منذ مطلع أيار الجاري، يشير المسؤولون الإيرانيون والعراقيون إلى قرب توقيع اتفاق إنشاء خطّ سكة حديد يربط البلدين. المشروع سيمتدّ على مسافة 30 كيلومتراً فقط، إلا أنه سيربط مدينة البصرة العراقية مع بلدة شلمجة الإيرانية. رغم قصر المسافة، يكتسي المشروع أهمية تاريخية كبرى انطلاقاً من تمويله إيرانياً عبر «مؤسسة مستضعفي الثورة الإسلامية»، وهي واحدة من أكبر الشركات القابضة في الشرق الأوسط، إن لم تكن أكبرها.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذا المشروع، بما هو تكملة لخطط شبكة السكك الحديدية الإيرانية التي تربطها بكل دول الجوار من دون استثناء، قد يشكل نقلة نوعية للعراق لم يشهد لها مثيلاً منذ اكتشاف النفط في عام 1927. فما أثبتته السنوات الماضية هو أن نموذج دول مجلس التعاون الخليجي، القائم على الاعتماد على ريع النفط، لا يمكن تطبيقه في العراق ذي الكتلة السكانية الكبيرة، بالأخص إذا انخفض سعر برميل النفط. فحصّة قطاع الطاقة من الناتج الإجمالي المحليّ غالبة على حصص باقي القطاعات، وتبلغ 65% (بحسب البنك الدولي)، بينما يساهم هذا القطاع في 90% من الدخل الحكومي. وفي المقابل يحمل هذا المشروع قدرات كامنة يمكن أن تحوّل مستقبل العراق وتفتحه على أفق أوسع. فخطط شبكة سكك الحديد الإيرانية (بعضها دخل في الخدمة وبعضها قيد الإنشاء) تربط إيران بأرمينيا وتركيا وتركمانستان وأوزباكستان وأفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى الموانئ الإيرانية على سواحل الخليج. وإذا وضعنا هذه الشبكة في إطار مبادرة الحزمة والطريق الصينية (طريق الحرير الجديد)، يمكن أن نقول إن مشروع خط البصرة - شلمجة سيُدخل العراق ضمن هذا الفضاء الواسع. فضاء يمتد من الصين إلى سواحل المتوسط وأوروبا، ولا سيما أن الجانب الإيراني يعلن، منذ بداية التخطيط لهذا المشروع، بأن الهدف النهائي هو ربط إيران بسوريا. وبالإضافة الى ربط العراق بالصين، عبر طريق الحرير الجديد، وتحويل العراق إلى مركز نقل إقليمي نحو الأسواق الأوروبية، حيث مثلاً سيصبح تطوير ميناء البصرة ذا جدوى كبيرة. ويمكن أن تفتح شبكة خطوط السكك الحديد الإيرانية الباب أمام تطوير قطاعات شبه ميتة في العراق، مثل قطاع الزراعة أو الصناعات التحويلية وسترتفع جدوى الاستثمار فيهما (بالأخص الزراعة) بسبب إمكانية النقل الرخيص للبضائع عبر هذه الشبكة إلى أسواق بعيدة وجديدة. وقطاع الزراعة في العراق يحمل قدرة كامنة كبيرة، ولكنّه تاريخياً بحاجة إلى استثمارات ضخمة لإطلاق عجلة الإنتاج فيه.

خطّ الصين - بغداد
تاريخياً، كانت أكثر فترات ازدهار العراق في العصر الذهبي للدولة العباسية، حين كان العراق مربوطاً مباشرة بالفضاء الآسيوي، إن كان إلى وسط آسيا والصين عبر إيران، أو إلى الهند عبر المحيط الهندي من شواطئ الخليج والموانئ الإيرانية. وفي تلك الفترة اعتمد الاقتصاد العراقي على قطاعين أساسيين، هما الزراعة والتجارة؛ رغم وجود حرف محدّدة أتقنتها بعض المدن العراقية (مثل صناعة الورق والمنسوجات).
كان الإنتاج الزارعي في بلاد ما بين النهرين كبيراً جداً، لكنّ الزراعة لم تكن بسيطة كما في باقي مناطق غرب آسيا. فالزراعة في العراق كانت عملية ضخمة، تشتمل على مجموعة مهامّ وأنظمة تشكّل سلسلة إنتاج واحدة. فالإنتاج الغزير، للحبوب بشكل خاص، كان يعتمد على كفاءة الري الاصطناعي، إذ أن كفاءة صيانة نظام الري تؤثّر بشكل مباشر وكبير على نسبة إنتاج المحاصيل (يقدّر بعض الباحثين نسبة المحصول للبذور المزروعة بـ13 ضعفاً للحبوب - وبالمقارنة كانت أوروبا تنتج ما بين ثلاثة إلى خمسة أضعاف). وأنظمة الري في العراق، بالأخص في الوسط والجنوب، كانت معقّدة، حيث إنّها كانت تشمل شبكات من القنوات والخنادق والسدود وسدود الانضاب (سدّ الإنضاب، الذي يُطلق عليه أيضاً السدّ المؤقّت، عبارة عن تطويق يُبنى داخل مسطّح مائي للسماح بضخّ المياه خارجه). ومن الطبيعي، أنه كان بناء وصيانة شكبة بهذا الحجم مكلفيْن للغاية، فكانت نفقات تصريف المستنقعات وتشغيل المحركات الهيدروليكية (دواليب المياه) تحتاج إلى نظام زراعة في حيازات زراعية ضخمة لتكثيف الإنتاج، وتحتاج أيضاً إلى حكم قويّ لتمويل هذه الشبكة الضخمة. هذا ما كان فعلاً خلال حكم الأمويين وبداية العصر العباسي، حين استثمرت الدولة في بناء وصيانة أنظمة الري، وشجّعت على استثمار الأراضي القاحلة والمستنقعات عبر توزيع الإقطاعات على الحلفاء السياسيين للدولة*.
وفي المقابل كانت بغداد قلب المنظومة التجارية التي بناها المسلمون، والتي ربطت الصين بالبحر المتوسط عبر عدة طرق بريّة وبحرية، ومنها طريق وسط آسيا عبر شمال إيران وطريق الهند عبر إيران أيضاً، وطريق جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي عبر الخليج الفارسي وسوريا من جهة والبحر الأحمر ومصر من جهة أخرى، بالإضافة إلى الطريق البحرية المحاذية لشمال أفريقيا التي تعبر في الأندلس. فكانت المدينة مرتبطة بطريق الخليج الفارسي عبر المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي وكذلك بحر الصين الشرقي.من دون أي عوائق تُذكر، لدرجة أنّ معاصري تلك الفترة كانوا يعتبرون أن بغداد مرتبطة بالصين مباشرة**.
خطط شبكة سكك الحديد الإيرانية تربط إيران بأرمينيا وتركيا وتركمانستان وأوزباكستان وأفغانستان وباكستان، وفي إطار مبادرة الحزمة والطريق الصينية يمكن القول إن مشروع خط البصرة - شلمجة سيُدخل العراق ضمن فضاء واسع يمتدّ من الصين إلى سواحل المتوسط وأوروبا فيما إيران تعلن أن الهدف النهائي هو ربط إيران بسوريا


لكن بذور تشكّل الاقتصاد السياسي في العراق الحديث، تكمن في العصر الذهبي للخلافة العباسية، وتحديداً مع نهاية فترة حكم هارون الرشيد. فالركيزتان الأساسيتان اللتان بني عليهما الاقتصاد في بلاد ما بين النهرين، وهما الزراعة والتجارة، بدأتا بالضمور بشكل متسارع خلال القرنين التاليين لحكمه، في الفترة الزمنية الممتدة بين بداية القرن التاسع ميلادي إلى منتصف القرن الحادي عشر. فالحرب الأهلية بين المأمون والأمين (809-813 م.)، والحرب الأهلية بين الخليفة المستعين والخليفة المعتز (865-866) ساهمتا بشكل كبير في تدمير الأرياف الزراعية الخصبة في وسط العراق. بالإضافة إلى هذا، أدّى نشوء طبقة العيّارين من الرعاع واللصوص والمجرمين، على أثر الحرب الأولى، إلى دور تدميري في العاصمة بغداد، خلال هاتين الحربين وما بعدهما***. كذلك، كان لثورة الزنج (869 م.) التي استمرت 14 عاماً، دور كبير جداً في تدمير سلاسل الإنتاج الزراعي في الأرياف العراقية، بالأخص الجنوبية منها، وذلك بسبب الرقعة الواسعة التي امتدت عليها الثورة والدور الذي كان يؤديه الزنج في سلسلة الإنتاج الزراعي. فهؤلاء كانوا يعملون بشكل أساسي في إزالة التربة السطحية النيتروجينية، وهي وظيفة ضرورية للإنتاج في الأراضي المجفّفة من الأهوار (جنوب العراق اليوم). وحتى بعد إخماد الثورة، لم يعد الاستصلاح والإنتاج الزراعيان إلى المستوى الذي كانا عليه قبل الثورة****.
نتيجة لتتالي هذه الأحداث أُهملت شبكة الري والتصريف الضخمة وتوسّعت رقعة الأراضي القاحلة. فدُمرت القنوات بسبب نقص الصيانة وتوقفت الزراعة وألغيت الجهات الحكومية التي كانت مهمتها رعاية الأراضي. وتلا صعودُ القرامطة (899-1077م.) ثورةَ الزنج، وكان تأثير القرامطة تدميرياً على طرق التجارة من وإلى العراق بالأخص تجارة شرق آسيا نحو البحر المتوسط، والتي كان يمر جزء أساسي منها في البحر (في زمن سلالة تانغ) عبر المحيط الهندي إلى الخليج. وكانت مدينة البصرة هي المحطة الأساسية في هذا الطريق نحو بغداد. وبسبب غزوات القرامطة الدائمة في جنوب العراق وغربه وصولاً إلى شمال سوريا، انقطع الطريق الذي يربط تجارة الخليج وجزيرة العرب بالعراق، فتحوّل إلى موانئ جنوب غرب إيران. وبالإضافة إلى الخراب الذي حلّ جنوباً، ساهم صعود طبقة العيّارين، ومشاركتهم في القلاقل السياسية المتتالية في بغداد، في إشعال اضطرابات في أسواق المدينة نتيجة النهب والتدمير وفي هروب الكثير من تجّارها. ولكنّ التطور الأخطر، بالنسبة إلى العراق، في التجارة الدولية كان تحوّل الجزء الأكبر من تجارة شرق آسيا لتمر عبر البحر الأحمر إلى مصر ومن ثم إلى أوروبا، وساعد في ذلك الاستقرار الذي أمّنه الفاطميون في البحر الأحمر ومصر***. وبلغت الحال من السوء في العراق لدرجة أن سلاسل توريد المواد الغذائية عبر العراق أصبحت تتقطّع بشكل متكرّر، ما تسبّب بمجاعات على فترات متفرقة.

هامش في الإقليم
كانت فترة حكم السلالات العسكرية الديلمية والتركية للعراق من العوامل الأساسية لإهمال البنية التحتية الزراعية في بلاد ما بين النهرين. ففي بداية فترة حكمهم، انتهج البويهيون (الديلم) سياسة توزيع الإقطاعات الزراعية على أمراء العسكر والجنود، ما أدى إلى تفتّت الكثير من الحيازات الزراعية الضخمة وتصغير فعالية الزراعة فيها، ما كان يعني المزيد من التدهور في مداخيل الخزينة****. واستمر السلاجقة الأتراك على هذا النهج من توزيع الإقطاعات وإهمال البنية التحتية الزراعية*. حتى إنّهم، مثل البويهيين، لم ينقلوا عاصمتهم إلى بغداد، بل يمكن توصيف أدائهم تجاه العراق بأنه إهمال ولا مبالاة، حيث تحوّل العراق إلى منطقة راكدة سياسياً واقتصادياً*****.
هذا المسار الذي استمر لأكثر من أربعة قرون أدى، بالإضافة إلى تحول العراق إلى منطقة هامشية اقتصادياً وسياسياً في العالم الإسلامي، إلى التناقص التدريجي لعدد سكان بلاد ما بين النهرين، ما أفقدها العنصر البشري الذي تحتاج إليه لإعادة تفعيل الدورة الاقتصادية. هذا التدهور البطيء سرعان ما أخذ منحى أكثر سرعة مع اجتياح هولاكو لبغداد وسقوط العراق كله تحت سلطة دولته الوليدة، الدولة الإلخانية. فالدمار الذي ألحقه الاجتياح المغولي كان غير مسبوق، ولكنّ الخسارة في السكان جعلت العراق إقليماً شبه مهجور. ومع أنه شهد استقراراً نسبياً بعد استتباب السلطة الإلخانية، لم ينعكس ذلك باستعادة الدور العراقي على المدى الطويل. وهذا ما ظهر جلياً في حقبة حكم السلالات المغولية - التركمانية للعراق، بعد انهيار سلطة الدولة الإلخانية فيه. بالأخص في فترة حكم السلالتين التركمانيتين (قارا قوينولو وآق قيونلو)، حيث تدهور الوضع في جنوب العراق مع اشتداد عود القبائل العربية وثورتها على الحكم التركماني وما تبعه من غزوات ودمار. فاستمر تراجع التجارة الداخلية والخارجية للعراق، الذي كان أحد أسبابه الرئيسية الدمار الاقتصادي الذي لحق بالبلاد، حيث إن الاقتصاد كان قد أصبح اقتصاد المقايضة. وبدلاً من اتخاذ تدابير لإصلاح المنحى الانحداري للتجارة الداخلية والخارجية، زاد الحكام التركمان الضرائب على التجارة. أما بالنسبة إلى القطاع الزراعي فقد تغوّل التركمان في تطبيق نظام الإقطاع، حيث تحوّلت الإقطاعات إلى وراثية. فبينما كان نظام الإقطاع في الدولة الإلخانية، وما قبلها، عبارة عن منح مشروطة بالالتزام بمردود معيّن، تحوّل في أيام حكم التركمان إلى نظام وراثي تصغر الحيازات الزراعية من خلاله جيلاً بعد جيل، بينما حصل أصحاب الإقطاعيات على حصانة إدارية وقضائية*. وفي المحصّلة تحول العراق إلى إقليم راكد منغلق على الأفق الآسيوية، بينما الجزء الأكبر من سكّانه هجروا الحياة الحضرية. أصبحت تكمن أهميته الكبرى في تحوّله إلى أرض معركة بين الصفويين والعثمانيين خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وهذا أدى إلى صقل الكثير من عوامل تشكيل الاقتصاد السياسي في العراق الحديث.

المراجع
* «تاريخ اجتماعي واقتصادي للشرق الأدنى في العصور الوسطى»، الياهو أشتور
** «الأصول الشرقية للحضارة الغربية»، جون هوبسون
*** «النبي وعصور الخلافة»، هيو كينيدي
**** «العوامل الاقتصادية للانحدار العباسي خلال الحكم البويهي في القرن العاشر»، يودجانغ ثوليب
***** «تاريخ العراق»، جون روبرتسون



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام