قبل أسبوعين، أعلنت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، أنه إذا لم يقُم الكونغرس برفع الحدّ الأقصى للاستدانة، قبل شهر تشرين الأوّل المقبل، قد تكون الخزانة مضطرة للتخلّف عن دفع ديونها. إذا حصل ذلك ستكون سابقة تاريخيّة، إذ لم يسبق للحكومة الأميركية أن تخلّفت عن دفع أيٍّ من ديونها في أي مرحلة في التاريخ حتى في أسوأ حالاتها، تكون أميركا أمام مرحلة مفصلية من مسار الدين المتضخّم بفعل الإنفاق الكبير على الحروب ورغبة أميركا في تكريس سطوة العنف على العالم عبر ممارسة الحروب. كلفة الحروب كانت باهظة على ميزانيات الحكومة، وفوقها جاءت الأزمة المالية العالمية لتصيب المؤسسات المالية الأميركية في صميمها وتسمّم الاقتصاد الأميركي، ثم أتت أخيراً جائحة كورونا لتعيد التذكير بضرورة تدخّل الدولة في الاقتصاد وانتشال المؤسسات من الركود. في كل هذه المراحل كانت أميركا تطبع الدولارات وتنفقها بجنون إلى أن بلغت الحدّ الأقصى للاستدانة الذي سمح به الكونغرس للحكومة الأميركية والبالغ 28.5 تريليون دولار، ما يعني أن عليها أن تواجه خيارين: المزيد من الاستدانة، مواجهة عواقب التخلّف عن السداد.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الدين لتمويل «الحرب على الإرهاب»
تسلّم الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن) الحكم في عام 2001. من يومها بدأ الارتفاع يظهر بشكل ملحوظ على الدين العام الأميركي. السمة الأساسية في ولايته تكمن في ما يسمّى «الحرب على الإرهاب». ففي حينه قرّر بوش الابن المُضي بحربَي أفغانستان والعراق في عامَي 2001 و2003 على التوالي. كلفة الانخراط في هاتين الحربين كانت كبيرة على الخزينة الأميركية. وفق تقديرات الباحثة هيدي بيلتير، في دراسة بعنوان «كلفة الحرب المموّلة بالديون: الدين العام والفائدة المتزايدة للإنفاق على الحرب بعد 11 أيلول»، فإن الكلفة بلغت تريليون دولار حتى نهاية عهد بوش. ولكنها كلفة متواصلة استكملها الرئيسان التاليان، باراك أوباما ودونالد ترامب. وحتى عام 2019، بلغت هذه الكلفة نحو تريليونَي دولار بحسب بيلتير. طبعاً هذا غير الأكلاف غير المباشرة، مثل الإنفاق العسكري الذي ارتفعت وتيرته بشكل هائل بعد دخول أميركا حروبها في الشرق الأوسط، إذ بلغ هذا الإنفاق بين عامي 2001 و2019 أكثر من 11.5 تريليون دولار. 

22

مرّة هو عدد الزيادات لسقف الاستدانة في أميركا من 2001 لغاية اليوم


في عهد بوش ضخّت الإدارة الأميركية دفعتين من خفض الضرائب في شرايين الاقتصاد. الأولى كانت في عام 2001 حين أُقرت سلسلة من التخفيضات الضريبية على مداخيل الأُسر بهدف تحفيز الاقتصاد بعد ركود «فقاعة الدوت كوم» التي تعبّر عن انهيار أسعار أسهم شركات التكنولوجيا والإنترنت وخسارة بقيمة تريليونات الدولارات من الاستثمارات. والمرّة الثانية كانت في عام 2003 التي هدفت إلى إرضاء الشركات الخاصّة وخفض الضرائب على الأرباح الرأسمالية وعلى الأرباح الموزّعة وغيرها.
لا شك بأن زيادة الإنفاق العسكري وخفض الضرائب أطلقا دورة لا متناهية من العجوزات في الموازنات المتتالية للحكومة الأميركية. بلغ مجموع العجز في ولاية بوش أكثر من 3.5 تريليونات دولار. وفي الوقت نفسه ارتفع الدين الفيدرالي الأميركي من 5.3 تريليونات دولار في بداية عهد بوش إلى 9.5 تريليونات دولار عندما بدأت الإجراءات لمواجهة الأزمة المالية العالمية في عام 2008 قبيل نهاية عهده. وهذا التاريخ شكّل نقطة بداية المرحلة الثانية من مسار الاستدانة الأميركي.

الأزمة المالية عام 2008
بدأت تظهر ملامح الأزمة المالية العالمية في أواخر 2007، ثم تطوّرت لاحقاً إلى واحدة من أكبر الأزمات في التاريخ. كانت الولايات المتحدة المتضرر الأكبر منها، إذ أدّت إلى إفلاس مصارف ضخمة بالتزامن مع انهيارات في السوق المالية. في مواجهة الأزمة، قامت الحكومة الأميركية بإنقاذ المصارف المفلسة بذريعة أنها «أكبر من أن تفلس» واشترت أصولها المسمومة. هذه العملية كلفت الكثير من المال على صعيد الإنفاق الحكومي. ولمواجهة الركود الاقتصادي الذي تلى الانفجار، قام أوباما في عام 2010 بخفض الضرائب ما أسهم في انخفاض إيرادات الحكومة. وقد أبقت الحكومة الأميركية على نهج الإنفاق من أجل تحفيز الاقتصاد في العقد التالي. كل هذا المسار راكم عجوزات هائلة في الميزانيات. بين عامي 2008 و2019 بلغ المجموع التراكمي لهذه العجوزات نحو 9.7 تريليونات دولار. وفي الفترة نفسها ارتفع الدين الفيدرالي الأميركي، من 11 تريليون دولار في نهاية 2008 إلى نحو 23.2 تريليون دولار في نهاية 2019، أي إنه خلال 11 سنة ارتفع الدين العام الأميركي بأكثر من الضعف.

بين عامَي 2008 و2019 بلغ المجموع التراكمي لعجوزات الخزينة نحو 9.7 تريليونات دولار


في مواجهة كورونا 
في عام 2020 أتت أزمة كورونا لتزيد من مشكلة الدين الأميركي. فبعد التداعيات الاقتصادية التي شهدتها أميركا بسبب انتشار الفيروس، قررت الحكومة، بإدارة دونالد ترامب، أن تواجه الأزمة من خلال تحفيز الاقتصاد عبر ضخّ حزم مالية للأسر والشركات. كما أنها قامت بعمليات تسهيل ضريبي لنفس الهدف أيضاً. وبالطبع هذا الأمر كان مكلفاً على خزينة الدولة، التي تكبّدت أكبر عجزين في تاريخ أميركا، ففي عام 2020 سجلت عجزاً بلغ 3.7 تريليونات دولار، وفي عام 2021 بلغ 3.4 تريليونات دولار. وفي هذا الوقت ارتفع الدين الفيدرالي من 23.2 تريليون دولار إلى 28.5 تريليون دولار وهو السقف الأعلى الحالي للدين الأميركي.  

«كارثة» التخلّف عن الدفع
لا يزال النقاش قائماً في أميركا بشأن رفع سقف الاستدانة، وإن كانت هناك أرجحية واقعية لرفعه بعد حصول عمليات ابتزاز سياسي ومالي بين الأطراف المحلية. إلا أنه يمكن القول إن الامتناع عن رفع السقف سيدفع الخزينة إلى التخلّف عن السداد. هذا الأمر سيطلق سلسلة من التداعيات الهائلة على الاقتصاد الأميركي وإلى العالم أيضاً. الصورة الأوضح ستظهر في ميدان المصطلح المعروف بـ«العائد الخالي من المخاطر». هذا العائد هو معدّل الربح أو الفائدة المتوقّع في الأسواق المالية في حال الاستثمار في شيء خالٍ من المخاطر. لنفترض أن هناك سندات دين تعتبر خالية من المخاطر، أي أن سدادها للمستثمرين، مع فوائدها، هو أمر مضمون 100%، لذا تكون الفائدة المتوقّعة منها تساوي العائد الخالي من المخاطر. وفي العالم المالي، لا يوجد هناك ما يسمى استثمار خالٍ من المخاطر كلياً. لكن العُرف المالي يقول بأن أقرب استثمار ليكون خالياً من المخاطر في العالم هو سندات الدين الأميركية. لذلك في الحسابات المالية، لتقييم السندات أو الأسهم أو ما شابه، يُفترض أن العائد الخالي من المخاطر يساوي العوائد من سندات الخزينة الأميركية. وهذا العائد هو عامل أساسي في الحسابات المالية، تبنى عليه كل التقييمات.
وهكذا تتضح أهمية كون السندات الأميركية «خالية من المخاطر» في عالم المال. لهذا تُعتبر معدلات الفائدة على السندات الأميركية هي معدلات الفائدة الأساسية التي إذا تحرّكت تتحرّك معها معدلات الفائدة التي تزيدها مخاطر، كما تتحرّك معها أسعار الأسهم والسندات في الأسواق المالية. لكن، في حال أصبحت سندات الدين الأميركية غير آمنة وتشوبها مخاطر محتملة، فإن هذا الأمر سيجعل العوائد المتوقّعة منها أعلى، ما يعني أن الفوائد عليها سترتفع بفعل العلاقة المترابطة بين المخاطر والعوائد المتوقّعة. ولهذا الأمر تأثير مباشر على كل الأوراق المالية في العالم، سواء كانت سندات سيادية أو للقطاع الخاص أو  أسهماً في الشركات. وقد تكون النتيجة انهياراً جديداً في الأسوق المالية الأميركية والعالمية.
وفي المقابل، الخيار الآخر أمام الكونغرس هو المضي برفع سقف الدين عملاً بتوصية الوزيرة يلين. وهي لن تكون المرّة الأولى التي يرفع فيها الكونغرس سقف الدين العام، فقد حدث هذا الأمر تكراراً في العقدين الأخيرين، وحتى قبل ذلك أيضاً. لكن كلام يلين يشير إلى أن هناك نقاشاً جاداً بشأن عدم رفع هذا السقف. فرفعه اليوم يعني هروباً إلى الأمام، من دون معالجة المشكلة الأساسية، التي تضاعفت بعد إجراءات مواجهة الأزمة الاقتصادية التي لحقت بكورونا. كما أنه يعني زيادة حجم الدين بشكل أكبر، سيشتري جزءاً كبيراً منه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. أي أن ارتفاع حجم الدين يعني تضخّم الكتلة النقدية، وهو ما يحاول الاحتياطي الفيدرالي تداركه بعد الارتفاع الهائل الذي شهدته هذه الكتلة خلال فترة السنة والنصف الأخيرة. فمثلاً ازدادت الكتلة الضيقة (M1) من 4 تريليونات دولار في شهر آذار 2020 إلى نحو 19.4 تريليوناً في شهر تموز الماضي.