في 4 آب الماضي، رسمت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغاييف مساراً واضحاً لما سيطلبه صندوق النقد الدولي من لبنان مقابل برنامج إنقاذي. هذا المسار يتضمن أربع نقاط من بينها توحيد سعر صرف الليرة وتكريس نظام موثوق للنقد. ومع تأليف الحكومة اللبنانية وتشكيل لجنة التفاوض مع الصندوق، أصبحت الاستعدادات لمناقشة عملية التوحيد بنداً حتمياً على جدول الأعمال بما فيها الانعكاسات على الخزينة والقطاع المصرفي. عملية توحيد سعر الصرف يجب أن تأخذ في الاعتبار الهدف منها وآليات تنفيذها سواء بشكل فجائي أو تدريجي، ووسائل منع المضاربات والمتلاعبين بالسوق... هذا المقابل يجيب على خمسة أسئلة عن عملية التوحيد
أنجل بوليغان ــ المكسيك

حالياً، أصبح سعر الصرف الحرّ، أو ما يُشار إليه بسعر «السوق السوداء»، يتحكّم بمعظم المعاملات التجارية، ولا سيما بعد رفع الدعم الذي فرضه مصرف لبنان بقرار ضمني أو معلن على كل السلع، باستثناء الدواء. إضافة إلى ذلك، هناك «سعر الصرف النظامي» الذي تستند إليه الدولة اللبنانية في حسابات الخزينة أي ما يسمّى «السعر الرسمي» البالغ (1507.5 ليرات وسطياً لكل دولار). كذلك، هناك أسعار صرف أخرى تتعامل بها المصارف تبعاً لتعاميم مصرف لبنان المختلفة، ومنها التعميم 151 الذي يحدّد سعر الدولار المصرفي بقيمة 3900 ليرة، والتعميم 158 الذي يحدّد سعر الدولار المصرفي، أيضاً، بقيمة 12000 ليرة. انطلاقاً من هذه التعددية، يُثار الكثير من الأسئلة عن قدرة الحكومة على توفير العوامل المناسبة لنجاح عملية توحيد سعر الصرف والسيطرة على تبعاتها؛ فهل الهدف إعادة الحياة للمسار الاقتصادي؟ أم هي مجرّد خطوة لتحقيق أحد شروط صندوق النقد الدولي «للتأهّل» إلى مرحلة اقتراض الأموال منه بمعزل عن النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج منها؟ هل تأتي عملية توحيد سعر الصرف في إطار خطّة واضحة؟

لماذا التوحيد؟
يستعمل مصرف لبنان تعدّدية أسعار الصرف كأداة أساسية لإطفاء خسائر القطاع المالي. هذا الهدف يعيد تشكيل ديناميات تعدّدية أسعار الصرف، ويضيف فوقها طبقة ثانية أكثر عمقاً وتجذراً من التشوّهات الاقتصادية. فعوامل التعددية وتقلبات الأسعار ضمن هوامش غير واضحة، تفتح الباب واسعاً أمام التلاعب والانتفاع غير المشروع على حساب الآخرين. ويكبّد اللاعبين الاقتصاديين في القطاعَين العام والخاص، خسائر كبيرة. كذلك، تؤدّي التعددية إلى ضغوط على الاحتياطات بالعملات الأجنبية. لذا، إن الهدف من التوحيد لا ينفصل عن محاولة إعادة الاقتصاد إلى مسار التعافي. التوحيد بهذا المعنى يقتضي التخلّص من التشوهات وأوجه القصور الناتجة من تعدّدية أسعار الصرف. ويتم ذلك من خلال استيعاب السوق الموازية وتشريعها وتنظيمها والتعامل مع كل العقود السائدة في السوق وتسعيرها على أساس سعر عائم حرّ يكون الأقرب إلى سعر السوق الموازية، لأن هذا الأخير يعبّر عن السعر الذي يغطّي الجزء الأكبر من الاقتصاد. والسعر الذي يتشكّل بعد توحيد أسعار الصرف هو السعر الذي يلتقي حوله عرض وطلب العملات الأجنبية في السوق الحقيقية وليس في السوق الاصطناعية كالتي يحاول مصرف لبنان إنشاءها حالياً عبر اتفاق بينه وبين المصارف الكبرى والصرافين الكبار. هذه المحاولة سقطت أمام أول امتحان تجسّد في رفع الدعم ليعود سعر الصرف في السوق الحرّة إلى 17 ألف ليرة بعد انخفاض مصطنع إلى 13 ألف ليرة.

الإعلان المسبق أو اللاحق؟
يؤدّي توحيد أسعار الصرف في السوق، إذا كان معلناً مسبقاً، إلى ردود فعل تخلقها توقّعات الأطراف الاقتصادية الفاعلة في السوق. يشير ريتشارد أغينور وروبرت فلود في دراسة بعنوان «توحيد أسعار الصرف» إلى أن عملية التوحيد تصبّ في واحد من مسارَين؛ إذا كان السعر الموحّد المعلن أقل من السعر الموجود في السوق، يتّجه الفاعلون الاقتصاديون لشراء العملة المحليّة أو الأصول المقوّمة بها بغية استغلال الفرق في السعر لتحقيق الأرباح أو للحفاظ على قيمة الأصول التي بحوزتهم. أما إذا كان السعر الموحّد المعلن أعلى من السعر الموجود في السوق، فتتجه الأطراف الاقتصادية إلى شراء العملة الأجنبية أو الأصول المقوّمة بها بهدف تحقيق الأرباح أو حفظ القيمة أيضاً.
بنتيجة ذلك، ينخفض أو يرتفع سعر السوق الموازية فور إعلان توحيد سعر الصرف أو عندما تتشكّل التوقّعات في السوق تجاه مستوى السعر الذي يتوقّعه حاملو النقد للسعر العائم، بحسب أغينور وفلود. الإعلان وتشكّل التوقّعات بحاجة إلى عامل أساسي جداً لضبط عملية التوحيد والهدف منها، هو الثقة. فعلى سبيل المثال، إذا كشف مصرف لبنان، اليوم، عن نيته توحيد أسعار الصرف بسعر 13000 ليرة للدولار بينما يبلغ السعر في السوق الموازية نحو 17 ألف ليرة، لن يؤدّي الإعلان إلى انخفاض سعر السوق الموازية إلى حدود السعر المُعلن. وذلك لأن الثقة في المصرف المركزي باتت معدومة، وبالتالي فإن الثقة بتقييمه للسعر الحقيقي للعملة غير موجودة. إلا في حال قرر المصرف التدخّل في السوق، من خلال ضخّ الأموال بالسعر الذي حدّده أو حتى أقل، غير أن هذه العملية تنافي أحد أهداف توحيد سعر الصرف وهو الحفاظ على احتياطات العملات الأجنبية.
هناك مسألة مهمّة تقع في صلب عملية توحيد سعر الصرف، وهي تكمن في أن عملية التوحيد تخلق ارتفاعاً بسيطاً في معدلات التضخّم، لأن أسعار السلع تعكس، في غالبيتها، سعر الصرف الموجود في السوق الموازية، ولا سيما إذا لم تكن هناك سلع مدعومة من قِبل الدولة تتأثّر أسعارها بتوحيد سعر الصرف. وفي المقابل، إن توحيد أسعار الصرف لا يعني بالضرورة التخلّص من التضخّم والانخفاض في سعر صرف العملة المحليّة. لأن هذه الخطوة، إذا لم تأتِ مع حزمة خطوات مالية ونقدية في سبيل تحقيق سياسة واضحة على صعيد الاقتصاد الكلّي، تكون خطوة ناقصة وغير فعّالة.
لا ثقة بالمصرف المركزي لتقييم السعر الحقيقي لليرة اللبنانية


تدريجي أو فجائي؟
يمكن أن يتحقّق توحيد أسعار الصرف عبر طريقتَين:
- الأولى من خلال خطة تدريجية تحرّر سعر الصرف على مراحل.
- الثانية عبر تعويم سعر الصرف بشكل مباشر بحيث يتلاقى سعر الصرف العائم مع سعر الصرف الموجود في السوق الموازية، ما يؤدي إلى إلغاء جميع الأسعار الأخرى التي تحدّدها الدولة.
في هذا الإطار، يرجّح صندوق النقد الدولي الطريقة المباشرة في توحيد سعر الصرف، لأنه يعتبرها أقل كلفة على الاقتصاد من الطريقة المتدرجة. فعلى حدّ تعبير الصندوق، إن عملية التوحيد التدريجية هي بمثابة «الموت عن طريق ألف جرح». لذا، بالنسبة إلى صندوق النقد فإن تحرير سعر الصرف بشكل مباشر يخفّف من الخسائر التي تخلقها أسعار الصرف المتعددة. أفضل وقت لتنفيذ عملية التوحيد هو أسرع وقت تتم فيه.
ومن المهم الانتباه إلى أن عملية التوحيد التدريجية تؤخّر «تطبيع» السوق الموازية للنقد. وبالتالي يفتح هذا الأمر المجال لقيام الأطراف الاقتصادية باستغلال الفروق في أسعار الصرف، من خلال ادخار وتخزين العملات الأجنبية، إلا إذا كان المصرف المركزي قادراً على التلاعب بأسعار الفائدة بشكل تكون فيه نسبة الانخفاض في سعر العملة المحلية، خلال عملية التوحيد التدريجي، لا تضاهي الفائدة على الودائع المقوّمة بالعملة المحلية. ففي هذه الحال، تصبح مصلحة الأفراد والشركات الإيداع في المصارف بدلاً من شراء العملات الأجنبية من السوق. لكن في الحالة اللبنانية، لا يعدّ رفع أسعار الفائدة أمراً ممكناً، لأن أزمة تعدّد أسعار الصرف تترافق مع أزمة مصارف غير قادرة على دفع فوائد مرتفعة، كما أنها فقدت ثقة العملاء فيها، ولن تستطيع استردادها حتى ولو وعدتهم بفوائد مرتفعة، لذلك فهي تبقى غير قادرة حتى على جذب أموالهم بالعملة المحلية.

ماذا عن التواصل؟
بالتزامن مع عملية توحيد أسعار الصرف، يفترض تنفيذ «سياسة تواصل» مناسبة. الهدف أن يتم توضيح الأهداف والمنافع للأطراف الاقتصادية من خلال الإجابة على كل الأسئلة التي تهمّ جميع الأطراف من الشركات والأفراد. يقول سيمون غراي في ورقة بعنوان «إدراك الواقع: توحيد أسعار الصرف الرسمية والموازية في السوق»: «كلما زاد الوضوح الذي يمكن للسلطات توفيره في عملية توحيد أسعار الصرف، كلما تم استقرار سعر الصرف بشكل أسرع، وعلى سعر توازن جديد (بين العرض والطلب)، وكلما كان احتمال التقلّب في سعر الصرف أقل».
في الواقع، يطرح غراي مسائل مهمة حول أهداف «سياسة التواصل»:
- ما هي سياسة سعر الصرف المستقبلية؟
- ما نوع سياسات التدخل التي سيمارسها المصرف المركزي والتي يجب أن تتوقعها الأطراف الاقتصادية مستقبلاً؟ فهل يخطّط المصرف المركزي للتحوّل من كونه مزوداً صافياً للعملات الأجنبية إلى مشترٍ صافٍ؟ يجب توضيح الأمر للسوق.
- إن استخدام الإقناع الأخلاقي لتوجيه تعديل سعر الصرف اللاحق، سيحفز المشاركين في السوق على إبقاء العملات الأجنبية خارج السوق. لذا، من المهم تجنّب أي اقتراحات توحي بأن البنك المركزي قد يعود إلى إدارة السعر بشكل مباشر.
- كيف سينفذ المصرف المركزي سياسات أسعار الفائدة؟

ما بعد التوحيد؟
هناك العديد من الخيارات أمام الدول لرسم سياسة سعر الصرف التي يمكنها أن تتبعها بعد التخلّص من تعدّدية أسعار الصرف في أسواقها. هذه السياسات تتراوح في مدى يبدأ من إعادة تثبيت سعر الصرف على سعر يناسب العرض والطلب في السوق، ويصل إلى تعويم سعر الصرف بشكل كامل. ومعظم الحالات تنتهي بتعويم الصرف بشكل الكامل، لأن الأزمات تكون قد أرهقت احتياطات العملات الأجنبية حتى لا يعود بإمكان البنك المركزي التدخل لتثبيت سعر الصرف أو التحكّم به.
لكن عندما يكون هناك مجال لإدارة سعر الصرف من قبل المركزي، فإن الخيارات العامة تشمل إعادة التثبيت والتعويم المنظّم. وإعادة التثبيت هي أمر صعب بحسب غراي، لأن تحديد السعر الجديد المناسب للسوق يكون أمراً معقّداً في عدة حالات أهمها:
(1) إذا كان التعديل المطلوب في سعر الصرف كبيراً، لأنه في هذه الحالة يكون هامش الخطأ أكبر.
(2) إذا لم تتم معالجة أسباب الفرق بين سعر الصرف الرسمي والسعر الموازي الرسمي بشكل فعال.
(3) إذا لم يتم تقدير أو السيطرة على التضخم الناتج عن تعديل سعر الصرف بشكل جيد.
أما التعويم المنظّم، أي تعويم السعر بشكل غير كامل، حيث يبقى هناك هامش لتدخّل المركزي في السوق، فغالباً ما يكون نتيجة إعادة تثبيت فاشلة. حيث يضطرّ المركزي أن يعدّل السعر المعاد تثبيته بشكل مستمرّ لأن الأسعار التي يحددها للتثبيت لا تكون مناسبة للعرض والطلب في السوق.