الحلول المطروحة اليوم، في ما يخصّ التّعامل مع الودائع المهدورة، تضع المجتمع بين السيّء والأسوأ. الخيار يقع بين أيّ من فئات الشعب سيتحمّل السيّء، وأيّ منها سيتحمّل الأسوأ. فما يُطرح لا يزال في إطار لا يأخذ في الحسبان الاعتراف بالخسائر التي حصلت في القطاع على مدى العقود الثلاثة الماضية. وما يمضي به اليوم حاكم مصرف لبنان مستبقاً أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، هو خيار «الليلرة» أو التحويل القسري لودائع الدولار إلى الليرة، مع ما يعنيه ذلك من إصدارات إضافية في الكتلة النقدية بالليرة، وتغذية الدورة التضخمية الناتجة من تلك العملية. هذا الخيار أصبح أوضح في تعميم مصرف لبنان الأخير الذي قضى برفع سعر صرف الدولار المصرفي من 3900 إلى 8000 ليرة مقابل الدولار. وقد تبع هذا القرار، مباشرةً، ارتفاعاً سريعاً وكبيراً نسبياً، في سعر صرف الدولار في السوق الموازية. هكذا يوضع الاقتصاد اللّبناني في مواجهة المودعين، عبر خيارات موجعة لكلّ الأطراف وإن كانت تضرب شرائح محدّدة أكثر من غيرها.
عمر شام ــ تركيا

الخيارات المطروحة
لا بدّ من التّعامل مع هذا الواقع على حقيقته، وأن تجري مصارحة المواطنين بحقيقة أن هناك عدّة خيارات أو سيناريوهات قد يتمّ اللّجوء إليها. وفي ما يلي أبرز الخيارات المطروحة من قبل صانعي السياسات اليوم:
- شطب الودائع، أو شطب جزء منها، وهي خطوة لا مفرّ منها. بمعنى أوضح، تحاول هذه العملية التعامل مع الخسائر بشكل واقعي. أي أن هناك أموالاً أودعت في المصارف وتم صرفها بطرق مختلفة وتبدّدت. فمن الطبيعي، في نهاية الأمر، أنه يتوجّب على من كان مؤتمناً على هذه الأموال الاعتراف لأصحابها بأنها لم تعد موجودة. هذا الخيار يتهرّب منه اليوم معظم صنّاع القرار في لبنان. وعندما طُرح في الخطّة المالية التي أعدّتها الحكومة السابقة، حكومة حسان دياب، تعرّض هذا الخيار لهجوم شرس إعلامياً وسياسياً تحت شعارات شعبوية مثل «حماية أموال المودعين» التي أُهدرت أصلاً. إن التهرّب من هذه الخطوة يزيد الخسائر يوماً بعد يوم، أي الخسائر في الودائع، والخسائر التي يتكبدّها الاقتصاد والمجتمع. لأن هذه الخطوة هي جزء حتمي من عملية تسوية أوضاع القطاع المصرفي، التي لا يمكن من دونها إعادة المصارف إلى عملها الطبيعي في العملية الاقتصادية، وهو دور لا يمكن لأي اقتصاد أن يعمل بشكل «صحّي» من دونه. وهنا من المهم أن تكون أولوية الاختيار من نصيب الاقتصاد، وبالتالي المجتمع كلّه، بدلاً من طرح الشعارات الوهمية.
لكن هذا الخيار لا يمكن أن يُطبّق بشكل متساوٍ على جميع المودعين. هذا الأمر يتعلّق بقدرة تحمّل كل فئة من المودعين للخسائر التي ستقع على أفرادها، فلا يمكن التعامل مع من يملك حساباً يحتوي على أكثر من 100 مليون دولار بنفس الطريقة التي يتم التعامل فيها مع من يملك حساباً يحتوي على أقل من 10 آلاف دولار. لأن قدرة تحمّل الأوّل للخسارة أكبر بكثير من قدرة تحمّل الثاني. ولا يمكن التعامل مع شخص متقاعد كان كل اعتماده في آخر سنوات عمره على تعويضه الذي وضعه في حساب مصرفي، أو على شكل معاش تقاعدي من أحد صناديق التقاعد التي خسرت أموالها في المصارف، مثل شاب يتلقّى راتباً شهرياً قد يكون قادراً على تعويض ما خسره من وديعته.
الحلول المطروحة محصورة بشطب الودائع أو تحويلها إلى اللّيرة أو تحميل الخسائر للدولة


- «الليلرة». وهو خيار يتعلّق بتحويل ودائع الدولار إلى ليرة، أي تسديدها كلّها باللّيرة. هو خيار غير واقعي. وحتى إذا تحوّل إلى واقع، فنتائجه ستكون كارثية. لنفترض أن ما تبقى اليوم من ودائع بالدولار هو 105 مليارات دولار، وأنها ستُدفع على أساس 8000 ليرة للدولار الواحد، بحسب التعميم الأخير لحاكم مصرف لبنان. فهذا يعني خلق 840 ألف مليار ليرة جديدة على المدى الطويل. إن خلق هذا الحجم من الليرات، أو نصفه أو ربعه أو ثمنه، هو أمر كارثي بالنسبة لسعر صرف العملة الوطنية. ضخّ المزيد من الليرات هو عامل مضخّم لسعر الصرف في السوق الموازية، وهذا الأمر أثبتته التجربة، كما أنه أمر تُحذّر منه نظريات اقتصادية عدّة، أهمّها «النظرية الكميّة للمال». بشكل عام، إن ضخّ الليرات الذي لا يقابله أي زيادة في كتلة الدولار في السوق، أو زيادة في الإنتاج تخلق قيمة لهذه الأموال التي تم ضخّها، لا يمكن أن تكون إلا عاملاً يرفع من سعر الدولار مقابل الليرة. ففي هذه الحالة تصبّ الليرات المطبوعة في قناة الطلب على الدولار في السوق الموازية، سواء عبر شراء الدولار بهدف حفظ القيمة أو عبر الاستهلاك الذي يتحوّل إلى شراء دولارات للاستيراد في نهاية الأمر.
إن ارتفاع سعر الصرف له انعكاس يهزّ الاقتصاد والمجتمع كلّه. من أبرز تداعياته التضخّم الذي يطرأ على أسعار السلع، علماً بأن الجزء الأغلب من السلع المستهلكة في لبنان هي سلع مستوردة، أي أنها مسعّرة بالدولار، لذا إن أي تحرّك في سعر الدولار ينعكس مباشرةً على هذه السلع. كما أن ارتفاع سعر الصرف بشكل مستمر، بسبب الضخّ اللامتناهي لليرة في السوق، يخلق حالة من انعدام الاستقرار في الاقتصاد ويحول دون أي تقدّم فيه. فالتقلّب المستمرّ في سعر الصرف ينعكس سلباً على جميع التعاملات في الاقتصاد ويرفع مخاطر الخسارة، وهو ما يُبعد أي استثمارات قد تأتي من الخارج. فلا يمكن التخطيط لاستقرار اقتصادي من دون استقرار في سعر صرف العملة المحلية.
ومن ناحية أخرى، إن لـ«الليلرة» انعكاس على المودعين أيضاً. فهم، ومن خلال استلام ودائعهم بالليرة، يتلقّون اقتطاعاً من ودائعهم، أو ما يُعرف بالـ«هيركات». لأن استلام الودائع بالليرة، بالطريقة المطروحة اليوم، يأتي بحسب سعر صرفٍ أقل من السعر الموجود في السوق، أي أنهم يتلقون ودائعهم بقيمة أقل من قيمتها الدفترية، وهذا هو تعريف الـ«هيركات».
- إعطاء المودعين أسهماً في المصارف التي أودعوا أموالهم فيها. هذا هو أحد الخيارات المطروحة، وهو طُرح في خطة دياب وتعرض لانتقادات واسعة من نفس الأطراف التي هاجمت طرح الاقتطاع من الودائع. هذا الطرح يعني فعلياً خسارة أصحاب المصارف لرؤوس أموالهم وحلول المودعين مساهمين أساسيّين في ملكية هذه المصارف. فمثلاً، إذا كان رأس مال المصرف حالياً مليار دولار، وصاحب المصرف يملك 100% منه، سيتضاعف رأس المال بعد تحويل الودائع إلى أسهم في هذا المصرف، وعلى افتراض أنه سيبلغ 5 مليارات فإن حصّة المالك الأساسي التي كانت 100% ستبلغ 20%. وفي المقابل، سيكون بالنسبة للمودعين خياراً سيئاً لأنه لا يوجد شيء يضمن أن تكون الأسهم المعطاة لهم بنفس قيمة ودائعهم. ففي نهاية الأمر إن هذه المصارف التي سيأخذون أسهماً فيها، هي مصارف «مفلسة» واقعياً. لذا، إن هذا الخيار لا يمكن أن يُطبق بشكل متساوٍ على جميع المودعين، لأن تحمّل الخسائر، كما ذُكر سابقاً، يختلف بين مودع وآخر.
- الإنقاذ من قبل الدولة، أو ما يسمى «bail-out»، هو الخيار المحبّذ لأصحاب المصارف وحزبهم السياسي العابر للأحزاب والطوائف. هذا الخيار يعني فعلياً تحميل «الدولة» خسائر المصارف ومصرف لبنان. وبما أن الدولة اللبنانية لا تملك الأموال لتقوم بعملية إنقاذ للمصارف من خسائرها الضخمة، فستتم هذه العملية عبر بيع موجودات وأملاك وأصول الدولة، حتى لو تم التحايل على هذا الأمر عن طريق إنشاء صناديق «الاستثمار في أصول الدولة» أو غيرها. ففي النتيجة سيتم توظيف المقدرات العامّة لتغطية خسائر في القطاع الخاص. هذا الخيار ظالم بحقّ المجتمع، لأن ما تحمّله من خسائر في السنتين الأخيرتين هي خسائر آنية يمكن تعويضها في المستقبل، إنّما تحميل المجتمع الخسائر عن طريق بيع أصول الدولة، وهي ملك للشعب اللبناني، هو تحميل الخسائر للأجيال المقبلة.

أي استعمالات للاحتياطات؟
بعيداً من الخيارات المطروحة، من المهم الإقرار بأحقية جزء من المودعين بأخذ ودائعهم بالدولار الحقيقي «الفريش». هنا نعود إلى مسألة الاحتياطات ليس بوصفها تمثّل ودائع الناس إنما هي مدّخرات المجتمع التي يحفظها المصرف المركزي والتي تُقارن في كلّ الأدبيّات الرأسمالية بعدد أشهر الاستيراد وبمدى كفايتها لتغطية السلع المستودرة. الاحتياطات بهذا المعنى، لا يمكن اعتبارها ودائع، إنما يمكن أن يكون ردّ بعض الودائع منها. يجب أولاً تحديد هذه الاحتياطات، ثم التخطيط لاستعمالها بعناية شديدة. كان يُفترض أن يتم هذا الأمر قبل صدور التعميم 530 الذي يحدّد تمويل المحروقات والقمح والأدوية على سعر صرف 1520 ليرة مقابل الدولار، وكان يفترض أيضاً أن تحصر استعمالات الاحتياط بمدفوعات واضحة ضرورية جداً للدولة والاقتصاد والمجتمع، ويمكن بعد دراسة الأمر أن يوزّع بعضاً من هذه الاحتياطات على المودعين لتحقيق أمور عديدة من بينها ضخّ الدولارات في السوق وكبح تدهور الليرة، ومنح بعضاً من الحقوق للمودعين، والتمهيد لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي بدلاً من زيادة منسوب انعدامها.
على أي حال، يمكن استخدام الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى المركزي لتسديد عدد من الحسابات الصغيرة. الدراسة هنا تكمن في تحديد ما هو معيار الحسابات الصغيرة، وكم ستكلّف هذه العملية من الدولارات الباقية. هذا الخيار يجب أن يكون مطروحاً. كما أن استعمال الخيارات المطروحة سابقاً، باستثناء خيار بيع أصول الدولة، يمكن أن ينتج حلاً متكاملاً لأزمة الودائع. من الطبيعي أن تكون هناك خسائر، لكن تحميلها يجب أن يكون بشكل متناسب مع قدرة كل فئة من المودعين على التحمّل. وهنا لا يكون تقسيم المودعين إلى فئات عبر بُعدٍ واحد، أي بحجم الودائع فقط، بل يجب أن يكون تقسيماً متعدد الأبعاد، يراعي الحالة الوظيفية والعمرية، فمثلاً يكون التعامل مع المتقاعدين مختلف عن التعامل مع العاملين المنتجين. ومن المؤكّد أن أي حل لأزمة المودعين لا يمكن إلا أن يكون جزءاً من خطة شاملة، لا تنهض فقط بالقطاع المالي، بل بالاقتصاد ككل، بحيث يُؤمّن بيئة اقتصادية تتيح لمتلقّي الخسائر إمكانية تعويض خسائره.