التفكير بتحديث البنية القانونيّة لمصرف لبنان أمر لا تفرضه فقط النقاشات الدائرة حالياً حول عدد من القضايا مثل الفجوة المالية الضخمة بين موجوداته ومطلوباته بالعملات الأجنبية، والعراقيل المثارة أمام التّدقيق الجنائي في حساباته وعمليّاته، والمنازعات القضائية المرفوعة بوجه حاكمه والتي يرى فيها الأخير أنها من دون أيّ سند قانوني وتمثّل افتراء يرمي إلى تحميله ارتكابات وانحرافات مسؤولين آخرين… بل تفرضه ضرورة الأخذ بـ«معايير حسن الإدارة» التي اعتُمدت بعد ثلاث عقود من إنشاء مصرف لبنان من قبل الـOECD بالنسبة للمؤسّسات العامة عام 1998، وفي ما خصّ المؤسّسات الخاصة عام 1999. وهذه المعايير تلخّص مفهوم «الإدارة الجيدة» بأنها «تحقيق أهداف ومهام المؤسّسة بفعاليّة وكفاية من دون سوء استعمال». كما يمكن الاستئناس، في ما خص إرساء الإدارة المثلى في مصرف لبنان، بما وضعته لجنة Basel من معايير بخصوص تعزيز «الإدارة الجيدة في المصارف»، وذلك لأن المصرف المركزي لا يمكنه مطالبة المصارف بتحقيق «الإدارة الجيدة» بينما قانونه متخلّف عن تحقيق هذا المطلب.إنّ أيّ بحث في الهيكلية الإدارية المثلى لمصرف لبنان يجب أن يتعرّض للأمور الآتية:

* أولاً، الشكل القانوني الأمثل للمصرف
الاقتراح هنا بتحويل مصرف لبنان من شخص معنوي عام له استقلاله الإداري والمالي إلى شركة مساهمة مختلطة تحتفظ الدولة بقسم محدّد من أسهمها، ويعود القسم الآخر الأكبر للأفراد ومؤسّسات القطاع الخاص غير المالي بنسب معيّنة لكلّ منها على غرار ما هو معتمد في عدد من البلدان كسويسرا وبلجيكا وغيرهما. وهذه الصيغة لها حسنات راجحة خصوصاً في الوقت الراهن أهمّها التالي:
- أنّها تسمح بتحقيق إدارة مثلى للمصرف من خلال الفصل بين سلطات القرار والتنفيذ والإشراف والرّقابة الذاتية ولأنها تؤمّن مشاركة شعبية متنوّرة ومسؤولة.
- أنّها تحمي موجودات مصرف لبنان من ضغط السياسيّين لاستعمالها في غير الأهداف المخصّصة لها.
- أنها تعزّز موجودات المصرف عند الضرورة من خلال فتح رأس ماله لتلقّي اكتتابات جديدة.
- أنها توفّر الإمكانية لمشاركة من يرغب من المودعين في عمليات Bail in مقابل الحصول على أسهم أو سندات اسمية مدرّة لعائد ثابت مقبول يمكن التعامل بها إلكترونياً من خلال قيود المصرف، كما هو الأمر بالنسبة للمساهمين في المصرفَين المركزيّين السويسري والبلجيكي. وهذا الأمر يعزّز الانتماء والاهتمام الوطني للّبنانيين بالشأن النقدي كما يُعدّ خطوة لافتةً في درب استعادة الثّقة بعملتهم توطئة لاستعادة ثقة الخارج بها، وأيضاً خطوة في طريق حلّ الأزمة الماليّة الراهنة واستعادة بعض المودعين لحقوقهم.

* ثانياً، التشكيل الأمثل للإدارة العليا
تتكوّن الإدارة العليا لمصرف لبنان حالياً بحسب المادة 17 من قانون النّقد والتسليف من ثلاث مرجعيّات:
- الحاكم يعاونه أربع نوّاب لتأمين الإدارة اليومية للمصرف. ويحدّد الحاكم لكل نائب له، مهمّة الإشراف على مديريّة أو مديريّات معيّنة من المصرف، على أن تبقى للحاكم الكلمة الفصل النهائية.
- مجلس مركزي يتكوّن من الحاكم ونوّابه ومديرَي عام كل من وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتجارة بصفتهما الشخصية. مهمّة هذا المجلس تتأرجح بحسب المادة 33 من قانون النقد والتسليف بين «وضع» سياسات وأنظمة المصرف، و«التذاكر» بأمور الإصدار وعمليات المصرف وطلبات القروض المقدمة من القطاع العام وغيره على أن يختصّ الحاكم لوحده، عملاً بأحكام المادة 26 من قانون النقد والتسليف بصلاحية «تنفيذ» أي قرار يتخذه المجلس المركزي.
- لجنة استشارية لدعم توازن الأفكار والمصالح، خصوصاً مصالح المناطق والقطاعات المهمّشة عند اتخاذ القرار. وتتألف اللجنة من ستة أعضاء بالنظر إلى خبراتهم في المجال المصرفي والتجاري والصناعي والزراعي والتصميم والاقتصاد (توقّف تعيين أعضاء اللّجنة منذ أكثر من أربع عقود واستُبدل بعُرف يقضي بعقد اجتماع دوري بين مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وأركان جمعية المصارف فقط).
هذه البنية هي موضع انتقاد، لأنها أثارت إشكالات عرضها خطياً في إحدى المرّات نواب أحد الحكام أمام رئيس حكومة سابق، وأمام الحاكم المعني، لافتين نظريهما بشكل صريح إلى خطورة الانحراف المشكو منه وكيف أنه يهدّد بخلق إشكالات متنوعة في حال إثارة أي مسؤوليّات وظيفية ذات صلة. فانتهى الأمر بتسوية مؤقّتة اقترحها الحاكم آنذاك لإرضاء نوابه وسقطت بانتهاء ولاية المعنيين.
ومن أهم الأسباب التي تستدعي انتقاد هذا الوضع:
- أنه يقيّم واقعاً يُتخذ فيه القرار ويُنفذ من قبل مرجعية واحدة هي الحاكمية (الحاكم ونوابه) مع رجحان ملحوظ لدور الحاكم، ما يتنافي مع قواعد «الإدارة الجيدة» للـOECD التي تدعو إلى الفصل بين الجهة التي تقرّر وتلك التي تنفّذ، وتلك التي تراقب حسن التقرير والتنفيذ.
- أنه يُثير بذور خشية من ممارسة القيّمين على الأمور في المصرف، شيئاً من المحاباة إزاء طلبات السياسيين، على أمل تجديد الأخيرين، الولاية لهم مع عدم وجود سقف محدّد لتجديد هذه الولاية، وبالنسبة للحاكم إلى دعم ترشيحه لمناصب عليا في مقدمها رئاسة الجمهورية، خصوصاً أن تفسيرات معيّنة للمادة 49 من الدستور تفتي بجواز هذا الترشيح. فالمادة 49 تنصّ على أنه لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد. لكن الدكتور حسان رفعت، المدير السابق لوزارة العدل، خلُص في دراسة نشرت باللغة الفرنسية في L'Orient-Le Jour، إلى أنّ حاكم مصرف لبنان لا تنطبق عليه المادة 49 من الدستور وحجته أن الحاكم:
- ليس قاضياً.
- وهو ليس موظفاً تابعاً لشخصية معنوية في الحق العام، مثله مثل رئيس الجامعة اللبنانية.
- وهو ليس خاضعاً لأحكام مجلس الخدمة المدنية، ولا لإجراءات التفتيش المركزي، ولا للتراتبية في الوظيفة، وقراراته لا تخضع للمساءلة القضائية والإدارية التي يخضع لها الموظفون.
- وسلطته مطلقة لا تتوفّر لأي موظف فئة أولى، كالمدير العام مثلاً.
في المقابل، ظهر رأي معاكس لرأي الدكتور رفعت يرى خضوع الحاكم للمادة 49، وحجّته أن الأخير يترأس شخصاً معنوياً من القطاع العام كما ثلاث هيئات قضائية: الهيئة المصرفية العليا، هيئة التحقيق الخاصة، والأسواق المالية.
محاباة السياسيّين، والتّمركز كما الجمع في الصلاحيات، واللّبس الذي يثيره الأمران الأخيران في تحديد المسؤوليات، تنتفي في حال (أ) تعديل نص المادة 49 لجهة إضافة الحاكم إلى الأشخاص المعدّدين فيها تماشياً مع الحظر المنصوص في المادة 23 من قانون النقد والتسليف والقاضي بعدم جواز مشاركة أعضاء الحاكمية في إدارة أي مؤسّسة مصرفية ومالية قبل انقضاء سنتين من انتهاء ولايتهم. و(ب) الأخذ بالخيار السويسري القاضي بتحويل مصرف لبنان إلى شركة مساهمة مختلطة تمارس فيها «الإدارة الجيدة» بأفضل مستويات معايير الـOECD عبر الفصل بين كل من مرجعيات التقرير والتنفيذ والرقابة ومن خلال تشارك بنّاء بين الحكومة ومريتوقراط متنورين (من أصحاب الكفاءات العلمية والخبرات المثبتة والاستقلالية والمصداقية) ومواطنون رغبوا التوظيف في رأسمال مصرفهم الوطني وزيادته.
آلية الترشيح والتعيين في هيئتَي التقرير والتنفيذ في مصرف لبنان، في حال قبول الاقتراح بتحويله إلى شركة مساهمة مختلطة، ستتحول دعماً لاستقلالية المصرف ولتأمين وصول الأشخاص الأكفاء لتحقيق أهدافه. والشروط المطلوبة عادة في اختيار هؤلاء متنوعة:
- منها ما يتعلّق بالكفاءة العلمية والخبرة المهنية في مجالات ذات صلة بالمصارف والمال والاقتصاد والقانون والمحاسبة والتجارة وغيره.
- ومنها ما يتعلق بتحديد السن أو بتمثيل للأنشطة والمناطق أو بتضارب المصالح من مالية وسياسية وغيرها...
- ومنها ما يتعلق بالمؤهّلات المعنوية (استقلالية في التفكير، مصداقية، عدم ارتكاب جريمة معاقب عليها بالحبس، عدم إعلان إفلاس أو التهرب من الضريبة أو مخالفة القوانين والأنظمة…).
المبدأ المعتمد في الدول الأوروبية المتقدّمة، أن تكون التسمية والتعيين منوطان بمرجعين: واحد يسمي، والآخر يعيّن، شرط أن يكون هناك توازن حقيقي بين المرجعين السابقين، الأمر غير القائم في لبنان. فالمادة 18 من قانون النقد والتسليف تُشير إلى أن تعيين الحاكم يتمّ بقرار يُتخذ في مجلس الوزراء بناء لاقتراح وزير المالية، أي ضمناً وعملياً بناءً لرغبة المرجعية السياسية التي كانت وراء تسمية الوزير في الحكومة. أما بالنسبة لنواب الحاكم، فالأمر يتطلّب الوقوف على رأي الأخير مسبقاً توسلاً لتحقيق الانسجام في العمل.
والحلّ الأمثل في هذا المضمار هو أن يأتي اقتراح أسماء المرشحين بنتيجة اجتماع مشترك للجان نيابية ثلاث: المال والموازنة، الاقتصاد والتجارة، الإدارة والعدل، وتشارك فيه شخصيات جامعية وفكرية محلية في مجالات ذات صلة: النقد والمصارف المركزية والقانون والاقتصاد والمال وغيره... ويتم في هذا الاجتماع الاستماع إلى آراء وأفكار المرشحين للحاكمية ومناقشتها. والأفضل أن يحصل ذلك مع نقل تلفزيوني مباشر يمكّن اللبنانيين من التعرّف على المرشّحين لتولّي مهمّة تحقيق استقرار الأسعار في بلدهم وأفكارهم وتصوّراتهم في هذا المضمار. ويُرفع، بنتيجة الاجتماع، تقرير إلى مجلس الوزراء يتضمّن أسماء 3 مرشحين لكل عضو من الحاكمية وواقعهم وتوجّهاتهم ليُصار إلى اختيار واحد منهم. هذه الآلية تقدّم أفضل ردّ لمنتقدي احتكار السلطة التنفيذية لتعيين المسؤولين عن أهم أمر يعني اللبنانيين وهو النقد كما تقدم، أفضل توازن بين مرجعية الترشيح ومرجعية التعيين.
يُتّخذ القرار ويُنفّذ من قبل الحاكم ونوّابه مع رجحان ملحوظ للحاكم وهذا يتنافى مع قواعد «الإدارة الجيدة» للـOECD


والرجوع إلى المؤلّفات التي تُعنى بتأريخ شؤون النقد والمصارف المركزية وأهمها ما كتبه Rene Sedillot وJean Pierre Patat يظهر أن النجاحات غالباً ما كانت تتحقّق على أيدي حكام مجلّين في القانون والاقتصاد، وليس ممن أتوا من خلفية تتعامل بالربح كالمصرفيين والوسطاء في أسواق المال وغيرهم...
أخيراً وليس آخراً، من المهم لفت الانتباه، في حال الاقتناع بأهمية إعادة هيكلة مصرف لبنان من خلال تعديل البنية القانونية التي يعمل من خلالها، إلى ضرورة تعديل المادة 151 من قانون النقد والتسليف. فهذه المادة تنصّ حالياً على إلزام كل من انتمى إلى مصرف لبنان بكتم السرّ المنشأ بقانون 3 أيلول 1956. وقد أوضح المرحوم جوزيف أوغورليان الذي عمل على رأس الفريق الذي وضع مشروع قانون النقد والتسليف وأسبابه الموجبة، وكان أول نائب لأول حاكم لمصرف لبنان في الصفحة 217 من كتابه المعنون Une Monnaie Un Etat Histoire de La Monnaie Libanaise، أنّ هذه الفقرة وُجدت لطمأنة المودعين على أن السرّ الذي يسيّج حساباتهم المصرفية لن يتعرّض لأي خرق من قبل مصرف لبنان، وعلى الأخص من مديرية الرقابة على المصارف لديه بعد إنشائه. ما يعني أنه كان يتعيّن بعد فصل الرقابة على المصارف من مهام مصرف لبنان، تعديل الأمور في اتجاه إلزام المنتمين إلى مصرف لبنان بسريّة أخرى من نوع secret de fonction كما يسمّيها القانونيّون في سويسرا، تمييزاً لها عن السرية المصرفية (المهنية) secret professionnel. والفرق بين الاثنتين أن الأولى تُرفع بموافقة إدارة المصرف المركزي والثانية بموافقة المودع/ العميل بحسب البروفسور Leo Schurmann نائب رئيس الإدارة العامة في المصرف الوطني السويسري في تعليقه على المادة 58 من قانون المصرف الخاصة بالسرية في الصفحة 175 من مؤلفه القيم La Loi sur La Banque Nationale (Suisse Et ses Dispositions D execution Textes et Commentaires.
إنّ التعديل المحكي عنه لو حصل في حينه، لكان وفّر على اللبنانيّين الجدل المستمر طوال سنتين حول عرقلة السرّ المصرفي المنصوص عليه في المادة 151 من قانون النقد والتسليف لعمليات التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.

* محاضر في قانونَي النقد والمصارف المركزية