شهدت الجزائر تحوّلاً كبيراً في نموذجها الاقتصادي، من اقتصاد منتج للصّناعات الثقيلة إلى اقتصاد ريعي يعتمد على إيرادات النفط والغاز لاستيراد معظم السّلع استهلاكية. بدأ هذا التحوّل في التسعينيات عندما دخل صندوق النقد إلى السّاحة الجزائريّة ببرنامج قروض مقابل شروطه المعتادة المروّجة لنموذج تحرير الأسواق ودعم القطاع الخاص. إلّا أن برنامج صندوق النقد أثبت فشله بسبب «وصفته» التي لم تأخذ في الحسبان أن لكل حالة خصائصها، وأن لديها عوامل مؤثّرة قد تحتاج إلى خطوات مختلفة للتعامل معها مثل العوامل السياسيّة وعوامل البنية الاجتماعية. فقد تحوّل نموذج الجزائر، من «الإنتاج بدل الاستيراد» إلى «الاستيراد بلا إنتاج».

اقتصاد موجّه
بعد تحرير الجزائر، شهد تشكّل الإقتصاد ثلاث سنوات من التخبّط. فبعد الاستقلال، خرج نحو 90% من الأوروبيّين الذين كانوا يعيشون في الجزائر، وخرجت معهم رؤوس أموالهم وخبراتهم التقنية والتنظيمية. انعكس الأمر سلباً على الاقتصاد الجزائري. فبحسب مريم لوي في ورقة عمل بحثية بعنوان «ريع النفط والانهيار السياسي في الدول الموروثة: الجزائر من منظور المقارنة»، تدهور الإنتاج الصناعي في تلك الفترة، وتراجع الاستثمار بنحو 200%، وانخفاض الدخل القومي بما يقارب 35%، وغدا 70% من العمال الجزائريين عاطلين من العمل. فقد كان الأوروبيون يملكون الغالبية الساحقة من رأس المال الخاص في البلد، ولم يكن بمقدور القوى الجزائرية الموجودة أن تملأ الفراغ الذي تُرك فيه الاقتصاد.

94%

هي نسبة صادرات النفط والغاز من الناتج المحلّي في الجزائر بحسب البنك الدولي


وقد تمثّل العقد الأوّل بعد الاستقلال الجزائري، بسعي الدولة إلى بناء اقتصاد موجّه، بهدف الإمساك بزمام مرافقه الأساسية. الزّخم الذي منحه الرئيس هوّاري بومدين لهذا المسار بعد استلام زمام السلطة في عام 1965 إثر انقلابه على الرئيس الأسبق أحمد بن بلّة، قام على اقتناع بأن الطريقة الوحيدة لتحقيق الاستقلال، تأتي من خلال تحكّم الجزائريّين بمواردهم الطبيعية. أي الغاز أولاً، ثم النفط بنسبة أقل، ومن خلال تحقيق التقدّم الصناعي. وهذا الأمر لم يكن ممكناً، في نظرية بومدين، إلّا من خلال اتّباع سياسة التأميم وإمساك الدولة بعجلة الاقتصاد.
في هذا السياق، شهدت الفترة الممتدة من عام 1965 إلى 1971 عمليّة توسّع مركّزة للقطاع العام. فكما ذُكر في كتاب جون إنتليس «الجزائر: مأسسة الثورة»، بدأت هذه العملية بقيام الدولة بإنشاء مؤسّسات صناعية جديدة. فكان إنشاء شركة سوناتراك في قطاع النفط عام 1965، وتبعها إنشاء شبكة شركات مكمّلة في القطاع نفسه. وحتى عام 1971 كانت الدولة قد تحكّمت بقطاع النفط والغاز كله. وبحلول عام 1967 كانت الدولة قد أنشأت 13 شركة، منها شركة الحديد وشركة الأنسجة وشركة التأمين. وفي الوقت عينه كان العمل جارٍ لتأميم الشركات الأجنبية. فبحلول 1966 كان القطاع المصرفي قد أصبح في كنف الدّولة، وتبعه قطاع التأمين وبعض المناجم. وخلال عامين لاحقين أمّمت الدولة 66 شركة من أصل 300 شركة فرنسية، عملت في مجالات متعدّدة مثل مواد البناء والأسمدة والإمدادات الكهربائية والمنسوجات والأطعمة.
وقد كانت الاستراتيجية التي اتبعتها إدارة بومدين، قائمة على استغلال عائدات النفط التي تجنيها الدولة لبناء قاعدة صناعية قويّة. وفي الوقت نفسه كان الهدف إقامة اقتصاد منتج، سعياً لتضييق هامش الاستيراد. وهذا بالفعل ما حصل، فمع نهاية حقبة السبعينيات، كان الاقتصاد الجزائري قد نما بشكل كبير، وقد توسّع معه تنوّع الإنتاج الصناعي في الدورة الاقتصادية. فمثلاً ارتفع إنتاج الحديد في الجزائر من 2.6 مليون طن في عام 1967 إلى 3.6 مليون في عام 1981، وزاد إنتاج الإسمنت من 0.7 مليون إلى 4.5 ملايين طن في الفترة نفسها. وفي عام 1981 كانت قد ظهرت صناعات جديدة مقارنة بعام 1967 مثل صناعة التراكتورات والمحرّكات والبطاريّات والبرّادات والتلفزيونات. هذه الأرقام وردت في دراسة لمحفوظ بنون بعنوان «تشكّل الجزائر المعاصرة».
وعلى غرار البلدان النامية الأخرى في ذلك الوقت، استندت السياسة الصناعية الجزائرية إلى إستراتيجية «التصنيع البديل للاستيراد». وهي تأثّرت بأفكار ألبرت هيرشمان بناءً على نموذج «تصنيع الصناعات». وهو نموذج كان يقوم على الاستثمار في الأنشطة واسعة النطاق التي تتطلب رأس مال كثيف، مثل الآلات الثقيلة، ومشتقات النفط، والمواد الكيميائية.
لكن غابت عن السياسات الاقتصادية لإدارة بومدين أهمية الاستثمار في قطاع الزراعة، لجهة تحقيق الأمن الغذائي بشكل محلّي، وبسبب غياب تلك السياسات ارتفعت واردات الغذاء بشكلٍ كبير. وقد كان هذا الأمر نتيجة لاعتقاد إدارة الدولة، في حينه، بأنّ نمو القطاع الصناعي كان يجب أن يحقّق قفزةً اقتصادية تشكّل رافعة لباقي القطاعات. إلّا أن هذا الأمر لم يكن ممكناً من دون تدخّل الدولة من خلال سياسات تخصّ القطاع الزراعي تماشياً مع استراتيجيتها الاقتصادية العامّة.

الشاذلي وخطّة التنمية
في نهاية السبعينيات شهد النموذج الجزائري تحولاً كبيراً، ولكنه لم يكن جذرياً من ناحية الإستراتيجية العامة القائمة على إعطاء الدولة سلطة كبيرة في الاقتصاد، إلا أن تبعات هذا التّحول على الإنتاج الصناعي ظهرت في مرحلة لاحقة. فبعد وفاة الرئيس بومدين عام 1978، انتقل الحكم للرئيس الشاذلي بن جديد. وقد أتى الشاذلي بخطّة إنمائية خمسيّة، كان شعارها «نحو حياةٍ أفضل». وقد كان الهدف من تلك الخطة التحوّل من التركيز السابق على الصناعات الثقيلة إلى الاهتمام بالاحتياجات الاجتماعية، لا سيّما في مجالات التعليم والصحة والإسكان، بالإضافة إلى تطوير الصناعات الغذائية والاستهلاكية. وأدّى هذا الأمر إلى خفض الاستثمار في الصناعات الثقيلة مقابل المزيد من الاستثمار في الصناعات الصغيرة الاستهلاكية. ويقول بعض الباحثين مثل بلعيد عبد السلام، وهو كان وزيراً للطاقة والصناعة بين عامي 1965 و 1977، في كتابه «الغاز الجزائري: الإستراتيجية والتحديات»، إن تخفيف الإنفاق على الصناعات الثقيلة من قبل إدارة الشاذلي، أتى قبل أن تصل هذه الصناعات إلى نضجها في دورتها الاقتصادية. بمعنى أنّ تقليص الاستثمار في الصناعات الثقيلة عطّل تقدّمها، وهذا الأمر كبّد الدولة خسارة النتائج المحتملة فيما لو تمّ وصول هذه القطاعات إلى مرحلة النضج.

كان أحد نتائج الإتفاق مع برنامج صندوق النّقد إلغاء القيود على حركة رأس المال وأتى ذلك في خدمة تحرير التجارة


وفي عام 1986، شهدت أسعار النفط انخفاضاً حادّاً انعكس سلباً على الاقتصاد الجزائري. فالاقتصاد القائم على عائدات النفط لدعم الصناعات الثقيلة، خسر 55% من عائداته الخارجية في تلك السنة. وقد تسبّبت هذه الأزمة بمشاكل اجتماعية تمثّلت بمعدلات بطالة مرتفعة، وتضخّم في الأسعار وفقدان لبعض السلع الأساسية. وهو ما أدى إلى حصول احتجاجات شعبية، أوصلت في نهاية المطاف إلى إلغاء نظام الحزب الواحد والتوجّه نحو نظام ديمقراطي، وكان ذلك في عام 1988.

النّظام المسخ
بعد إلغاء نظام الحزب الحاكم، أجرت الجزائر أوّل انتخابات في نهاية عام 1991، نتج عنها فوز جبهة الخلاص الإسلامية. فتدخل الجيش الجزائري ونفّذ انقلاباً، فأطاح بنتائج الانتخابات، ودخلت البلاد في أحداث داخلية في عام 1992. وتوقّف التقدّم الاقتصادي بسبب غياب السياسة الواضحة والهادفة. ونتيجةً لعدم سيطرة أي طرف من أطراف الصراع على البلد بشكل كامل، يمكّنه من فرض أجندة اقتصادية معينة. ومع انخفاض أسعار النفط مجدداً في عام 1994، وبالتالي انخفاض العائدات الخارجية ودخول البلد في وضع اقتصادي حرج، ومع دين سيادي بقيمة 25 مليار دولار، وخدمة دين بقيمة 70% من عائدات الدولة بالعملات الأجنبية، لم يكن أمام الجزائر إلا الدخول في اتفاق مشروط مع صندوق النقد الدولي.
وقد كان أحد نتائج الاتفاق مع برنامج صندوق النقد، إلغاء القيود على حركة رأس المال. وقد أتى هذا الأمر في خدمة تحرير التجارة، بشكلٍ يسمح للشركات الخاصّة بالاستيراد، وهو ما أثّر بشكلٍ كبير على تنافسية إنتاج الصناعة المحلية في الأسواق.


وفي المقابل، بحسب بسام فتوح وحكيم دربوش في ورقتهما «نفط شمال إفريقيا والاستثمار الأجنبي في تغيير أوضاع السوق»، فإن معظم الاستثمارات الأجنبية التي دخلت إلى البلد جاءت إلى قطاع النفط والغاز. فلم يتم دعم القطاعات الإنتاجية لتتمكّن من منافسة البضائع المستوردة. وأتى تحرير رأس المال قبل أي إجراء لإعادة هيكلة القوانين، ما فتح المجال أمام احتكارات من خلال الانتقائية في إعطاء تراخيص الاستيراد. هكذا خلقت طبقة اجتماعية جديدة: المستوردون. وهؤلاء كانوا أشخاصاً مؤثّرين في مراكز القرار، لذا كانوا يعملون على تعطيل أيّ قرارات تأتي بعكس مصالحهم التي تقوم على استيراد البضائع وإضعاف الإنتاج المحلي. ففي حين أتى برنامج صندوق النقد ليحفّز القطاع الخاص في الاقتصاد الجزائري، وهذا كان الهدف من تحرير حركة رأس المال والتجارة، كانت النتيجة إضعاف الشركات المملوكة للدولة وانعدام الاستثمارات في القطاع الخاص. وقد نتج عن ذلك نظام اقتصادي مسخ، لا يعتمد على تحرير الاقتصاد وإطلاق يد القطاع الخاص، ولا على استراتيجية تعتمد على تحكّم الدولة بالاقتصاد عبر شركاتها ومؤسساتها. هذا الأمر دمّر الإنتاج المحلي، حتى في الصناعات الثقيلة، وأتاح الاعتماد على الاستيراد والاستهلاك من خلال إيرادات النفط والغاز، وهو التعريف الفعلي للريع. هكذا تحوّل الاقتصاد الجزائري في التسعينيات إلى اقتصاد ريعي.
وجاءت النتيجة انخفاض الاستثمار في الصناعة من 59% من الناتج المحلي في عام 1980 إلى أقل من 4% من الناتج المحلي في عام 1997. وخلال تلك الحقبة، شهدت البلاد انخفاضاً هائلاً في قدرتها الصناعية وجودتها، حيث انخفض الناتج الصناعي إلى أقل من 5% من الناتج المحلي في عام 2015.

الإصلاح ممكن
القاعدة الصناعية التي يمكن أن يُعاد بناء الاقتصاد الجزائري عليها من جديد موجودة ومتوفرة. وهي الشركات التي تمتلكها الدولة والتي لا تزال موجودة. فهذه الشبكة من الشركات يمكن أن تمثّل فرصة لإعادة دوران العجلة الإنتاجية في البلد، بدلاً من الاعتماد على الاستيراد. كما أن الموارد اللازمة لتمويل إعادة الاستثمار في هذه القطاعات موجودة، وهي من إيرادات النفط والغاز. لكن يبقى أنّ على الدولة أن تحسم خيارها، فلا يمكنها البقاء في حالة الضياع بين السياسة الاقتصادية المرتكزة على أهمية دور الدولة في الاقتصاد، وبين سياسة تحرير الاقتصاد التي فرضها صندوق النقد في التسعينيات. فالبقاء في هذه الحالة لا يمكن أن ينتج عنه سوى اقتصاد ريعي، وهو أسوأ أنواع الاقتصادات. فالاعتماد الكلي على الموارد الطبيعية لتمويل الاستيراد ما هو إلّا فرصة لفرض هيمنة رأس المال الغربي على البلد، وهذا يفسّر تماماً أهمية أفكار الرئيس بومدين وإدارته في الستينيات، وهي أن الاستقلال لا يمكن أن يتحقق بشكلٍ كامل إلّا إذا كان استقلالاً اقتصادياً أيضاً. لكن من الواجب أيضاً التعلّم من الأخطاء التي ارتكبتها إدارة بومدين، فالاهتمام بالقطاع الزارعي هو أمر أساسي لبناء اقتصاد سليم قائم على الإنتاج.

مرجع:
"تطور أو شراء للوقت؟ ريع النفط والتحول الاقتصادي والاستمرار السياسي في الجزائر" - تينهينان القاضي