بعد كل ما حدث في السنوات الأخيرة في القطاع المصرفي، وبعد إغلاق المصارف أبوابها عشية 17 تشرين، ولأن الحكومة لم تكن قادرة على رسم صورة واضحة عن حسابات مصرف لبنان، اتّضح أن سداد مستحقات سندات «اليوروبوندز» لشهر آذار 2020 وحده، لم يكن مناسباً. فإما تكون الحكومة قادرة على دفع 4.7 مليارات دولار، تُستحق في 2020 أو تتخلّف عن السداد. من يرمي 1.2 مليار دولار لحملة السندات رغم علمه بأن كل دولار منها سيغادر البلد وأن استيراد الحاجات الأساسية في خطر؟ المتظاهرون الذين أسقطوا حكومة الحريري، أجمعوا على المطالبة بالتخلّف الفوري عن الدفع. الحكومة استجابت. لو تمت عملية الدفع في آذار، فإن ذلك يعني إثراء الذين راهنوا على الدفع، وتسريع استنفاد الأصول الأجنبية. كان السبيل الوحيد للخروج هو ادّخار أكبر قدر ممكن من الاحتياطات لمدّة عامين، حتى تنفّذ الإصلاحات.توصّلنا، أنا وفريقي، جنباً إلى جنب مع مستشارينا في «لازار»، إلى خطّة تعافي ترسم التشخيص المناسب للأزمة، وتغطّي الإجراءات المطلوبة: إعادة هيكلة الديون، إعادة هيكلة القطاع المصرفي (مصرف لبنان، المصارف)، إصلاح المالية العامة، إنشاء شبكات أمان اجتماعي، تطوير أجندة للنموّ الاقتصادي... وبعد عدة اجتماعات في مجلس الوزراء، تمت الموافقة على الخطة بالإجماع في نيسان 2020 وأشاد بها المجتمع الدولي بمن فيهم صندوق النقد والبنك الدوليين ومصارف أميركية. كانت الخسائر فادحة، وقبولها سيرتّب عواقب وخيمة على النظام الإجرامي.
عندما بدأت الأزمة، لم يكن أحد يتخيّل حجم خسائر مصرف لبنان. كان حساب «الأصول الأخرى» في ميزانيته ينمو بشكل هائل من دون أن يقدّم المصرف أيّ تفسير مفيد.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لم يعلم سوى عدد قليل من الأشخاص ما هي «الأصول الأخرى»، إلى أن تبلّغ فريق «لازار» من محاسب المصرف المركزي، بشكل غير مقصود، أنها خسائر قرّر الحاكم مراكمتها لتغطيتها بأرباح «سكّ العملة». هكذا خرج الرقم المخيف: خسائر مصرف لبنان تجاوزت أعلى مستوى مسجّل للناتج المحلي الإجمالي. وبنتيجتها، أفلست عملياً جميع المصارف التجارية لأن 65% من أصولها المقوّمة بالعملات الأجنبية مودعة في مصرف لبنان، بينما أقرضت 25% منها لشركات خاصة وأفراد واستثمرت 10% في سندات «اليوروبوندز». بعد التخلّف عن السداد، خسرت المصارف نحو 70% من قيمة سندات اليوروبوندز، لكن الأمر كان قابلاً للسيطرة (9 مليارات دولار مقارنة برؤوس أموالهم البالغة 21 مليار دولار آنذاك)، خلافاً لخسائر «المركزي» التي غيّرت قواعد اللعبة لأن المصارف لم تستطِع استرداد أموالها منه، ما حرم المودعين من حقوقهم أيضاً.
هذا التشخيص يعني أن الحاكم لم يكن ساحراً، وأن على مساهمي المصارف إعادة جزء من مدّخراتهم في الخارج لإعادة رسملة مؤسّساتهم، إذا أرادوا أن يظلّوا مساهمين رئيسيين. كذلك، هذا يعني أن العديد من السياسيين الذين كانوا مساهمين أو يملكون أسهماً تفضيلية، فقدوا مبالغ كبيرة من أموالهم، فضلاً عن أن أولئك الذين لم ينجحوا في وضع أموالهم في الخارج كانوا تحت تهديد الـ«bail-in» أو الـ«haircut» الذي يتعرّض له المودعون الآن. لذا كان هؤلاء المصرفيون والسياسيون غاضبين لأن خطة الحكومة الرامية إلى حماية المودعين الصغار والمتوسطين من أي خسارة، اقترحت «bail-in» بنسبة 30% على الودائع الأكبر من 500 ألف دولار.
بشكل عام، إن تنفيذ خطّة الحكومة في إطار برنامج مع صندوق النقد الدولي، كان من شأنه أن يضع حدّاً لثغرات النظام التي ولّدت مبالغ كبيرة لزعماء الطوائف. هذه الأمول أتت من التهريب عبر الحدود، والإدارة الفاضحة لمرافق الكهرباء، والصناديق المختلفة، والمنافع الملتوية في القطاع العام، وقبل كلّ شيء، الأموال غير المشروعة التي وجهها المصرف المركزي إلى مختلف المستفيدين من دون أي رؤية أو سيطرة.
كان الهجوم المضاد على الخطّة عنيفاً، إنما منظّم جيداً. ادّعت جمعية المصارف أنها لن تقبل أي «هيركات» على الودائع، ثم استخدمت الطوائف سلاحاً عبر تشكيل النواب في أيار 2020 لجنة لتقصّي الحقائق. تظاهر أعضاء اللجنة أنهم يريدون النظر في تناقضات الأرقام بين الحكومة والمصرفيين. كانت مسرحية مثيرة للشفقة. وزراء الحكومة كان يُفترض أن يدافعوا عن الخطّة لكنهم جلسوا يراقبون بصمت، بينما كان النواب يصرخون بالشتائم والتهديدات، مدّعين أن أرقام الخسائر مبالغ فيها. هذا حصل فيما كان صندوق النقد الدولي يُصدر بياناً تلو الآخر يشهد على أن الخسائر التي احتسبتها خطة الحكومة صحيحة وقريبة جداً من تقديراته. لقد استخدم معارضو خطّة الحكومة كل الحيل القذرة.
في هذا الوقت، واصلت المصارف التخلّص من سندات «اليوروبوند» وممارسة الهيركات على الودائع، وتهريب الأموال إلى الخارج لصالح الأقوى من سياسيين ومساهمين. حدث ذلك في ظلّ السرية المصرفية. بعض المصرفيين أبلغوا نظراءهم الأميركيين أن خطّة الحكومة تهدف إلى تسليم القطاع المصرفي إلى حزب الله، وفي اليوم التالي اشتكى هؤلاء أنفسهم لقادة حزب الله بأنّ من يقف وراء خطّة الحكومة يريد وضع النظام تحت إشراف صندوق النقد الدولي للحدّ من حرية الحزب في العمل في النظام المالي. أيضاً، هؤلاء أخبروا العديد من الدبلوماسيين أن التدقيق الجنائي للمصرف المركزي يهدف إلى ملاحقة جانب واحد من الطيف السياسي، رغم أن خطّة الحكومة تضمّنت عمليات تدقيق جنائي على جميع المشتريات العامة والشركات المملوكة للدولة. أظهر الواقع أن الطوائف والأحزاب في هذا النظام حاولوا بيأس الحفاظ على استمرار هذا النظام السيئ. كانوا يقفون جنباً إلى جنب ضدّ الإصلاحات وهم ليسوا مستعدّين للتخلّي عن أيّ من المنافع غير القانونية التي قدّمها النظام لهم.
قد يتساءل المرء: لماذا لم توضع ضوابط على رأس المال حتى يومنا هذا بعد عامين على بداية الأزمة؟ قد يتساءل المرء أيضاً، لماذا لا يزال لبنان يعاني من تعدّد أسعار العملات الذي يفرضه المصرف المركزي رغم الضرر اللاحق بالاقتصاد الحقيقي وبالشركات؟ لماذا، حتى يومنا هذا، لم يتم وضع إطار لحلّ مصرفي؟
لأن المصرف المركزي لا يريد تحمّل مسؤولية ضوابط رأس المال الرسمية، وهو يضع المصارف في الواجهة لفرض الضوابط بحكم الأمر الواقع، بينما هو يهرّب أموال أصحاب النفوذ إلى الخارج. كذلك، يستخدم «المركزي» ورعاته السياسيون أسعار العملات المتعدّدة لفرض «هيركات» على المودعين من دون الاعتراف به. وخطّة تسوية أوضاع المصارف ما زالت قيد الإعداد لأن «المركزي» يواصل نفي وجود خسائر، ويريد إبقاء المصرفيين في جانبه. في غضون ذلك، يستمرّ سيرك ضوابط رأس المال المثير للشفقة: من زعم المصرف المركزي أنه لا يملك الإذن القانوني لفرض هذه الضوابط رغم أنه يسمح للمصارف بفرض ضوابط فعلية، بينما تتساءل الحكومة عمّن يجب أن يعدّ مسودة قانون ضوابط رأس المال، ويتم تضييع الوقت في لجنة الموازنة ليتقرر لاحقاً أن اقتراح هذا القانون هو من مسؤولية الحكومة. أما ما حدث في عملية التدقيق الجنائي للمصرف المركزي، فهو أمر معبّر. في بداية 2020، قرّرت الحكومة بالإجماع إجراء تدقيق جنائي للمصرف المركزي واختيرت شركة «كرول» لتنفيذه. بعد أشهر صدر تقرير أمني يحذّر من «كرول» بأن لديها ممثلاً في «إسرائيل»، ثم استبدلت «كرول» بشركة لديها مكتب كامل الموظفين في إسرائيل. عُرف لاحقاً أن الشركة الجديدة تقدم خدمات تسويقية للمصرف المركزي، فأعيد النظر بها! وأخيراً، وبعد عام ضائع، عينت «ألفاريز ومارسال»، إلّا أنه مذاك لم يزوّدها المصرف المركزي بالمعلومات والبيانات التي طلبتها.
توصل المصرفيون، كجزء من هجومهم المضاد على خطة الحكومة، إلى خطّة خاصة بهم تتلخّص في 3 نقاط: نقل ملكية كل الأصول العامة إلى القطاع المصرفي بافتراض أن قيمتها تبلغ 40 مليار دولار رغم عدم وجود تقييم لهذه الأصول. تجميد الودائع لفترة طويلة، وبدلاً من الاعتراف بأن هذا يمثل اقتصاصاً كبيراً جداً للودائع، فإن خطّة المصارف تزعم أنها تساعد في تجنب «قصة الشعر». وأخيراً، يرفض المصرفيون إعادة هيكلة الدين المقوّم بالليرة للحدّ من خسائرهم من دون أي اعتبار بأن إعادة الهيكلة حتمية إذا أراد لبنان خفض أعباء ديونه إلى مستويات يمكن تحملها. وإذا تغافلنا عن عدم عدالة الـ bail-out بواسطة الأملاك العامة، وقبلنا الاقتصاص من المودعين، فإن خطّة المصارف لا تجلب أي دولارات جديدة إلى الاقتصاد.
هكذا، تُركنا نناقش الوضع مع صندوق النقد الدولي دون أي فرصة للمضي قدماً. لم ترغب الأحزاب السياسية في برنامج مع صندوق النقد الدولي، ولم ترغب بالاعتراف بما يتطلبه هذا البرنامج. في البداية، اعتقدوا أنهم يستطيعون الحصول على دعم مالي مع بعض الإصلاحات الواضحة والمحدودة، كما اعتادوا سابقاً، لكنهم أدركوا أن الصندوق يعرف جيداً عمق الأزمة وأهمية تحديد الخسائر في النظام وتوزيعها بطريقة عادلة. ماتت صفقة صندوق النقد الدولي ودُفنت قبل أن تبدأ، ولم يعلن أي طرف مسؤوليته عن هذا الأمر.
عندها قرر النظام، مجدداً، منح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، صلاحيات كاملة لتنفيذ خطّة نقل الخسائر من النظام المصرفي إلى المودعين وسائر المواطنين: خطّة «فعل اللاشيء». وفي فوضى من الإجراءات الموضعية التي تكرست بتعاميم المصرف المركزي التي غالباً ما كانت تتعارض مع بعضها البعض، أهدر الحاكم الكثير من الوقت أثناء طباعة كمية هائلة من الليرات. أدّى ذلك إلى إشعال العملة المحليّة مقابل الدولار، وسمح بإجراء «قصّة شعر» على ودائع الدولار. كان الهدف تحويل الخسائر إلى الفئات الأكثر هشاشة من خلال الانخفاض الهائل في قيمة الليرة اللبنانية التي تدهورت قيمتها من 1508 ليرات مقابل الدولار إلى نحو 20000، وإلى المودعين بدلاً من المساهمين في المصارف من خلال الاقتصاصات غير المعلنة للودائع. حتى صندوق النقد الدولي أعرب عن قلقه بشأن الضرر الذي يلحق بالسكان. لكن النخبة اللبنانية لم تمانع.
في نهاية الأمر، سنصل إلى نقطة توازن، غير أنه بحلول ذلك الوقت، سيبدو لبنان أشبه باليمن أو الصومال في أسوأ سنواتهما. وفي حالة الحاكم (ومعظم النخبة السياسية والمالية الحاكمة) ثمة ما هو واضح: لا يتعلق الأمر بالدفاع عن إرثه وسياساته السيئة، بل بالدفاع عن إنشاء مخطّط بونزي بشكل إجرامي وغير قانوني. يتعلّق الأمر بحماية نفسه من الاستجواب القانوني والتورّط المباشر والشخصي في الجرائم المالية إذا ثبت أنها حقيقية. اللعنة التي حلّت على اللبنانيين أن أمرهم تُرك بأيدي أشخاص يهتمون بإنقاذ أعناقهم قبل أي شيء آخر، حتى لو سُحق جميع السكان.
الوضع الحالي يغيّر وجه لبنان، وهو ما لم تتمكن الحروب والأزمات السياسية من تحقيقه. يواجه البلد حالة فعلية من اللاقانون تقوده إلى حافة الهاوية، مع احتمال نشوب فوضى واسعة النطاق قد تتطوّر إلى نزاعات مسلحة داخلية


بعد نحو عامين على إغلاق المصارف أبوابها في تشرين الأول 2019، يمكن إجراء مقارنة سريعة؛ إن نوايا وأهداف خطة الحكومة كانت تثبيت الليرة بنحو 4000 ليرة للدولار خلال عامين، وحماية المودعين الصغار والمتوسطين من أي خسارة، واقتطاع 30% من الودائع الكبيرة، مع جذب نحو 27 مليار دولار من الدولارات الطازجة على مدى 5 سنوات. هذه العملية كانت ستعيد بعض الأمور إلى طبيعتها بحلول نهاية 2022. لكن بدلاً من ذلك، اختارت النخبة المحلية عمداً أن تدع الليرة تنهار إلى 20000 ليرة للدولار من دون قعر لهبوطها. واختارت أيضاً أن يخسر كل المودعين نحو 90% من أموالهم، وأن يُحرم لبنان من أي وصول إلى دولارات طازجة. بالنسبة إلى أولئك الذين يجادلون بأن المصارف اللبنانية ستكون قادرة مجدداً على جذب مليارات الدولارات من المودعين بشرط عودة الثقة: ماذا سيفعلون بهذه المليارات وأين سيضعونها؟ لا يمكن للمصرف المركزي المفلس أن يدفع لهم معدلات عالية بعد الآن، ولا يمكن للسوق استيعاب قروض كبيرة. سيتعين عليهم وضعها بمعدلات فائدة منخفضة، ومن الصعب أصلاً إيجاد سبب يجعل المودعين يرغبون في جلب الأموال إلى نظام مصرفي مدمّر يدفع أسعار فائدة منخفضة.
في النظام المصرفي الحالي، من الضروري تنظيف المجال المالي ووضع بعض الضوابط الفعالة. يجب تقديم إطار عمل لتسوية أوضاع القطاع، وتنفيذه سريعاً، ويجب على المخالفين الخروج نهائياً. من الواضح أن السرية المصرفية لعبت دوراً سلبياً سمح للسلوك الإجرامي أن يمرّ، لذا يجب القضاء عليها. ويجب إعادة آليات الرقابة على حاكم المصرف المركزي وفق القانون. وبالتأكيد لا ينبغي لأي حاكم، في المستقبل، أن يحتفظ برئاسة هيئة التحقيق الخاصة المسؤولة عن التحقيق في عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والأنشطة الإجرامية الأخرى.
الوضع الحالي يغيّر وجه لبنان، وهو ما لم تتمكن الحروب والأزمات السياسية من تحقيقه. يواجه البلد حالة فعلية من اللاقانون تقوده إلى حافة الهاوية، مع احتمال نشوب فوضى واسعة النطاق قد تتطوّر إلى نزاعات مسلحة داخلية. بعد كل هذا، والقضاء على الطبقة الوسطى والهجرة الجماعية، سيبقى زعماء الطوائف محاطين بأشخاص عاجزين يمكن أن يتحولوا بسهولة إلى رجال ميليشيات. ومجدداً ستنتصر الميليشيا على الدولة. ستستمر الطوائف السياسية في خدمة نظام فاسد يدعم جميع أنواع الأنشطة الإجرامية وينشر فساده في جميع أنحاء الشرايين المالية في العالم. وطالما يحافظ العالم على وهم وجود أصدقاء وأعداء داخل النظام، ستستمر الفوضى في الانتشار، وستستمر السيادة في التلاشي، وسيستمر الفساد في النموّ. الأمر يتعلق بالنظام بأكمله، بكل مكوناته، وليس حول عدد قليل من الطوائف أو عدد قليل من الأفراد.

تابع «رأس المال» على إنستاغرام