سعادة الشامي. هو الاسم المقترح لنيابة رئاسة الحكومة باعتباره واحداً من رجال الـIMF وذو خلفيةٍ قومية سورية. هو قطعاً أحد رجال النيوليبرالية التقنيّين. وهو قطعاً ليس منتسباً إلى الحزب القومي السوري أو مقرّباً منه وليس حتى مقترحاً من قيادته، بل جاء اقتراح اسمه بطريقةٍ احتيالية عبر الرئيس السابق للحزب أسعد حردان بدعمٍ من رئيس المجلس النيابي نبيه بري. أما الانطباعات السائدة عن الشامي لا تتعلق بدماثته الأخلاقية التي لا غبار عليها، ولا بسيرته الأكاديمية التي تستند إلى قاعدة من ست سنوات تعليم في الجامعة الأميركية في بيروت، بل في الفترات التالية من خبرته المهنية التي وصمت تأهيله لهذا التوزير. أي عمله لمدّة عشرين عاماً في صندوق النقد الدولي، وبعدها خمس سنوات في منصب الأمين العام لهيئة الأسواق المالية في لبنان.
نهاد علم الدين ــ لبنان

أمضى الشامي معظم فترة عمله في الصندوق، كمنسّقٍ في مركز المساعدة التقنية الذي يقدّم المساعدة لعددٍ من الدول بينها لبنان منذ 2004. في هذه الفترة، كان الرجل مقرّباً من الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة. لاحقاً صار من موقعه في الصندوق، بمثابة اليد اليمنى لوزير المال السابق جهاد أزعور، ولا سيما بعدما طلب هذا الأخير المساعدة على التحضير لمؤتمر باريس 3. كان دائماً في الظلّ. وكان دائماً تقنياً. منطلقاته النيبوليبرالية لا نقاش فيها. مع السوق المفتوحة. مع الخصخصة. مع «الحوكمة». مع «الشفافية»… وسائر المصطلحات المخادعة التي يستخدمها أبناء هذا الفكر السّاعي لتحرير الدولة من كل وظائفها الاجتماعية والاقتصادية. في إحدى أوراقه المنشورة، يحتفي الشامي بأن لبنان كان يعدّ قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، من البلدان القليلة في العالم التي انتهجت السوق الحرّة على قاعدة دعه يعمل دعه يمر (laisser-faire) «بكامل طاقته تقريباً». ويزيد على ذلك: «يقول الكثير من الناس بأن أحد أسباب نمو الاقتصاد اللبناني هو موقف الحكومة الليبرالي تجاه الاقتصاد».
إذاً، هو ليس سوى أداة تنفيذية لهذا الفكر ورجالاته. لا داعيَ للتدقيق في الكثير من التفاصيل التقنية عن خلفياته الأيديولوجية التي تقدّس السوق وتمقت الدولة. بالنسبة له لا نقاش في أن تأسيس لبنان دولة للتجّار، تحوّل لاحقاً إلى اقتصاد سوق استهلاكي عزّزته الحرب الأهلية وفاقمت أشكال الفساد فيه. لا نقاش في كل ذلك، لأن السّوق يقرّر. والسوق في لبنان هي الريوع التي يجب تنظيمها. الريع المالي، الريع العقاري.
ليس لهذه الأسباب وحدها يصنّف اقتراح اسمه خطيراً. فالمخاطر تأتي أيضاً من سلوكه المرتبط بالفكر الذي يحمله. فهو الرجل الذي يقوم بالمهمات عن غيره بصمت. تماماً كما فعل أيام الإعداد لمؤتمر باريس 3. قدّم كل التحضيرات اللازمة لتبرير تسوّل لبنان وفق برنامج إصلاحات غير ملزم. كان يعلم أنه لو لجأ لبنان إلى صندوق النقد الدولي لكانت شروط الصندوق أصبحت ملزمة. وللمناسبة هي الإصلاحات نفسها التي يروّج لها. لكن الشامي أوجد تبريراتٍ للدول المانحة من دون أن ينخرط لبنان في برنامج مع الصندوق. هذه الخدمة قدّمها للنخبة السياسية التي رعته لاحقاً وترعاه حالياً. ففي السنوات التالية، صار اسم سعادة الشامي مطروحاً للعديد من المواقع الشاغرة التي تتقاتل عليها الطوائف. اقتُرح اسمه للجنة الرقابة على المصارف في نهاية 2009. فشل رعاته في إيصاله. وفي 2013، اقترح اسمه للأمانة العامة لهيئة الأسواق المالية. وبعد اتفاق بينه وبين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يرأس الهيئة، قرّر الشامي الانخراط في اللعبة. إلّا أنه لم تمضِ بضعة أسابيع على تعيينه، حتى بدأ الحاكم يفرض مستشاره رجا أبو عسلي كأمين عام فعلي في الهيئة. وبعدها بدأت تصدر قرارات تقوّض صلاحيات الأمانة العامة. انتهى الأمر بأن سلامة مارس التنكيل المؤسساتي على الشامي. هذا الأخير تقبّل الأمر من دون أن يهضمه. وحتى عندما بلغ الأمر ذروته مع التعدّي على الشامي جسدياً لم يعترض هذا الأخير. فقد تلقى الشامي صفعةً من رجل أمن يتبع لسلامة. يشكّك الكثيرون بأن هذه الصفعة كان محفّزة من الحاكم.
رغبته في الحصول على منصبٍ في لبنان كانت مثيرة للاهتمام لذا إن التهافت عليه من الرؤساء لا يبرّرها إلّا كون الرجل لا يحمل قراره بيده


خطورة تعيين الشامي، أنه مستعد للقيام بكل ما يلزم للوصول إلى المنصب. والخطورة في أنه لا ينوي القيام بأي مواجهة في عزّ الصراع الحالي بين قوى السلطة التي «تقتل» الناس عبر تضخيم الأسعار ولا تريد من الإصلاح سوى حصّةً إضافية مما يمكن اقتراضه أو تسوّله على هذا الأساس. هو آدمي كما يصفه كثيرون. وهو أيضاً تقني. وهو أيضاً يعمل بشكل مؤسساتي منظّم، لكنه لا يملك أي كفاءة سياسية لصناعة أي قرار أو اتخاذه.
رغبته في الحصول على منصب في لبنان، كانت مثيرة للاهتمام. لذا، إن التهافت عليه من رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، ومن الرئيس المكلّف السابق سعد الحريري، لا يبرّرها إلا كون الرجل لا يحمل قراره بيده.
يقول وزير السابق محمد الصفدي في تقديم التقرير السنوي للمركز لعام 2012، إن مركز المساعدة التقنية التابع لصندوق النقد الدولي يغطّي من خلال ورشات العمل والتدريب مجالات: الرقابة على المصارف، إدارة الدين، المنهجيات الإحصائية، إدارة الواردات، الإدارة العامة المالية. المشكلة أن هذه المساعدات التي نسّقها الشامي لم تكن ذات قيمة يوماً. قبل الأزمة لم تكن هناك أي أرقام إحصائية دقيقة عن لبنان، سواء في ميزان المدفوعات، أو تحويلات المغتربين، أو غيرها من الإحصاءات المصرفية التي تقوم بها لجنة الرقابة على المصارف. فهل أدّت هذه المساعدة التقنية إلى اكتشاف الأزمة؟
في مقابلة مع الرئيس السابق للجنة سمير حمود، يقرّ هذا الأخير بأنه والحاكم كانا يعلمان منذ 2015 أن النظام آيل إلى الانهيار، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للشامي. ففي ورقة بحثية صادرة في 3 كانون الأول 2019 عن مركز الأبحاث في بنك الكويت الوطني والذي يرأسه سعادة الشامي منذ ترك الأمانة العامة لهيئة الأسواق المالية لغاية اليوم، يصرّ الشامي على أن الأزمة هي أزمة مالية عامة يمكن معالجتها عبر خفض فوائد الدين العام. حتى عندما انهار البلد وأفلس، ما زال الشامي يمارس تقنياته بحسب «كتاب» صندوق النقد. لم يقدّم توصيفاً حقيقياً لما يحصل في لبنان من انهيار للنظام كالذي قدّمه، مثلاً، سمير حمود عندما أشار إلى أن المشكلة متّصلة بتحويل الموجودات الخارجية إلى موجودات محليّة منذ انهيار الثمانينيات. مراجعة حمود ذو الخلفية اليسارية - اليميني عملياً، تقف عند حدود الثمانينيات، بينما لا مراجعة فعلية يقوم بها الشامي. في الواقع، هناك عقلٌ حكم لبنان منذ نشأته. هو عقل دولة التجّار التي كان عليها أن تقوّي عملتها بعد الانفصال مع سوريا لتعزيز الاستهلاك. هذا العقل استأنف مساره معززاً بنتائج الحرب الأهلية من خلال تثبيت سعر العملة تجاه العملة الأجنبية. الحرب الأهلية أفضت إلى دولرة السوق. وبعدها أتت الحريرية لتثبت استعمال الدولار كعملة محلية، والاستدانة بها، وخلق كتلٍ منها. هيمنة هذا الفكر هي التي تجعل «النخب» السياسية تفكر بالشامي كنائبٍ لرئيس الحكومة ورجلٍ من رجال صندوق النقد الدولي. يبحثون عمن يمكن أن يتعامل مع الصندوق ويتكلّم لغته لتسويق ما يريدونه حصراً. فهل هم يريدون الانخراط مع الصندوق، أم تحييده كما فعل الشامي أيام باريس 3؟ يريده عون لأنه على خلافٍ مع سلامة. ويريده ميقاتي لأنه يفهم لغة الصندوق. ويريده الحريري لأنه من أتباعه المخلصين. يريده الكثيرون، لكن ها هو يأتي باسم الحزب القومي السوري الاجتماعي بشكلٍ موارب. ما تريده «النخب» السياسية في لبنان، منفصلٌ عن الواقع. الواقع هو أن الأمر كلّه يبدأ في إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشقّيه: مصرف لبنان، المصارف. لكن الشامي في 2019، كان يشير إلى المشكلة بوصفها مسألة تقنية لا تتعلق أبداً بودائع المصارف التي «لا يجب أن تخضع لأيّ نوع من الهيركات» على حدّ تعبيره. هل يعلم الشامي أن هذه الودائع لم تعد موجودة كعملات أجنبية؟ لا أحد يمكنه أن يدفع هذه الودائع. يمكن دفع قسمٍ بسيط منها، كما يحصل حالياً في التعميم 158، لكن إعادة دفعها كاملة هو أمر غير منطقي أصلاً لأن هذه الودائع باتت تساوي أضعاف أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. تسييلها اليوم يعني إشعال سعر الدولار مقابل الليرة بلا حدود. أصلاً هذا ما يفعله سلامة اليوم. الحلّ التقني الذي يقترحه الشامي في ورقته يكمن في الكابيتال كونترول (قيود على رأس المال). عن أي كابيتال كونترول كان يشير الشامي؟ أصلاً لم يعد هناك رأس مال لفرض القيود عليه. ما كان يشير إليه الشامي يمارسه اليوم سلامة على طريقته: التحكّم في الاستيراد، ومن خلال ذلك يتحكّم بكمية الدولارات التي تخرج من لبنان. الشامي كان يتحدث عن رفع الأسعار الداخلية. لكن ها هو سلامة رفعها ويواصل القيام بذلك. هما من مدرسةٍ واحدة مع فرقٍ واحد أن سلامة يقوم بالأمر باسم قوى السلطة أو «النخب» السياسية. لا تستحق هذه القوى صفة «النخب». الشامي سيقوم بالأمر بشكلٍ مؤسّساتي لمساعدة سلامة، رغم خلافاته معه، وقوى السلطة على مواصلة وصفة «الإفقار» مقابل إعادة إحياء النظام المنهار. النظام الذي حمل طوال الوقت سبب مأساتنا اليوم، يسعون إلى إعادة إنتاجه عبر وجوهٍ تقنية مثل سعادة الشامي، حنين السيد التي تعمل حالياً في البنك الدولي، وآخرين...

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.