أصبح كلام قوى اليمين عن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها فنزويلا والذي يتركّز حول فكرة أن الاشتراكية تنتهي دائماً إلى الفشل، كلاماً مبتذلاً. يُعرف هذا الأمر بـ«الدعاية الفنزويلية»، وهو تحوّل ببطء، إلى تكتيك يميني يسهل التنبؤ به ومملّ، بل يبدو بمثابة ذريعة في إطار محاولة تشويه سمعة اليسار، وحتى الأكثر اعتدالاً. فمثلاً، في شهر تشرين الثاني 2018 وبعد اقتراح قدّمته مجموعة من النواب الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي لمشروع قانون إنشاء نظام رعاية صحية شاملة - التي تملكها كل الدول الصناعية المتقدّمة باستثناء أميركا - ردّ ترامب على هذا الاقتراح بأنه «سيكون كارثة على بلدنا. سيحوّل بلدنا إلى فنزويلا».لطالما واجه المحللون اليساريون «الدعاية الفنزويلية» عبر التفسيرات الحقيقية التي لا تعدّ ولا تحصى لأسباب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بفنزويلا منذ 2014. فعلى سبيل المثال، يقول كايلب موبين أن انخفاض أسعار النفط كان عاملاً أساسياً في الانهيار الاقتصادي في فنزويلا. هذه النقطة لا جدال حولها نظراً إلى اعتماد فنزويلا بشكل كبير على النفط الذي اكتُشف هناك منذ 1920، وهذا الاعتماد المفرط أنتج اقتصاداً غير مستقرّ يتميز بنوبات منتظمة من الفوضى الاقتصادية الناجمة عن انخفاضات مفاجئة في أسعار النفط الخام. ففي أوائل الثمانينيات، وخلال فترة حكومة لويس هيريرا اليمينية، وقعت أزمة اقتصادية ضخمة، مشابهة للأزمة الحالية على عدّة صعد. وبالطبع، لم يحاول أحد في ذلك الوقت اعتبار هذا الأمر دليلاً على «فشل الرأسمالية».
ويقول رايان ماليت-أوتريم، الذي عاش في فنزويلا لعدّة سنوات، بأن السياسة النقدية التي اتبعتها الحكومة الفنزويلية كانت أحد العوامل الرئيسية للأزمة. وقد أشار إلى سياسة تثبيت سعر الصرف تحديداً، وهي بالطبع ليست سياسة اشتراكية بطبيعتها، إلا أنه كان لهذه السياسة تأثير غير مباشر على ازدياد الطلب على العملات الصعبة ما أدّى إلى الدخول في دوامة تضخمية. وماليت-أولتلروم ليس الوحيد الذي ينتقد سياسة تثبيت سعر الصرف، فالاقتصادي مارك وايسبروت، من مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة (CEPR)، كرّر لسنوات، أن فنزويلا يجب أن تتخلّى عن هذه السياسة لصالح سياسة تعويم سعر الصرف.
أنا ناقشت في مقال في عام 2016، لمجلس شؤون نصف الكرة الأرضية الغربي، أن الحرب الاقتصادية التي شنّتها نخبة مجتمعية محلية في فنزويلا بدعم من الولايات المتحدة، كانت سبباً رئيسياً للأزمة. ورغم أن منتقدي الحالة التشافيزية رفضوا هذه الفكرة باعتبارها «نظرية مؤامرة»، إلا أن هناك أدلّة كثيرة على حرب اقتصادية ضد الحكومة الفنزويلية منذ تسلّم تشافيز الحكم في عام 1998. فما سُمّي بالإضراب النفطي، على سبيل المثال، (في الواقع كان إغلاقاً من قبل الإدارات) كان محاولة واضحة لإحداث تغيير في النظام السياسي من خلال شلّ الاقتصاد. في غضون ذلك، تم توثيق حالات تخزين البضائع وتعطيل سلاسل التوريد عن عمد من جانب القطاع الخاص المؤيّد للمعارضة.
تشكّل هذه التفسيرات التقنية جزءاً مهمّاً من سلسلة الأسباب التي تقف وراء المشاكل الاقتصادية التي تواجهها فنزويلا. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية ضاعفت تأثير هذه العوامل، وفاقمت المعاناة التي يعيشها الشعب الفنزويلي. وكما يشير روجر هاريس، في مقال له في 4 أيار على موقع CounterPunch، إن هذا الأمر يأتي حتى باعتراف من الحكومة الأميركية، التي تقرّ في تقرير صادر عنها بأن «العقوبات، بالأخص تلك التي طالت شركة النفط الحكومية عام 2019، من المحتمل أن تكون قد ساهمت في التدهور الحاد للاقتصاد الفنزويلي». والآن، بالاضافة إلى الحكومة الأميركية، اعترف أحد أجهزتها الرئيسية بمسؤوليته عن الترويج الإعلامي بهذه النقطة.
المخاوف بشأن مزاعم الفساد والنشاط الإجرامي المنظّم وانتهاكات حقوق الإنسان وسواها لم تكن أبداً العوامل التي تبني عليها واشنطن قرار فرض عقوبات على دولة أخرى، فلو كانت كذلك، لماذا لا تُصدر أميركا أي إجراءات عقابية ضد الدكتاتورية السعودية الوحشية أو دولة المخدرات القاتلة في هندوراس؟


ففي 30 أيار نشر مقال في صحيفة «نيويورك تايمز» حول تدخّل جماعات الجريمة المنظمة لتقديم الخدمات في أحياء معينة في كاراكاس. يعترف الكاتبان، إساين هيريرا وأناتولي كورماناييف، عن غير قصد، بأن «فنزويلا تتفكّك تحت قيادة مادورو الفاسدة وتحت العقوبات الأميركية». هذا اعتراف لافت من إحدى المطبوعات التي كانت أداة لنشر «الدعاية الفنزويلية» ضد حكم مادورو، بالاضافة إلى الترويج للانقلاب الذي نظمته الولايات المتحدة، بقيادة، من سُمي بالرئيس المؤقت حينها، خوان غوايدو.
خارج العالم الخاص بوسائل الإعلام التابعة للشركات الأميركية، هناك اتّفاق عام حول هذا الادّعاء، أي أن تدخّل الولايات المتحدة ساهم بشكل كبير في الأزمة الفنزويلية. فقد خلصت دراسة لمركز CEPR نُشرت في عام 2019، أعدّها وايسبروت وخبير التنمية الاقتصادي جيفري ساكس، أن عدد الوفيات الناجمة عن العقوبات الأميركية على فنزويلا بلغ 40 ألفاً بين عامي 2017 و2018 (أي قبل الانقلاب). وفي أوائل عام 2020، قدّر المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى فنزويلا ألفريد دي زياس، أن عدد الموتى المدنيين هناك بسبب العقوبات يقارب 100 ألف شخص. ومن المؤكّد أن هذا الرقم بحاجة إلى إعادة نظر في شهر حزيران 2021، بالأخص أن فنزويلا، مثل باقي دول أميركا اللاتينية، تعرّضت بشكل كبير لوباء فيروس كورونا.
إن نية الولايات المتحدة من وراء العقوبات واضحة ومباشرة. هدفها هو حثّ سكان البلد على الانقلاب على حكومة فنزويلا من خلال ممارسة عقاب جماعيّ وحشيّ عليهم، وهو أمر غير قانوني بحسب القانون الدولي. ومنذ الستينيات، بدأت الإدارات الأميركية المتعاقبة باللجوء إلى هذا التكتيك مع الحظر التجاري الذي فُرض على كوبا. هذا الشكل من الحرب غير العسكرية، الذي يمكن وصفه بالحصار الاقتصادي، أدّى إلى 130 مليار دولار من الأضرار الاقتصادية على كوبا، بحسب أرقام الأمم المتحدة، وتسبّب في معاناة معيشية شديدة للسكان المدنيين فيها، بحسب منظمات حقوق الإنسان والأبحاث الأكاديمية.
إضافة إلى أن ادعاء «التايمز» بأن الفساد هو عامل رئيسي في الأزمة الاقتصادية التي تواجه فنزويلا يناقض أساس «الدعاية الفنزويلية». فبحسب علماء العلاقات الدولية، غالباً ما يكون الفساد مستوطناً في البلدان الغنية بالموارد، وخاصة تلك الموجودة في العالم النامي، بغضّ النظر عن التوجّه الأيديولوجي لحكوماتها. ويبدو أن النفط هو الأسوأ من بين جميع الموارد الاقتصادية، لجهة الآثار المفسدة على البلد الذي يوجد فيه بكثرة، ربّما لأن أهميته لا غنى عنها في الاقتصادات الحديثة. في الواقع لم يبدأ الفساد في فنزويلا بعد انتخاب تشافيز لأول مرة، بل كان سمة متكرّرة في تاريخها، ساهمت في إضعاف اقتصاد البلد في ظل حكومات من كلا اليمين واليسار.
هناك درجة من السخرية في إشارة «التايمز» إلى الفساد أيضاً. لأن الدراسات الأكاديمية أثبتت أن العقوبات تؤدّي في الواقع إلى زيادة الفساد والنشاط الإجرامي المنظّم في البلدان التي تستهدفها. ويشير الباحث السياسي بريان ر. إيرلي من جامعة ألباني، جامعة ولاية نيويورك، إلى أن: «العقوبات ليست فقط غير فعالة في أغلب الأوقات، بل يمكن أن تؤدّي إلى نتائج عكسية ... لأنها تشجع الفساد الحكومي وتسهم في تطوير الجريمة المنظمة». ويضيف إيرلي: «أظهرت الدراسات الحديثة... أن الحكومات الخاضعة للعقوبات تميل إلى أن تصبح أقل ديمقراطية وأكثر عرضة للانخراط في انتهاكات حقوق الإنسان، وتقييد حقوق المرأة، وتقييد الحريات الإعلامية».
المفارقة هنا تكمن في أن هذه الآفات المذكورة هي بعض الأسباب التي تزعم واشنطن أنها تستند إليها في عقوباتها ضد فنزويلا. وهذا يسلط الضوء على الازدواجية وانعدام النزاهة الكامنتين وراء نظام العقوبات الأميركي بكامله، سواء كان ضد فنزويلا أو نيكاراغوا أو كوبا أو أي خصم آخر للولايات المتحدة. فالمخاوف بشأن الفساد المزعوم، والنشاط الإجرامي المنظم المزعوم، والانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان، والنقص المزعوم في حرية الإعلام أو حقوق المرأة، والانهيارات المزعومة للديمقراطية ليست، ولم تكن أبداً، العوامل التي تبني عليها واشنطن قرارها بوضع عقوبات على دولة أخرى. فلو كانت الأمور كذلك، لماذا لا تصدر أميركا أي إجراءات عقابية ضد الدكتاتورية السعودية الوحشية أو دولة المخدرات القاتلة في هندوراس؟ لا بل هي تدخل في صفقات أسلحة مربحة مع الأولى وتغدق على الأخيرة بتمويل سخي لقوات أمن الدولة.
بدلاً من ذلك، تبني واشنطن قراراتها بفرض العقوبات على معيار بسيط للغاية: إذا كانت الدولة تخدم مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية، وتطبّق نظامها الاقتصادي النيوليبرالي المفضل. جميع الدوافع المعلنة المذكورة أعلاه هي مجرد تبريرات زائفة لإضفاء مظهر خارجي من المصداقية على حملتها العالمية في إخضاع الدول. وإننا بالتأكيد لن نسمع أبداً أمثال نيويورك تايمز يشيرون إلى هذا الأمر. لكن اعترافها بأن العقوبات والفساد هي من بين العوامل الرئيسية المسببة للأزمة الاقتصادية في فنزويلا، بدلاً من إلقاء اللوم على الاشتراكية، هو بالتأكيد خطوة في الاتجاه الصحيح.

* نُشر هذا المقال على موقع CounterPunch في 8 حزيران 2021 بعنوان: «حتى «نيويورك تايمز» تعترف الآن بأن العقوبات الأميركية وليس الاشتراكية، هي التي تدمّر فنزويلا»




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام