مع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، كان البلد في حالة دمار. كان اتفاق السلام الذي أُبرم في الطائف في المملكة العربية السعودية يدور في غالبيته حول تعويض أمراء حرب الميليشيات لإقناعهم بتسليم أسلحتهم مقابل مكاسب ومزايا كبيرة في ظل النظام الجديد، باستثناء حزب الله، الذي سُمح له بالاحتفاظ بترسانته ضد إسرائيل.لكن البداية الحقيقية كانت في 1992 عندما أصبح رفيق الحريري رئيساً للوزراء بعدما كان رجل أعمال مغمور. يومها أُسقطت حكومة عمر كرامي تحت ضغط شعبي نتج من موجة واسعة من المضاربة على الليرة اللبنانية أدّت إلى تلف جزء كبير من ثروة المقيمين وركزتها في أيدي المستفيدين من المعلومات السريّة للمضاربات. وأصبح نبيه بري، رئيس ميليشيا أمل الشيعية، رئيساً للبرلمان بعد الإطاحة بحسين الحسيني، وهو مشرّع يحظى باحترام كبير وكان له دور فعال في وضع الدستور الجديد عام 1989.
آريس ــ كوبا

منذ تلك البداية وحتى يومنا هذا، حكم الثنائي الحريري - بري لبنان ومؤسّساته. حوّل بري مجلس النواب اللبناني إلى شريك فاعل في الفساد، وأصبح هو نفسه لاعباً رئيسياً في السلطة التنفيذية، ما شلّ وظيفة الرقابة للسلطة التشريعية بشكل كامل. كيف يمكن للبرلمان أن يسيطر على مجلس وزراء يعكس الكتل النيابية بشكل مثالي؟ كان الرجلان وحزباهما، بدعم من الآخرين، مسؤولين أيضاً عن شلّ السلطة القضائية، من خلال تعيين رجال مؤتمرين أو شخصيات فاسدة لشغل مراكز مهمة، أو من خلال إشغال الوظائف الرقابية. ومع انعدام الرقابة البرلمانية والقضائية، بدأ الفساد ينمو، وفقد النظام حصانته. هكذا تحولت المعارضة من مشروع محاسبة الحكومة للضغط عليها بهدف الحصول على حصّة من الكعكة. الأسوأ، أن الحريري وبري، وبمباركة لاعبَين آخرين، شوّها القانون، إذ سُمح لمجلس الوزراء بصفته الهيئة التنفيبذية العليا باتخاذ أي قرار أو إجراء حتى تلك الإجراءات التي تسري ضدّ القانون بشكل واضح. كذلك اتفقا على أن الوزراء ليسوا مسؤولين أمام الجهات الرقابية أو القضاء ومحاكمه، بل يمكن ملاحقتهم ومحاكمتهم فقط من قبل لجنة برلمانية يتم تشكيلها بين الحين والآخر. طبعاً يشير الدستور اللبناني إلى هذه المحكمة النيابية لكن الهدف منها متصل بأعمال الخيانة العظمى وليس السرقة المبتذلة وإساءة استخدام الأموال العامة التي يمكن للمحاكم العادية أن تحكم بها.
في هذا السياق الغريب يجب قراءة قصّة الانهيار اللبناني. الموجة العنيفة من المضاربة على الليرة في 1992 دفعت سعر الدولار إلى 2825 ليرة لبنانية مقارنة مع 880 ليرة لبنانية في أدنى مستوياته في كانون الأوّل 1991 (كان 18 ليرة لبنانية في كانون الأول 1985). في النتجية قُضي على الطبقة الوسطى وتركّزت الثروة بشكل كبير في أيدي المطلعين على معلومات المضاربة من الأجهزة السياسية والأمنية إلى جانب بعض المصرفيين والمسؤولين السوريين. هكذا مُنحت النخبة الجديدة، الثروة التي تحتاجها للانضمام إلى العملية السياسية والحفاظ على نفوذها مستقبلاً، ودُفع اللبنانيون إلى أحضان من صُوّر بأنه الفارس الأبيض وبطل استقرار العملة: رفيق الحريري.
في اللحظة التي دخل فيها لبنان عهد الحريري في نهاية 1992، استقرّ سعر الليرة توازياً مع توقف هجمات المضاربة، وأيضاً بسبب عامل ثقة يرجع إلى تدفّق الأموال والاستثمارات الخليجية إلى النظام المالي، كجزء من شراء الدعم السياسي والحفاظ على سلام هشّ. كان على رفيق الحريري أن ينظّم تدفقات إعادة التوزيع، نحو المحتلّين وأمراء الحرب والنخب الجديدة وجميع سلطات الأمر الواقع. لذا، عيّن الحريري مدير حسابه الشخصي السابق في مصرف ميريل لينش، حاكماً للمصرف المركزي. بدأ الاثنان يدفعان سعر الليرة للارتفاع مقابل الدولار، ببطء شديد وبشكل منتظم. بكلفة عالية جداً، لكن بتأثير كبير من ناحية تأكيد نفوذ الحريري وسيطرته على اللعبة السياسية. ومنذ عام 1992، كانت الليرة مرتبطة عملياً بالدولار لكن من دون أي إجراء قانوني أو تنظيمي لهذا الربط. وفي كانون الأول 1997 تم تحديد السعر عند 1507.5 ليرة لبنانية للدولار.
هذا التثبيت الفعلي لسعر العملة هو أحد الأسباب الرئيسية وراء استنفاد احتياطيات العملات الأجنبية. يمكن المحاججة بأن التثبيت انعكس استقراراً، لكن نفخ قيمة الليرة بسعر أعلى من قيمتها الحقيقية، كان حافزاً لاستيراد السلع والخدمات بدلاً من إنتاجها محلياً. أخذ هذا النمط في الاتساع، وإلى جانب سياسات حكومية غير مبررة أدّى الأمر إلى خنق القطاعات الإنتاجية. كان الميزان التجاري والحساب الجاري يسجّلان عجوزات كبيرة عاماً بعد عام، ما كان يؤكد ضرورة إعادة النظر في الخيارات. لكن رغم الوضع غير المستقر واتساع العجز المزدوج، في الميزان التجاري والحساب الجاري، استمرّ النظام في الاعتماد على جذب ما بين 7 مليارات دولار و10 مليارات سنوياً. كان قادراً على تحدي المنطق والجاذبية. علينا أن نعترف بأن النظام كان جيداً جداً في الترويج لنفسه.
قبل باريس 3 كانت احتياطات المصرف المركزي الصافية تقدّر بأنها سالبة بقيمة 7 مليارات دولار


هذا يعني أنه منذ مطلع التسعينيات، احتاج البنك المركزي إلى تدفقات مستمرّة من الدولارات لتعويض عجز الحساب الجاري ودعم تثبيت سعر الصرف. ومنذ ذلك الوقت تم تبنّي طرق مختلفة لتأمين التدفقات. في البداية، بين عامي 1997 و2001، شهد السوق ما يسمى بـ«العمليات الصغيرة والكبيرة» فضلاً عن حيل أخرى كانت تُخفى وراء السرية المصرفية، ثم أتت مؤتمرات باريس المتعاقبة، التي أثبتت لاحقاً أنها لعنة مطلقة.
في عام 1998، كان النظام على وشك الإفلاس وكان رفيق الحريري يكافح لإيجاد مخرج. اعترف بأن لبنان يحتاج إلى سياسات مختلفة، لكنه لم يقترحها. بحلول كانون الأول 1998، اشتبك الرئيس المنتخب إميل لحود مع الحريري، وانضم الأخير إلى المعارضة. كان رياض سلامة، الذي عينه الحريري، ناجحاً جداً في تقويض عمل الحكومة حتى انتخابات عام 2000. وبفضل قانون الانتخابات الذي فرضه غازي كنعان، «الحاكم» السوري الذي استفاد من سخاء الحريري، حقّق رفيق الحريري نصراً ساحقاً عاد به إلى السراي على رأس حكومة تمثل القبائل اللبنانية. بدأ الحريري فوراً بتطبيق سياسة الحدود المفتوحة من خلال خفض الرسوم الجمركية وغيرها من الإجراءات التي أغرقت السوق المحليّة بمنتجات أجنبية منافسة وأهلكت القطاعات الإنتاجية والوظائف. وبينما كانت الحكومة تتوقع انتعاش النمو، بدأ الاقتصاد الحقيقي يدفع ثمناً باهظاً للغاية. فقد كانت وزارة المالية تنزف بسبب انخفاض الرسوم وانخفاض ضريبة الدخل. هذه المرّة، عاد الإفلاس بشكل سريع جداً لتهديد النظام. في المصرف المركزي، كان سلامة كالعادة راضياً للغاية عن الحكومة التي يقودها الحريري وكان يطبع النقود المحلية بينما يخفي أرقام احتياطياته الصافية.
في عام 2002، قدّرنا أن صافي الاحتياطيات صار سالباً بقيمة 3 مليارات دولار. في ذلك الوقت، أتى الرئيس الفرنسي جاك شيراك لإنقاذ صديقه المقرّب الحريري داعياً إلى عقد مؤتمر للمانحين. عُقد المؤتمر باسم باريس 2، وجمع تعهدات للمساعدة بلغت 4.4 مليارات دولار (لم يأت منها فعلاً إلا 2.4 مليار دولار). في غضون ذلك، ألغى مصرف لبنان جزءاً كبيراً من الدين مقابل إعادة تقييم احتياطيات الذهب، وطُلب من المصارف التجارية المشاركة من خلال إقراض الخزينة بنسبة 0% لتأمين خفض الدين العام بمقدار 400 مليون دولار.
كانت هذه الإجراءات مهمّة للغاية بالنسبة للبنك المركزي، إذ انخفضت أسعار الفائدة بشكل حادّ. لكن غياب شروط موضوعية، مرتبطة بالدعم الدولي، حوّل الصدمة الإيجابية إلى شيك سخي مكتوب لصالح النخبة الفاسدة التي لم تكن مستعدة للقيام بأي عمل إصلاحي. هي اعتبرت الأمر برمّته بمثابة وعد إنقاذ دائم من المجتمع الدولي، ما شجعها على الاستمرار في الأخطاء بدلاً من التصحيح. بعد عقدين من الزمن، لا يسهل تقييم نوايا شيراك الحقيقية: مساعدة لبنان أو دعم صديقه الحريري بلا قيد أو شرط. مؤتمر باريس 2 بمثابة دفعة قوية للسياسات الكارثية والنظام الفاسد. بمعنى أنه عندما بدأت تجفّ التدفقات الرأسمالية، التي كانت تغطي النزيف في الحساب الجاري، تم إرسال صدمة خارجية متعمّدة سمحت للنظام بالبقاء كما هو.
بعد باريس 2 استُؤنفت حركة التدفقات حتى اغتيال رفيق الحريري بسيارة مفخخة في 14 شباط 2005 في بيروت. بعد هذه المأساة، سادت فترة طويلة من انعدام الاستقرار، وازدادت التدفقات الخارجة بشكل متسارع. ذهب الرجل الذي ربط اسمه بتثبيت سعر الصرف، وظلت التوقعات متقلّبة نسبياً. رياض سلامة، انتهز الفرصة ليحلّ محل معلّمه المُغتال كرمز للاستقرار، واستخدم بقوّة جميع الوسائل الممكنة لتشكيل صورة إيجابية عن نفسه. وأنفق المصرف المركزي الكثير من الأموال لدعم وسائل الإعلام ومختلف صناع الرأي العام، كما قام بتأمين علاقة قوية مع القيادة السورية في نهاية عام 2004.
إلا أنه في عام 2006، أدت الحرب الإسرائيلية المدمّرة على لبنان، إلى حصوله على تمويل هائل من المجتمع الدولي، والذي تبعه مباشرة مؤتمر باريس 3 للمانحين في 25 كانون الثاني 2007. تعهد المجتمعون بمبلغ 7.6 مليارات دولار للبنان (نصف هذا المبلغ فقط صرف للبنان لاحقاً). كان هذا كافياً لشراء وقت إضافي رغم أن صافي احتياطيات المصرف المركزي كانت تقدّر بأنها سالبة بقيمة 7 مليارات دولار، قبل باريس 3 مباشرة. هكذا أصبح واضحاً أن النظام غير مستدام إطلاقاً، بل يحتاج إلى إصلاحات عميقة. ومع ذلك، عرفت النخبة السياسية أن كل إجراء إصلاحي سيتعارض مع مصالحها، ولم يكن حاكم مصرف لبنان على استعداد لإطلاق جرس الإنذار، بل كان مشغولاً ببناء صورة البطل الخارق الذي يمكنه التعامل مع جميع المواقف. كما أنه كان يطمح إلى الدعم السياسي الكامل من النخبة الحاكمة للترشح لرئاسة الجمهورية في المستقبل. تبعاً لذلك، مع مرور الوقت، أصبح الإصلاحيون أكثر وأكثر عزلة في المجال العام، رغم الكارثة التي كانت تلوح في الأفق.
مجدداً، الحدث الخارجي الذي لم يكن له علاقة بلبنان، وفّر بعض الوقت للنظام السيئ الإدارة. فالأزمة المالية العالمية في 2008 دفعت بتدفقات هائلة نحو لبنان ناتجة من هروب المستثمرين من الأسواق المالية ومن الاقتصادات المتقدمة. لكن في لبنان، ومنذ مطلع التسعينيات، لم يُسمح حتى بالمبيعات الآجلة على الدولار لعزل الليرة - المنفوخة القيمة - والحفاظ على ثبات سعرها ضدّ كل منطق. في المحصّلة تلقى القطاع المصرفي اللبناني ودائع جديدة تعادل 59% من إجمالي الناتج المحلي في 2009، وتدفّق نحو 20.7 مليار دولار إلى النظام المالي اللبناني.
خلال العامين التاليين، وبدلاً من الاستفادة من هذه الفرصة الهائلة لتطوير البنية التحتية وتحسين شبكات الأمان، أساءت الحكومة استخدام فائض الميزانية، واستمرّ النظام في العمل على النمط السابق نفسه. رُفضت الدعوات المحلية للتغيير، واستمرت الحاجة لتدفقات مالية أكبر، بالنمو. كانت هذه التدفقات الكبيرة تغطي بالفعل الاحتياجات المتزايدة، كما لو أن هذا الوضع كان ليستمر إلى الأبد.

* المدير العام السابق للمالية العامة