من أبرز النماذج عن الفشل الذريع لخصخصة الكهرباء والنتائج التي رافقت هذه العملية، تكمن في بريطانيا حيث تحقّق الشركات أرباحاً تعادل أربعة أضعاف الهامش الذي وضعته السلطات المنظّمة للخصخصة. هذه الخصخصة هي وليدة أفكار «النيبوليبرالية» التي راجت حول العالم في مطلع الستينيات. الخصخصة تُعدّ الفخ المكمّل لعملية التسليع التي يروّج لها أصحاب هذا الفكر. ومنذ ذلك الوقت، راكمت تجارب الخصخصة رصيداً كبيراً في انتشار الفقر وتحفيز البطالة في القطاعات التي أصابتها. فالخدمات العامّة، مثل تزويد السكان بالماء والكهرباء وتقديم الخدمات الصحية وغيرها هي حقوق بشرية مبنية على حاجات يومية أساسية لكل الأفراد، إلا أن النيوليبرالية عزمت على تسليع هذه الـ«أساسيّة» لتدرّ عليها الأرباح. فتحوّلت أنظار القطاع الخاص إلى هذه الخدمات بغية تحسينها في إطار السوق التنافسية، بينما الهدف هو الريع المتأتي منها والمبني على الحاجة إليها.يُشير دايفيد هارفي في كتابه «لمحة تاريخية عن النيوليبرالية» إلى أن من أهم انعكاسات النيوليبرالية في الاقتصادات، العمل على إزالة الضوابط، والخصخصة، وانسحاب الدولة من تقديم أي دعم اجتماعي. فيبقى دور الدولة في هذه الحالة هو الحفاظ على إطار العمل، المذكور، وإدارة الجيش وقوى الأمن والهيكليات القانونية.
لذا، في ظل انتشار هذا النوع من الاقتصاد، يقتصر دور الدولة على المحافظة على سير الأمور فقط، وتكون الخصخصة نتيجة طبيعية للمسار النيوليبرالي الذي تتخذه الدول. فبوجود قطاع خاص «حرّ»، لا حاجة للدولة لتقديم الخدمات للشعوب. ويظهر هذا الدفع النيبوليرالي نحو الخصخصة من خلال ما تفعله مؤسسات التمويل الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليّين. فهذه المؤسسات «تفرض»، بطرق مباشرة وغير مباشرة، تحوّل الدول، التي تتّجه إليها للاستدانة، نحو الخصخصة. وهذه الدول، بطبيعة الحال، تُصنّف دولاً نامية، ما يعني أن المؤسسات النيوليبرالية تستغل حاجة هذه الدول للأموال، من أجل فرض تغييرات على الاقتصاد السياسي فيها.
الفشل في تقديم خدمة الكهرباء بشكل ناجح، في مقابل ارتفاع الأسعار، جعل الاتجاه العام يُناهض فكرة الخصخصة في القطاع


في هذا السياق، نعرض تقريراً صادراً عن الاتحاد النقابي العالمي للعاملين في الخدمات العامة بعنوان «فشل الطاقة». يُشير التقرير إلى أن خدمة الكهرباء «المخصخصة» تعدّ غير فعّالة بطبيعتها، وقد أثبتت فشلها في جعل الخدمة أكثر استقراراً بالنسبة للمستهلكين، وهي أكثر كلفة من خدمة الكهرباء التي يؤمّنها القطاع العام. وبحسب التقرير، إن سياسات الخصخصة في قطاع الكهرباء أدّت إلى ارتفاع فواتير الكهرباء على المستهلكين وإلى تردّي الخدمة وارتفاع ما يسمى «بفقر الطاقة»، أي عدم الحصول على الخدمات الكهربائية. وبدلاً من فتح هذا القطاع على المنافسة التي تؤمّن للمستهلك حرية اختيار ما يستهلكونه، أدت الخصخصة إلى سيطرة الشركات الكبيرة على السوق وحشر المستهلك مع خيار واحد.
إن هذا الفشل في تقديم الخدمة بشكل ناجح، في مقابل ارتفاع الأسعار، جعل الاتجاه العام يُناهض فكرة الخصخصة في قطاع الكهرباء. فبحسب التقرير، شهد عام 2019 موجة كبيرة من إعادة قطاعات الكهرباء إلى كنف البلديات المحليّة، وبلغ عدد الحالات التي سُجلت في هذا المضمار 374 حالة. لكن يُلاحظ أن أغلب هذه الحالات كانت في ألمانيا بحصّة 80% منها. ويؤكّد التقرير أن القطاع الخاص لا يصلح لمسار التحوّل نحو «الطاقة النظيفة» لأن نسبة الأرباح في هذا النوع من إنتاج الطاقة ضئيلة، ومن مصلحة هذا القطاع أن يُبقي على أساليب الإنتاج التقليدية ذات الانبعاثات السامّة.

6 شركات
تسيطر على الكهرباء في بريطانيا


ارتفعت أسعار الكهرباء وتضاعف «فقر الطاقة» في دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا منذ أن اتجهت إلى اتباع مسار الخصخصة في هذا القطاع في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وفي بريطانيا فُقدت 60% من الوظائف في القطاع بين عامي 1990 و2001. واليوم تسيطر ست شركات كبرى على القطاع في المملكة المتحدة، وهي تحقّق أرباحاً تساوي أربعة أضعاف الهامش المقبول به الذي وضعته السلطات التنظيمية، عندما تمّت عملية الخصخصة. في الوقت عينه، ارتفعت أسعار الكهرباء بسرعة تفوق نسب ارتفاع الأجور 8 مرات.
وقد شكّل قطاع الطاقة المخصخص حاجزاً رئيسياً أمام الانتقال العاجل نحو الطاقة المتجدّدة. فانخفض الاستثمار في هذا المجال بشكل حاد في السنوات الماضية نتيجة لإلغاء الدعم.
ويطمح الاتحاد الأوروبي إلى أن تكون أوروبا، بحلول عام 2050، أول قارة «محايدة كربونياً»، وقد أحرز الاتحاد تقدماً بارزاً نحو الانتقال إلى الطاقة المتجددة، مع نشر طاقة الرياح والطاقة الشمسية بشكل واسع. وما جعل هذا الأمر ممكناً هو سياسات الدعم العام والترتيبات التجارية التي تم إجراؤها خارج القواعد الموضوعة لسوق الطاقة الخاص. وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه يخطط لتخصيص ما لا يقل عن 150 مليار يورو، بين عامي 2021 و2027، لتسهيل إزالة تأثير الكاربون. هذا مؤشر أكيد على إعادة دور الجهات الرسمية إلى قطاع الطاقة، وهو عكس اتجاه الخصخصة.

60%
من إنتاج الكهرباء
في الفيلبين بيد 3 شركات

أدّت خصخصة قطاع الكهرباء في الفيلبين خلال عام 2001 إلى فصل عمليات إنتاج الطاقة عن خدمة نقلها وتوزيعها. كما تم تفكيك شركة الكهرباء الوطنية المملوكة للحكومة وجرى بيع أصولها إلى شركات القطاع الخاص. وكان من المفترض أن تؤمن الخصخصة أسعاراً موائمة لأسعار السوق، وهو ما كان من المفترض أن يؤدي إلى زيادة الفعالية وتحويل عبء التكلفة من الدولة إلى القطاع الخاص. إلا أن ما حصل كان ارتفاعاً في الأسعار، حيث أصبحت الفليبين ثاني أغلى بلد فيما يخص أسعار الكهرباء في آسيا، بعد اليابان.

6.3 ساعات يومياً
هو الأحدّ الأقصى لمعدّل ساعات الكهرباء يومياً
في نيجيريا

لقد فشلت سياسة خصخصة الكهرباء في نيجيريا في ضمان إنتاج ثابت للكهرباء. البلد الذي يمتلك أكبر اقتصاد في أفريقيا، وأحد أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم، لا يزال يعاني من نقص كبير في تأمين الطاقة لسكانه. حيث يفتقر ما يقرب من نصف السكان للوصول إلى الشبكة الكهربائية. هذا الأمر يجعل مؤشر استخدام الفرد للكهرباء في نيجيريا في المرتبة الأدنى في العالم، وعلى الرغم من ذلك يدفع النيجيريون أسعاراً مرتفعة جداً ثمناً لفاتورة الكهرباء. والمحظيون، الذين يصلهم التيار الكهربائي، «ينعمون» بمتوسط تغذية يتراوح بين 3.6 و6.3 ساعات يومياً.
خصخصت نيجيريا الكهرباء في تشرين الثاني من عام 2013، وفقد 20 ألف عامل وظائفهم بسبب هذه العملية. وتم تفكيك شركة الطاقة القابضة المملوكة للدولة في نيجيريا وقُسّمت إلى 18 شركة. ومع ذلك، فشل نموذج التوزيع عن طريق الشركات الخاصة فشلاً ذريعاً. فقد فشل هذا القطاع في جذب استثمارات جديدة وبات يعاني من مديونية كبيرة. وقد أدى ذلك إلى نقص في عرض هذه الخدمة، لأن الشركات الخاصة تفتقر إلى السيولة لشراء الطاقة من شركات التوليد.
وفي محاولة لحل هذه المشكلة، تمت مضاعفة أسعار الكهرباء في أيلول 2020، لكن هذا الإجراء لم يحظَ بشعبية كبيرة، بالأخص خلال أزمة كورونا و أدى إلى إضرابات واضطرابات جماعية ضد التقشف والفساد.