بدلاً من أن يكون النّقل المشترك خياراً جديّاً وفعّالاً وسط هذه الأزمة، شهدنا انهياره وعجزه عن تأمين تنقّلات من كان يعتمد عليه سابقاً. في إحصاء أجريناه مطلع 2021، تبيّن أن مستخدماً واحداً من أصل خمسة كانوا يستخدمون النّقل المشترك قبل الأزمة، تحوّل إلى استخدام وسيلة نقل أخرى غالباً هي السيارة، بعد الأزمة. والتوقّعات أن يكون التخلّي عن النقل المشترك، قد ازداد بشكل أكبر مع تفاقم الأزمة وارتفاع كلفة النقل وسط غياب أيّ خطة أو رؤية للقطاع أو حتى مشروع دعم جدّي لانتشاله من الكارثة.وراء كلّ ما يُمكن أن يُقال عن الأزمة وأثرها على قطاع النقل، ثمّة ما لم يتم التطرّق إليه: الأثر الاجتماعي لضعف خدمات النقل المشترك. لا بد من شرح بسيط للدور الاجتماعي للنقل المشترك بشكل عام، والحالة اللّبنانية بشكل خاص.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

وسيلة انصهار اجتماعي
التنقّل ليس فقط حاجة تقنيّة بل يُنظر إليه باعتباره معيار الوصول إلى العمل والخدمات وموارد الحياة الاجتماعية (زيارات، تسلية، تسوّق، ترفيه...). قدرة الوصول هذه، تختلف بين فرد وآخر، وبين جماعة وأخرى، تبعاً لعوامل أبرزها جغرافي لأن سكان المدن الذين يتمتّعون ببنية تحتيّة أعلى من غيرهم، ينالون حظّاً أوفر من سكّان الأطراف التي تفتقر نسبياً للخدمات وفرص العمل وأحياناً الكثافة السكانية. يُضاف إلى ذلك، طبيعة وسيلة النقل. فمستخدمو السيارات لديهم سهولة أعلى وسرعة وصول عالية مقارنة مع مستخدمي باقي وسائل النقل. وهذا ما تعمل على تقليصه بعض المدن، لا سيّما في أوروبا، إذ تسعى لسحب هذه الأفضليّة من السيارة وتحويلها إلى باقي الوسائل، خاصة في المدن، نظراً لما يترتّب على استعمال السيارة من أكلاف مجتمعيّة واقتصادية باهظة.
النقل المشترك يستجيب أساساً لحاجة التنقل لكن لديه علاقة واضحة مع البنية التحتية والتنظيم المدني، أي أنه ينعكس بشكل أساسي على العلاقات الإنسانية والمجتمعية الفردية والجماعية. وفي ألف باء الحديث عن دور النقل المشترك، يبرز عامل الاستدامة ومن أبرز ركائزه العدالة الاجتماعية التي يفترض أن يؤمّنها أي نظام نقل مشترك. تتمثّل هذه العدالة في إتاحة استعمال مركبات النقل المشترك، والاستفادة من خدماته لكلّ أفراد وفئات وطبقات المجتمع ومن كافة القطاعات والمشاغل بنفس المستوى والكلفة.
بمعنى أوضح، من خصائص النقل المشترك أن يكون الوصول إليه سهلاً، وأن يكون استعماله متوافراً دائماً للجميع بأسعار مقبولة. يسمح هذا الأمر للقطاع في لعب دوره الأقصى لتسهيل الوصول إلى أماكن العمل، الخدمات الأساسية، الاستهلاك وسواها، بطريقة عادلة. يجب أن يضمن النقل المشترك تنقّل الجميع في كل الظروف، لكن مع التشديد على ضمان تنقّل الفئات المجتمعيّة الأضعف والأفقر، ولا سيّما أن لا قدرة لهم على الوصول واستعمال السيارة (قاصرين، عجزة، ذوي الهمم، من لا يملك سيارة، من ليس معه دفتر سوق، السكّان خارج المدن وخاصة الأطراف...). بالإضافة إلى ذلك، أن وجود نقل مشترك فعّال، مع ما يتوجّب عليه ذلك من مرافق حضريّة وبنى تحتية مرافقة، يسهم أساساً في إعادة تنظيم الأراضي والحيّز العام، خاصة في المدن. فعلى سبيل المثال، إن 85% من مساحة بيروت هي مساحة حصريّة للسيارات وحدها.
وفق مفهوم أوسع، يعزّز النقل المشترك الأشكال المتعدّدة للعلاقات الاجتماعية، فضلاً عن تنمية المهارات والتوجيه الاجتماعي والمكاني. يجعل الوصول إلى مختلف الهياكل الاجتماعية أو المجتمعية أو السياسية أو المنظمات ممكناً، كما يسهّل أشكال المشاركة والانتماء للمجتمع. وتساعد وسائل النقل العام في تعزيز الانصهار المجتمعي بين المناطق والطبقات. وهذا ينطبق على كل الدول الغنية أو الفقيرة، إذ ثبُت أن وجود نقل عام فعّال يلعب دوراً مفصلياً في تعزيز ربط المناطق والفئات المجتمعيّة ببعضها لا سيما أنه يُتيح بشكل عادل لكل أفراد المجتمع التنقل سويّة باختلاف مناطقهم واختلافاتهم العقائدية أو حتى الإثنية أحياناً (تجربة بلجيكا أو السنغال أو أثيوبيا مثلاً).
يُظهر تحليل التنقّلات اليوميّة في بيروت عام 1994 أن الغالبية العظمى من التنقّلات في بيروت كانت تجري ضمن المنطقة الواحدة (غربيّة أو شرقية) نفسها، 10% منها بين المنطقتَين


بالإضافة إلى ذلك، يُسهم النّقل المشترك في التّفاعل بين مستخدميه. تبيّن دراسات علم النفس والاجتماع المرتبطة بالنقل، أن استعمال النقل المشترك بشكل متكرّر وبوتيرة عالية، يُسهم في زيادة الثّقة بالنفس، الاستقلالية، شعور بالوجود والانتماء كما بالألفة المجتمعية، ويُساعد الفرد على أن يكون أكثر انفتاحاً، وتكوين علاقة اجتماعية صحيّة أكثر (وهو بعكس ما تُسهم به السيارة من عزلة مجتمعية لمستخدميها أثناء تنقلاتهم). وبشكل أبعد، في بعض الحالات قد يشكّل النقل المشترك، بالنسبة لبعض الأشخاص المعزولين والمهمّشين اجتماعياً، إحدى الوسائل لعيش التجربة المجتمعية والوصول إلى الأنشطة أو الخدمات بشكل أوسع.

في لبنان: بالكاد وسيلة نقل
رغم تطوّر قطاع النقل في العالم وسعي الدول للخروج بشكل تدريجي، ولو خجول، من الاعتماد على السيارة، والتحوّل نحو بدائلها وأبرزها النقل المشترك، لا نزال في لبنان نهمّش هذا القطاع ونفقده كل ميزاته التفاضلية ما جعله دوماً عاجزاً عن أداء أيّ من الأدوار المجتمعية (والاقتصادية) المذكورة آنفاً.
في لبنان، النقل المشترك يفتقد منذ نهاية الحرب لدوره المجتمعي ويقتصر غالباً على دوره التّقني في إيصال الناس من نقطة (أ) إلى نقطة (ب). وطبقاً لإحصاء أجريناه في 2018، فهو مستخدم غالباً في ظل غياب البدائل، وليس بسبب خصائص أخرى مثل الراحة، الاستقلالية، السرعة. ولم يلعب النقل المشترك يوماً، دوره كعامل مساهم للدمج الاجتماعي، إنما بالعكس أسهم في تعزيز التفرقة المجتمعية بين مستخدمي النقل المشترك وسائر مستخدمي النقل وخصوصاً السيارات الخاصة.
بيّنت دراسات في لبنان أنّ النقل المشترك (لا سيما الجماعي منه) أصبح في مكان ما وصمة مجتمعيّة وطبقيّة باعتباره مخصّصٌ لفئات معيّنة، وللطبقة الفقيرة حصراً، كما لليد العاملة غير المؤهّلة وخصوصاً الأجنبيّة، وأنّ الخدمة تقتصر على المناطق الفقيرة. في المقابل، إذا تغاضينا عن عدم صحّة ذلك تماماً وسرنا بهذه السردية، فإن ذلك يُحسب للنقل المشترك الشعبي لا عليه، ولا يعيبه بشيء إنما بالعكس يُعطيه ميزة أنه من القطاعات القليلة في البلد التي تعبّر عن هذه الفئات المهمّشة. وهذه النظرة لا تقتصر على مستخدمي النقل المشترك، بل تتعدّاها إلى السائقين مشغلّي النقل المشترك بوصفهم «فقراء» و«زعران» و«متحرّشين» و«غير نظاميّين»... وذلك لا يأتي من النظرة للنقل المشترك (أو أي خدمة عامة أخرى) بقدر ما يأتي من ترسّبات ثقافية ومجتمعية في لبنان.
غالباً ما يكون التوزيع المناطقي لخدمات النقل المشترك في لبنان موصوماً بطابع طائفي أو مناطقي، وإن كانت خطوط خدماته تعبر مختلف المناطق. وللأسف، يخضع تنظيم النقل المشترك الشعبي في العديد من المناطق، لسيطرة العائلات أو الأحزاب أو حتى أفراد محظيّين، ومؤسّسات، وبلديات تابعة لها، ويصل الأمر أحياناً إلى حدّ وصم بعض الخطوط بطابع سياسي - طائفي - مناطقي.
هذا أثر تلقائي للطائفية المقيتة في لبنان، لكن نتائجها على النقل المشترك ليست بهذه البساطة. فقد يتجنّب البعض استخدام مركبات النقل المشترك بسبب الاختلاف الطائفي أو المناطقي أو نقاط تمركزها. يُضاف إلى ذلك تحديد خطوط النقل المشترك ضمن مناطق متجانسة طائفياً، وهو ما يسهم بأن يكون مستخدمي المركبات من لون طائفي ومناطقي واحد، وهو ما يشكّل عاملاً إضافياً في الشرخ المجتمعي بين مختلف «المجتمعات» في لبنان.
وفي قطاع النقل اللبناني لا تقتصر ردات الفعل هذه على استخدام النقل المشترك فقط، إنما تعني عادات التنقل بشكل أوسع منذ نهاية الحرب؛ يُظهر تحليل التنقلات اليومية في بيروت عام 1994 أن الغالبية العظمى من التنقلات في بيروت كانت تجري ضمن المنطقة الواحدة (غربية أو شرقية) نفسها، 10% منها بالكاد تجري بين المنطقتين (راجع أطلس لبنان 2007). وإن كانت هذه الحدّة قد خفّت مع الوقت، إلا أنه لا يمكن إنكار وجودها اليوم بشكل أو بآخر لا سيّما مع وجود شبكة طرقات تلعب دور الفاصل بين الناس طائفياً (خطّ صيدا القديمة، بشارة الخوري، البربير، المتحف، أوتوستراد الجنوب، طريق البقاع...) أو طبقياً (الجناح، بعض شوارع ضواحي بيروت...).
التفرقة المجتمعيّة لمستخدمي النقل المشترك، لا تقتصر على لبنان، بل كانت موجودة في غالبية الدول الغنية، خصوصاً ذات الاعتماد المفرط على السيارة. وصلت هذه التفرقة إلى تصنيف مستخدمي النقل المشترك والتمييز في ما بينهم. فعلى سبيل المثال، تكرّس في أميركا أفضلية الاستعمال والجلوس للبيض على أصحاب البشرة السمراء - وانتهى الأمر بـ«ثورة» أطلقتها روزا باركس المناضلة من أصول أفريقيّة التي رفضت في الأول من كانون الأول 1955 طلب سائق الحافلة التخلّي عن مقعدها لراكب أبيض البشرة في مدينة مونتغمري. رأينا أمثلة مشابهة عبر تخصيص مقاعد محدّدة للعمال (خاصة الأجانب) أو للرجال والنساء أو الأفراد والعائلات في بعض شبكات النقل المشترك في دول خليجية، أو الفصل الطبقي في أولى أنظمة قطارات الأنفاق في باريس ولندن في نهاية القرن التاسع عشر وانتقلت عدواه جزئياً إلى لبنان في الترامواي مع الدرجة الأولى (البريمو)، والدرجة الثانية (هنا الحديث حصراً على النقل المشترك الحضري ضمن المدن لا عن التنقل بين المدن وذات المسافات البعيدة في القطار أو الطائرات حيث لا تزال توجد درجات أولى، ثانية وثالثة في أغلب الأنظمة). كما لعب النقل المشترك، أحياناً، أدواراً سياسية أكبر بكونه أداة إقصاء اجتماعي كلّي لبعض مجموعات السكان، أو أداة تحكّم بتوزيع موارد على غرار ما حصل خلال فترة الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبية وعمليات الإقصاء الاجتماعي - المكاني للسكان في حينها.
في النهاية، من الضروري الالتفات إلى أن ما يصيب النقل المشترك من ضعف في الخدمات وفقدان لدوره المجتمعي في لبنان لا يتحمل مسؤوليّته مشغّلو هذا القطاع من سائقي حافلات وفانات وسيارات أجرة. هؤلاء مظلومون بقدر ما مستخدمو النقل المشترك مظلومين. والفئتان ليستا سوى ضحايا لمسخ الدولة الذي يحكم لبنان ويهدّد كل قطاعاته. المسؤولية الأولى والأخيرة لكل هذه الصعوبات تقع على عاتق النظام المهترئ، لا على من اختار النقل المشترك كوسيلة عيش أو وسيلة نقل في لبنان. بالإضافة إلى ذلك يجب التشديد على أنه لا يمكن لأي سياسة عامة أن تستجيب بشكل فعّال لقضايا التنقل لجميع السكان إذا لم تدرك الجهات الفاعلة في تخطيط المدن والنقل والمجتمع والاقتصاد الحاجة إلى العمل معاً. ولا يمكن لأي حلّ أن يكون ذا صلة من دون إجراء تحليل مفصّل للأداء الاجتماعي للمجتمع كلّه. والأكيد أن الحلّ لا يمكن أن يكون مختصراً بمجرّد إيجاد مركبات النقل المشترك وحدها فإيجاد نظام نقل مشترك منظّم وفعّال يجب أن يُستكمل بتنظيم مدني ملائم يخفّف الحاجة للسيارة ويُعزّز الترابط المجتمعي. وهذا ما كنّا نعوّل عليه أن يحصل خلال الأزمة التي نعيشها اليوم. إلّا أنّ لبنان يواصل بيع الأوهام والترقيع إلى حدّ وصلت فيه المطالبة بنقل مشترك، مقتصرة على ربطه بعدم القدرة على الاستمرار باستعمال السيارة وبوصفه وسيلة للفقراء حصراً. وكأن النقل المشترك لا دور له سوى أن يأتي في الأزمات وأن يكون فقط وسيلة بديلة لا أكثر.
*باحث في مجال النقل