حساب الخزينة اللبنانية لدى مصرف لبنان، المعروف بحساب الـ36، يتكوّن من مجموع حاصلات الخزينة ونفقاتها، مضافاً إليه مجموع المبالغ التي اقترضتها الوزارة من دون حاجة فعلية إليها، بل باعتبارها مدّخرات احتياطية تنفخ الدين العام وخدمته، وتُستعمل من أجل تسديد دفعات طارئة فرضتها الظروف المستجدّة أو القوى السياسية. حالياً، إن حساب الـ36 شبه مفلس. منذ نهاية 2017 لغاية اليوم أنفقنا أكثر من 10 آلاف مليار ليرة من هذا الحساب، من دون أن تتمكن وزارة المال من تغذيته سواء عبر ما تجمعه من حاصلات أو ما تستدينه بواسطة السندات.في السنوات الخمس الأخيرة بلغ حساب الـ36 ذروته مرّتين: الأولى في منتصف 2016، والثانية في نهاية 2017. في المرّتين استحوذ الحساب على ما يفوق 11 ألف مليار ليرة. لكن مذّاك، بدأ يتناقص بوتيرة متسارعة حيناً وبوتيرة بطيئة أحياناً تبعاً لسياسات وزير المال ومدى قدرة الإدارة الضريبية على التحصيل من المكلّفين، سواء في السنوات التي يتم فيها فرض ضرائب جديدة أو زيادة معدلات ضرائب سابقة، وربطاً برغبة مصادر التمويل في الانخراط بشراء سندات خزينة وتحمّل مخاطرها المرتفعة مقابل عوائدها السخية. ويأتي ذلك في ظل انحسار التمويل من السوق وحلول مصرف لبنان محلّ المصارف في تغطية الطلب على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية.

على أي حال، كان في حساب الـ36 نحو 11600 مليار ليرة في تشرين الأول عام 2017، لكنه بلغ 9600 مليار ليرة في نهاية 2017، وواصلت السلطة الغرف منه إلى أن بلغ 300 مليار ليرة في مطلع 2021. واستمر الحال على ذلك، إلى أن أتيح لوزارة المال أن تغذّي الحساب ليصل إلى 1159 مليار ليرة في نهاية أيار 2021، أي بعد شهرين على قرار وزارة المال فرض تحصيل الضرائب من العمليات الجارية بالدولار لدى الشركات بعد تسعيرها بسعر الدولار في السوق الحرّة بتاريخ حصول العمليات.
وطوال هذه الفترة لم تكن وزارة المال قد عملت على زيادة التقديمات للقطاع العام، بل هي توقّفت عن الإنفاق بشكل لافت. فهي لم تزد التعرفات الاستشفائية، وتوقفت عن شراء قطع الغيار والصيانة، كما قرّرت التوقف عن شراء الورق والمحابر وسواهما من الأمور التشغيلية التي باتت تُسعّر بالدولار الحرّ في السوق.
حساب الـ36 يمكن أن يتغذّى أيضاً من أرباح المؤسّسات العامة، مثل كازينو لبنان، مصرف لبنان، مرفأ بيروت وسواها. لكن يبدو أن لا تغذية من هذه المؤسسات مقابل حاجات كبيرة للخزينة لا يمكن تغطيتها. وهذا الحساب يعكس أيضاً مدى التبعية لمصرف لبنان. فعندما يتدنى مجموع ما في الحساب إلى ما يقارب الصفر، تصبح الخزينة رهناً بالدائنين وعلى رأسهم مصرف لبنان كونه الدائن الوحيد حالياً وسط غياب المصارف وسعيها إلى خفض حصّتها من سندات الخزينة. وكون مصرف لبنان يتحكّم بمفاصل اللعبة المالية والنقدية في لبنان، فإنه لا يمكن تغذية هذا الحساب إلا عبر تقنين تسديد الدفعات للمستحقين، من متعهدين وفواتير استشفاء وضمان اجتماعي... حالياً يترتب على الدولة أكثر من 4500 مليار ليرة للضمان الاجتماعي، وعليها فواتير غير مسدّدة بقيمة يصل مجموعها إلى 4 مليارات دولار (بالسعر النظامي لليرة مقابل الدولار).
كل تأخير في تسديد هذه الديون، يفقدها قيمتها بسبب تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار. صحيح أن قيمة هذه الديون تنخفض على الخزينة إذا جرى تقويمها بالدولار، لكن إذا لم يتم تسديدها بما يساوي قيمتها، فإن الضمان الاجتماعي سيفقد جزءاً كبيراً من رأسماله المخصّص لتعويض نهاية العمال والمسحوب بطريقة غير مشروعة لتغطية النفقات الصحية في ضمان المرض والأمومة.
هذا الحساب ليس مجرّد واجهة إدارية للدولة، بل هو مدخل مركزي لكل الدولة في التعامل مع سيولتها اليومية وبرمجة دفعاتها والاستحقاقات المترتبة عليها ضمن مدى زمني متغيّر. التعامل مع هذا الحساب لا يكون من خلال الفائض أو التقنين فقط، بل باعتباره أداة تساعد صناعة القرار على تطوير الرؤية التنموية. رؤية كهذه لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تطوير مفهوم عمليات الموازنة والخزينة نحو برامج الأداء التي تحاسب على الأفعال.