح المجال للاشتراكية الديموقراطية، التي بدلاً من السعي لاحتواء التناقضات من خلال هرمية الشركات والدولة، توسع المبادئ التحررية، التي بالمناسبة يؤمن بها معارضو الاشتراكية على مجالات النشاط السياسي والاقتصادي كافة. بدلاً من أن تكون مقيدة من قبل رئيس أو بيروقراطي، توفّر الاشتراكية الديموقراطية وسيلة للناس للتنظيم الذاتي سعياً وراء مسعى جماعي. إن العمل بهذه الطريقة المتكافئة واللامركزية والتعاونية يسمح للديناميكية الإبداعية للبشر أن يتم تسخيرها استجابة لبعض أكبر التحديات التي واجهها العالم على الإطلاق. تسمح الاشتراكية الديموقراطية للناس بالسيطرة على مجتمعاتهم وأماكن عملهم وحياتهم، فهي تتيح للناس أن يجتمعوا لبناء عالم أفضل.

* من كتاب «كيف نخلّص العالم من الأمولة»