لم تعد الأجور تكفي لتغطية المتطلّبات الأساسية للحياة. فالعامل عليه أن يدفع فوق قيمة أجره ليتمكن من العيش. بمعنى ما، هذا يعني أن الأجور أصبحت سلبية. نعم، يمكن أن تصبح الأجور سلبية، كما يحدث مع معدلات الفائدة (المثال لتوضيح المسألة وليس لقياسها). ففي بعض الاقتصادات تكون معدلات الفائدة مرتفعة، وفي بعضها منخفضة، لكنها في اقتصادات أخرى تكون سلبية، أي يجري الاقتطاع من الأموال للسماح بادّخارها. الأمر نفسه يحصل مع الأجر، أي أنه منخفض في بعض الاقتصادات ومرتفع في بعضها الآخر، لكنه يكون سلبياً، أي أن العامل يخسر من أصل قوّة عمله. للتبسيط، المسألة على النحو الآتي: قوّة العمل هي رأس مال العامل الوحيد، وبالتالي، إن إعادة إنتاج قوّة عمله، تتطلّب أن يكون مردود قوّة العمل كافياً لتشغيل الفرد، وصيانته أيضاً. تشغيل الفرد يتطلب الغذاء، بينما استمرار قوّة عمله يتطلب «الصيانة» مثل الرعاية الصحية والراحة وسواهما. لذا، عندما تكون عملية إعادة إنتاج قوّة العمل، أو رأس مال العامل ناقصة صيانة الفرد، يصبح الأجر سلبياً. أي أن مردود قوّة العمل ليس كافياً لصيانتها، وبالتالي يكون العامل أمام خيارات محدودة من بينها انعدام الحصول على الرعاية الصحية مثلاً، وإن حصل على رعاية صحية ما، فإنه سيحصل على نوعية سيئة من الخدمة وجودة أدنى، أو أنه سيضطر أن يرهن مستقبله ومستقبل عائلته، وقوّة عمله المستقبلية مقابل الاقتراض لتمويل الحصول على الرعاية الملائمة. يمكن قياس هذا المثال على التعليم أيضاً، وعلى نواحي الحياة الأخرى كالغذاء والملابس والعناية الشخصية... هذا ما يحصل في لبنان تحديداً. القسم الأكبر من الأجور في لبنان صار سلبياً بعد نحو سنتين من الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي، والتداعيات المريرة التي خلّفها انتشار جائحة كورونا، ثم انفجار مرفأ بيروت، وانعدام الاستقرار السياسي. كل هذه العوامل وربما غيرها أيضاً، تُمهّد لانهيار المجتمع بعد انهيار النقد والأجور.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بحسب الأرقام الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي، يبلغ متوسط الأجور في لبنان (معدل كل الأجور) 1.18 مليون ليرة. تعرّض هذا الأجر إلى تضخّم بمعدل 253% منذ مطلع 2019 ولغاية أيار 2021، أي بات يوازي فعلياً نحو 331 ألف ليرة. هذا هو الأجر الحقيقي حالياً وهو أقلّ من الحد الأدنى للأجور.
أكثر من ثلث هذا الأجر يذهب لشراء الخبز، بينما الباقي لا يغطي أكثر من ثلاث صفائح بنزين. ماذا عن الغذاء؟ سعر كيلوغرام لحمة البقر بات يبلغ 150 ألف ليرة، أي نصف الأجر الحقيقي، وهو بالتأكيد لا يكفي لشراء حذاء أو بنطلون جينز للأولاد...
قد تكون مقاربة الأجر الحقيقي ليست كافية لاختزال كلفة المعيشة في لبنان، لأن الدعم يمثّل جزءاً أساسياً من هذه الكلفة. لكن في الواقع أن تضخّم الأسعار يتضمّن أيضاً كلفة الدعم، أي أن معدل التضخّم سيكون أكبر بكثير إذا لم تُحتسب كلفة الدعم ضمن سلّة استهلاك الأسر التي تمثّل قاعدة احتساب تضخّم الأسعار، وبالتالي مع رفع الدعم بشكل جزئي أو نهائي، سترتفع معدلات التضخّم أكثر فأكثر خلال الفترة المقبلة وستؤدي إلى انخفاض إضافي في قيمة الأجر الحقيقي. ولكنْ، اليوم هناك سؤال أساسي مطروح: ما هي كفاية الأجر الحقيقي قياساً على خطوط الفقر؟
خطّ الفقر الأعلى كان يبلغ 21105 ليرات يومياً، وشمل في عام 2019 نحو 27% من مجموع المقيمين في لبنان، إلا أن التقديرات عن عام 2020 تشير إلى أنه بات يشمل أكثر من 45% من المقيمين، وهذه النسبة عرضة للزيادة في عام 2021. على أي حال، إن انعكاس تضخّم الأسعار على خط الفقر الأعلى يجعله موازياً لنحو 74500 ليرة يومياً بسبب تضخّم الأسعار بين عام 2019 وأيار 2021. هذه الكلفة تتطلب شهرياً نحو 2.2 مليون ليرة شهرياً، أي ما يوازي تقريباً 6.7 أضعاف الأجر الحقيقي. الفرق بينهما، يدفعه العامل حالياً من مدّخراته أو من قوّة عمله. فهو يخسر من صحته ومن تعليم أولاده ومن مستقبله من أجل الحصول على كفاية الحد الأدنى من الضروريات للعيش. وإذا قسنا الأمر على خطّ الفقر الغذائي الذي كان يبلغ 12060 ليرة ومع التضخّم صار 42500 ليرة، فإن كلفته الشهرية تبلغ 1,277,154ليرة أي 3.8 أضعاف الأجر الحقيقي، وبالتالي لم يعد الأجر الحقيقي كافياً لبلوغ حافة الفقر المدقع.
في هذا السياق، إن رفع الدعم، بما يعنيه من رفع للأسعار الداخلية، هو خطيئة، والفقر بكل نواحي الحياة سيكون نمطاً في يوميات المقيمين في لبنان. هذا النمط أنتجته قوّة الانهيار ومفاعيله الممتدة على فترة زمنية طويلة. ففي آذار 2019 بدأت الإرهاصات الأولى لاختلال سعر الصرف، لكن سبقتها في عام 2016 الهندسات المالية التي كانت تشير بما لا لبس فيه إلى أن النظام القائم على سعر الصرف الثابت سينكسر قريباً. بحسب البنك الدولي فإن سنة الانهيار هي سنة 2018 ومنذ ذلك الوقت بدأ التدهور يجتاح نوعية الحياة اليومية. الأجر الحقيقي صار سلبياً، والناتج الفردي خسر 40% من قيمته، أي أنه عاد 20 سنة إلى الوراء وإعادته إلى وضعه السابق قد تأخذ 19 سنة كما أشار البنك الدولي. هذه الخسارة هي اقتصادية، وهي تصيب صميم الأجور في لبنان. تصيب الأسر المتوسطة التي انزلقت إلى خطوط الفقر أو ما زالت على هوامشها، والفقراء الذين أصيبوا إصابات بالغة قد لا تكون إصاباتهم قابلة للترميم ولو بعد 19 سنة. الوقوف في الصف للحصول على سلعة ما أو على خدمة ما بات أمراً مألوفاً في الحياة اليومية مثله مثل ارتفاع سعر الدولار وتضخّم أسعار السلع والخدمات. كل ذلك يدفع نحو العنف والهجرة.