غاية هذا المقال استكشاف أفق تصحيح أثر التضخّم على ميزانيات المؤسّسات بعد الانهيار. قد تكون ظروف التصحيح متوافرة، إنما شروط تحققه تتطلب مقاربة تنطلق من حسم خيارات التعامل مع تسعير الأصول والالتزامات المتداخلة بين القطاعين العام والخاص المسجلة على أساس سعر صرف يوازي 1507.5 ليرة. وبالتالي فإن تصحيحها لتصبح موازية للقيم الحقيقية، يتطلّب حسماً بشأن سعر الصرف وخيارات التعامل مع الدين العام والودائع. كل قرار ينعكس على الآخر. شطب قسم من السندات، أو تسديد ديون الحكومة لمصرف لبنان، أو تسديد ديون مصرف لبنان للمصارف... كلّه ينعكس على قيم الودائع والقروض، ما ينعكس على الشركات والأفراد. إذاً، هل تصلح القيم الحالية لقياس المركز المالي الصحيح والعادل للمؤسّسات الاقتصادية؟ هل تتوافر ظروف وشروط إعادة تخمين الأصول؟ كيف تعامل لبنان سابقاً مع تداعيات الانهيار النقدي؟
المحور الأساسي يكمن في إعادة تخمين الأصول. فمهما كان شكل المؤسسة الاقتصادية (مؤسّسة فردية، شركة أشخاص، شركة مساهمة، شركة محدودة المسؤولية)، يترتّب عليها أن تُصدر بيانات تعكس بأمانة أوضاعها المالية ومؤشرات الأداء والكفاءة والربحية والإنتاجية. أبرز هذه البيانات، هو بيان المركز المالي الذي يتضمّن عناصر الموجودات والمطلوبات والرساميل الخاصة، بالإضافة إلى حساب الأرباح والخسائر. تقدّم هذه البيانات وصفاً واضحاً ودقيقاً وشاملاً لأوضاع المؤسسة، استناداً إلى القواعد المحاسبية المحلية والدولية، وأهمها مبدأ القيمة الاسمية. فبموجب هذا المبدأ، تسجّل الموجودات والمطلوبات (الأصول والالتزامات) وفقاً لقاعدة الكلفة التاريخية بسعر كلفة الحصول عليها أو بسعر كلفة إنتاجها، إلا أنّه يمكن إعادة تخمين الأصول الثابتة، جزئياً أو كلياً، من أجل إظهار المركز المالي الحقيقي، خصوصاً في فترات التضخّم النقدي حين تصبح القيم الدفترية (أو الكلفة التاريخية للموجودات)، غير متّفقة مع قيمتها الفعلية (القيمة السوقية). ويخضع ربح التحسين الناتج من إعادة التخمين، وهي أرباح مجمّعة يستغرق تكوينها سنوات عدّة، للضريبة.
في الواقع، من بين أسباب مختلفة تلجأ إليها المؤسسات لإعادة تخمين أصولها ومطلوباتها مثل انضمام أو انفصال شركاء، أو تغيير في نسب توزيع الأرباح والخسائر، أو اندماج الشركة، إلا أنه عندما تطرأ تغيرات كبيرة على قيم الأصول الثابتة قد ترغب المؤسسة في إظهار ذلك، علماً بأن هناك آراء تشير إلى أنه يجب إلزام المؤسسات بإعادة التخمين ولا سيما في فترات التضخم النقدي.

إعادة التخمين تاريخياً
المؤسسات في لبنان مرّت بهذه التجربة مراراً. بتاريخ 19/07/1980 صدر القانون رقم 27/80 الذي أجاز، اختيارياً، لشركات الأموال وشركات الأشخاص والمؤسّسات الفردية الخاضعة للتكليف على أساس الربح الحقيقي وشركات الأموال المكلفة على أساس الربح المقطوع، إعادة تخمين ما لديها من عناصر أصول ثابتة مرّة كل خمس سنوات.
تكرّر الأمر في مطلع 1993 حين أجيز لمرة واحدة فقط، إجراء عملية إعادة تقييم استثنائية لعناصر الأصول الثابتة (بما فيها الأسهم وسندات الدين وحصص الشركات) وكذلك العقارات وبعض الأصول الأخرى التي هي موضوع متاجرة، لتصحيح أثر التضخم النقدي الناتج عن تدنّي سعر الصرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية، وعن التغيير اللاحق بقيم الأصول والموجودات ابتداء من عام 1975. وقد وسع المشترع مروحة المستفيدين لتشمل جميع المكلفين بضريبة الدخل، والأموال موضوع المتاجرة، علماً بأنه مدّدت مهل العمل بإعادة التقييم الاستثنائية هذه حتى 31/12/2007، بعد تعديل في أسس إعادة التخمين وفق الآتي:
- اعتماد عملية إعادة تقييم الأسعار الرائجة بتاريخ إجراء العملية.
- تقييم الأصل الثابت على أساس تحويل قيمته الصافية (القيمة الدفترية ينزل منها الاستهلاك المتراكم) إلى الدولار الأميركي على أساس سعر الصرف بتاريخ الشراء ويضرب الحاصل بسعر الصرف الرسمي بتاريخ إجراء عملية إعادة التخمين، ولا يجوز أن تزيد قيمة العنصر بعد إعادة تقييمه عن السعر الرائج لهذا العنصر بتاريخ إجراء إعادة التخمين.
تقييم كل عنصر من الأسهم والسندات وحصص الشركات والعقارات موضوع المتاجرة والموجودات الثابتة المادية الأخرى عندما تكون موضوع متاجرة على أساس السعر الرائج ويجب أن لا تتعداه.
وفي عام 2017 صدر القانون رقم 64 تاريخ 20/10/2017 والقرار التطبيقي رقم 517/1 تاريخ 17/04/2018 الذي سمح للمؤسسات بإعادة تخمين أصولها الثابتة المادية وغير المادية وأصولها المالية، أي أن إعادة التقييم شملت لأول مرة الأصول المعنوية.
كذلك أجيز للمكلفين بضريبة الدخل، من خلال قانون الموازنة العامة رقم 66 تاريخ 03/11/2017 لمرة واحدة وباستثناء الشركات العقارية، إجراء إعادة تقييم استثنائية لعناصر الأصول الثابتة فقط، لتصحيح أثر التضخّم النقدي شرط أن لا تزيد قيمة الأصول المُعاد تقييمها عن سعر السوق بتاريخ 31/12/2015.
في ظل غياب الاستقرار في سعر الصرف وفي مؤشّر الأسعار العام يتعذّر تحديد أسس إعادة التخمين، وهو جوهر عملية إعادة التخمين


أيضاً، أجاز قانون موازنة عام 2019 رقم 144 تاريخ 31/07/2019 للمكلّفين بضريبة الدخل باستثناء الشركات العقارية ولمرة واحدة فقط، وضمن مهلة تنتهي في 31/03/2020، إجراء إعادة تقييم استثنائية لعناصر الأصول الثابتة لتصحيح أثر التضخم النقدي شرط أن لا تزيد قيمة الأصول المُعاد تقييمها عن سعر السوق بتاريخ 31/03/2020… وقد مُدّد العمل بهذا القانون لغاية 31/12/2021، غير أن هذا التمديد لا يفيد، لأن التضخم وتدنّي سعر صرف الليرة اللبنانية ما زالا مستمرين.

بين الأمس واليوم
إن جميع القوانين التي أجازت إعادة التقييم أجازت للمصارف العاملة في لبنان إجراء إعادة تقييم استثنائية لعناصر الأصول الثابتة المادية والمالية شرط أن لا تتعارض مع أحكام قانون النقد والتسليف وسائر النصوص التنظيمية والتطبيقية الصادرة عن مصرف لبنان.
لذا، فإنّ السؤال المطروح الآن: هل لبنان بحاجة إلى إعادة تخمين أصول المؤسسات الاقتصادية؟ هل الظروف ملائمة؟ هل الشروط متوافرة؟
في الواقع، لجأت السلطات في لبنان إلى تنظيم عملية إعادة التخمين ووضعها تحت رقابة وإشراف السلطة الضريبية، بهدف تصحيح قيم الأصول الثابتة لتتناسب مع معدّلات التضخم السنوي، وتدنّي سعر صرف العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية والذي كانت له الأهمية الأولى بالنسبة إلى العوامل الأخرى المؤدية إلى التضخم. ففي عام 1978 كان سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي يساوي 2.93 ليرة، وأصبح في عام 1980 نحو 3.43 ليرة، واستمر التدهور حتى عام 1992 ليبلغ سعر الليرة في تشرين الأول نحو 2519 ليرة كمتوسط (تجاوز أحياناً الـ2700 ليرة)، بعد ذلك بلغ في شهر كانون الأول 1993 نحو 1714 ليرة إلى أن استقر على 1507,5 ليرة.
في السابق كانت الظروف مناسبة والشروط متوافرة. الظروف هي تدنّي القيم بسبب تدنّي سعر صرف العملة الوطنية من ناحية وارتفاع الأسعار من ناحية أخرى، أما الشروط فتكمن في الاستقرار النسبي في معدلات الأسعار وفي سعر صرف العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية. هذا ما حصل في عامَي 1980 و1993 حتى عام 2007 ثم عام 2017 و2019.
أما حالياً، فإن الظروف متوافرة مع تسجيل معدّل التضخم السنوي نحو 84,90% في 2020 وفقاً لإدارة الإحصاء المركزي، وفقدان الليرة أكثر من 91% من قيمتها، وحيث إن قيم الموجودات والمطلوبات في موازنات المؤسّسات الاقتصادية ولغاية 31/12/2019 مسجّلة في محاسبة المؤسسات على أساس سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية أي 1507,5 ل.ل فإن هذه القيم لم تعُد صالحة لقياس المركز المالي الصحيح والعادل للمؤسسات الاقتصادية، وبالتالي أصبح ضرورياً تصحيح أثر التضخم على هذه الميزانيات.
لكن هل الشروط متوافرة؟ الشرط الأول، أي توافر الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية، غير موجود لغاية الآن. والشرط الثاني، أي استقرار مؤشّر الأسعار العام غير متوافر أيضاً.
وبفقدان هذين الشرطين، يتعذّر تحديد أسس إعادة التخمين وهي جوهر عملية إعادة التخمين.

خيارات محدِّدة
هناك شرط آخر لا يقلّ أهمية يتعلّق بموقف الحكومة من الدين العام، ولا سيما سندات الدين العام بالعملة الوطنية أو بالعملات الأجنبية (يوروبوند). فالدين العام موزّع بين سندات بالعملة اللبنانية وسندات بالعملة الأجنبية، وبين سندات يحملها مصرف لبنان وسندات تحملها المصارف التجارية ولها آجال استحقاق قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وبالتالي تحديد ما يُعتبر منها أصلاً ثابتاً مالياً وما يعتبر أصلاً مالياً متداولاً.
وبما أن الحكومة توقّفت عن دفع السندات بالعملة الأجنبية، فإنه يقتضي أن تعلن الحكومة موقفاً صريحاً تجاه إعادة هيكلة الدين العام بإلغائه كلياً أو بشطب جزء منه. عندئذ يعتبر القسم الملغى خسائر تتحمّلها المصارف وتنزلها من أرباحها الخاضعة للضريبة، وهنا يقتضي أيضاً تحديد حدود القبول بهذه الخسائر؛ فهل يقتصر القبول على أصل الدين أم على الدين مع فوائده المتراكمة؟ ويقتضي أيضاً على الحكومة أن تحدّد إذا كان يجوز استهلاك الدين العام الملغى دفعة واحدة وفي سنة مالية واحدة أو على عدة سنوات. كذلك، يجب تحديد القسم من الدين غير الملغى وبالتالي تحديد أسس إعادة تخمينه، فهل يُعاد التخمين على أساس سعر صرف الليرة أم على أساس القيمة السوقية ولا سيما بالنسبة إلى سندات اليوروبوند.
أما بالنسبة إلى الودائع فهي نوعان: ودائع بالليرة، وودائع بالعملات الأجنبية. وكلّ منها نوعان: ودائع الجمهور والمؤسسات في المصارف التجارية، وودائع هذه المصارف في المصرف المركزي. لذا، على الحكومة والمصرف المركزي حسم مسألة إعادة الودائع إلى المصارف التجارية مقتطعة (مع هيركات) أو كاملة؟ وعلى أي أساس يُعاد تخمين الرصيد الباقي على أساس سعر صرف الليرة؟ وبأي سعر؟ كذلك على الحكومة والمصرف المركزي والمصارف التجارية حسم مسألة إعادة الودائع إلى المودعين كاملة أو مقتطعة. ويترتب أيضاً تحديد القسم غير المعاد من الودائع باعتباره أرباحاً خاضعة للضريبة بعد إعادة تخمينه. والأمر نفسه يسري على قروض الزبائن سواء كانت بالليرة أو بالعملات الأجنبية.
هل ستعمد الحكومة والمصارف إلى اعتبار هذه الديون جيدة؟ وبالتالي هل يعاد تخمينها على أساس سعر صرف العملة الوطنية، أم أنهما سيقرران أن جزءاً من هذه الديون أصبح مشكوكاً في تحصيله، وبالتالي تكوين مؤونة هبوط قيمته واعتباره من الخسائر اللاحقة بالمصارف؟ وهل يمكن قبول تنزيل هذه المؤونات مرّة واحدة وفي سنة مالية واحدة أم سيتم توزيعها على عدة سنوات؟ وبالتالي على أي أساس سيُعاد تخمين القسم الباقي من الديون؟
أما بالنسبة إلى المخزون السلعي، فإن قواعد المحاسبة الوطنية ومعايير المحاسبة الدولية تجيز تكوين مؤونات لهبوط أسعار المخزون فقط، ولا تجيز تنزيل هذه المؤونات من الأرباح الخاضعة للضريبة، لأن المخزون هو موضوع متاجرة ويتحقق ربحه أو خسارته عند البيع فقط.
إن ظروف تصحيح أثر التضخم على ميزانيات المؤسسات الاقتصادية متوافرة، لكن شروط إعادة التخمين للتصحيح غير متوافرة. ندعو الحكومة والمصرف المركزي والمصارف التجارية والمؤسسات الاقتصادية إلى فتح حوار ونقاش حول الموضوع منذ الآن.

* النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان، مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المالية، مدير المؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية، مدير مركز البحوث الاقتصادية



◄ الأصول الثابتة تقسم إلى ثلاث فئات:
- الأصول الثابتة المعنوية: الخلو، الشهرة، الزبائن، مصاريف البحث والتطوير، براءات الاختراع، الإجازات، العلامات، القيم المماثلة.
- الأصول الثابتة المادية: الأراضي، الأبنية، التجهيزات الفنية والآلات الصناعية، آليات النقل، أدوات مكتبية ومعلوماتية وأثاث.
- الأصول الثابتة المالية: سندات المشاركة والمجمّدة والقروض الطويلة والمتوسطة الأجل.

◄ هناك رأي يشير أنه يكفي تعديل الأسعار السنوية وفقاً لمؤشر الأسعار العام من أجل إجراء تقييم موضوعي للأصول الثابتة. لكنّ مؤشر الأسعار لا يمثّل حلاً كافياً لأن الأصول الثابتة متعدّدة الأوضاع والأنواع ويمكن أن يطال التحسين كلّ عنصر منها بصورة مختلفة عن العنصر الآخر.