تتولى شبكة مقايضة العملات المحلية التي بناها بنك الصين الشعبي، تأمين شبكة أمان للدول الآسيوية، وفي الوقت نفسه تعزّز الموقف الدبلوماسي للصين. تبدو الصين مستعدّة لتولّي قيادة الجهود الرامية الى تشكيل شبكة أمان لدول شرق آسيا، تحميها من الهشاشة التي تولّدها التقلبات في التدفقات المالية عبر الحدود. لهذا السبب تناقش ورقة العمل التي أعدّتها، السبب الذي يدفع الصين إلى تولّي هذه المسؤولية، وهو أنه تنبع قيادة الصين من دورها المهم في سلاسل القيمة الإنتاجية الممتدّة في أنحاء المنطقة، ومن الدعم الذي تقدّمه عبر الاستثمارات الهائلة التي تيسّرها الصين عبر مشاريع مبادرة الحزام والطريق. ويقدّر مجلس العلاقات الخارجية أنه في مطلع 2020، أنفقت الصين نحو 200 مليار دولار على مشاريع مبادرة الحزام والطريق. إلا أنه، وبصرف النظر عن تدفقات رأس المال المتعلّقة بمبادرة الطريق والحزام، وضع بنك الصين الشعبي شبكة من الترتيبات الثنائية لمقايضة العملات المحلية مع المصارف المركزية، الأمر الذي يمثّل شبكة أمان للبلدان التي تشكل جزءاً من هذه الترتيبات. وهذه المقايضات هي أدوات، لا يسلّط الضوء عليها كثيراً، ولكنها ساهمت في توسّع التأثير المتزايد للصين في البلدان النامية في جميع أنحاء العالم. فبين كانون الثاني من عام 2009 وكانون الثاني من عام 2020، أي خلال 11 سنة، عقدت الصين الشعبية اتفاقات مع 41 بلداً تشبه الاتفاقات المذكورة، عدد كبير منها في آسيا. اتفاقات المقايضة هذه، المقوّمة بعملة الرنمينبي الصينية وعملة البنك المركزي لدى الطرف الآخر، تمنح الطرف الثاني الحصول على سيولة من الرنمينبي، لفترات قصيرة وبنسب فائدة منخفضة نسبياً، مقابل عملة البنك المركزي الآخر كضمان. وبموجب اتفاقات المقايضة، في الوقت الذي يتمتع فيه المصرف المركزي المقترض بإمكانية وصول إلى خط سيولة بالعملة الأجنبية، يمكنه إقراض هذه السيولة للمؤسسات التي تواجه نقصاً في العملة الأجنبية ذات الصلة، في هذه الحالة الرنمينبي، الموجودة في نطاق سلطته.
بالنسبة إلى البلدان الشريكة في هذه الاتفاقات، كلما زاد توافر خطوط مقايضة الرنمينبي، كبر مجالها في استخدام الأرباح والاحتياطات بالدولار المتاحة لتسوية المعاملات مع البلدان الأخرى. كما يمكن لهذه البلدان استخدام، أو إظهار قدرتها على استخدام، الرنمينبي، المتوفّر من خلال خط المقايضة، كما فعلت الأرجنتين وباكستان، وهذا للحصول على الدولارات لدعم احتياطاتها للوفاء بالتزاماتها تجاه طرف ثالث.
ومن حيث المبدأ، توفر شبكة اتفاقات المقايضة الثنائية وسيلة للدول لمعالجة مشاكل النقص في العملات الأجنبية وتجاوز الصعوبات التي قد تعاني منها في ميزان المدفوعات، وهذه الصعوبات ناتجة عن دورات الازدهار والكساد في تدفق رأس المال. وتغني هذه الوسيلة عن الحاجة إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة.
منذ الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا عام 1997، واستفادت في أعقابها الدول المتضررة من حزم إنقاذ من صنع صندوق النقد الدولي ومموّلة من حكومات المنطقة، شكّل الوصول إلى شبكة أمان إقليمية ضرورة لدول هذه المنطقة. إذ أن الشروط التي ترافقت مع حزم الإنقاذ، والتي وضعها صندوق النقد، ألحقت ضرراً بالغاً باقتصادات دول جنوب شرق آسيا، الأمر الذي أدى إلى الاقتناع بأن الصندوق «لم يكن يعرف آسيا» وأن «علاجاته من المرجّح أن تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الآسيوي». وقد حرّكت هذه التجربة عملية البحث عن ترتيبات إقليمية، مستقلّة عن صندوق النقد والولايات المتحدة، يمكن الوصول إليها في أوقات الصعوبات المالية من دون الحاجة إلى تنفيذ شروط تضر بالمصالح الاقتصادية لدول المنطقة.
لقد كانت المبادرة الرئيسية الأولى، التي تسعى إلى تطبيق هذه الفكرة، اقتراحاً قدّمته اليابان لإنشاء صندوق النقد الآسيوي (AMF)، برأس مال قدره 100 مليار دولار تسهم اليابان بنصفه. إلا أن ممثلي الولايات المتحدة وصندوق النقد رفضوا هذا الاقتراح، لأنه يضعف نفوذهما في المنطقة. وما عزّز معارضتهم هو الخوف بين دول المنطقة، وخاصة الصين، من أن يؤدّي ذلك إلى تضخّم النفوذ الاقتصادي والسياسي لليابان. وبشكل عام، عملت ثلاثة عوامل على تقويض الاقتراح: فالعامل الأول كان موقف اليابان التابع في علاقتها الثنائية مع الولايات المتحدة. والعامل الثاني كان الخوف من هيمنة اليابان على بلدان المنطقة، ليس فقط بسبب قوتها الاقتصادية، بل أيضاً بسبب تاريخ اليابان الاستعماري في المنطقة. أما العامل الثالث، فهو اعتماد العديد من دول جنوب شرق آسيا على أسواق الولايات المتحدة وتدفقات رأس المال التي تلعب الولايات دور الوسيط فيها، الأمر الذي أدى إلى تراجع موقف هذه الدول عن الاقتراح بمجرد أن أعربت الولايات المتحدة وصندوق النقد عن معارضتهما له.
كثّفت الصين جهودها لاستخدام ترتيبات المقايضة الثنائية وتدفّقات رأس المال كوسيلة لتأسيس قيادة بعملة «دولية» إقليمية


وبعدما فشلت في المضي قدماً في اقتراح صندوق النقد الآسيوي، ركزت اليابان بعد الأزمة التي شهدتها دول المنطقة، على تقديم الدعم عبر الاتفاقات الثنائية من خلال مبادرة ميازاوا الجديدة. ففي تشرين الأول من عام 1998 أعلن وزير المال الياباني حينها، مبادرة ميازاوا، وهي عبارة عن حزمة من 30 مليار دولار تهدف إلى دعم التعافي الاقتصادي في بلدان شرق آسيا المتضررة من تلك الأزمة، عبر تقديم المساعدات المالية بواسطة اتفاقات ثنائية، وكذلك هدفت إلى تمويل بنك التنمية الآسيوي، بثلاثة مليارات دولار لضمان السندات الصادرة في الأسواق المالية العالمية. وقد انعكس نجاح المبادرة في الاستخدام الكبير للمساعدة التي عرضتها اليابان. فكان الدعم من خلال مبادرة ميازاوا يشكّل، إلى حد ما، بديلاً للاقتراض المشروط من صندوق النقد. وفي حين أن أموال هذه المبادرة كانت تُعتبر «تكميلية» للدول التي كانت قد دخلت في اتفاقيات مع صندوق النقد، إلا أنها كانت بمثابة بديل عن أموال الصندوق في دول مثل ماليزيا وفيتنام وميانمار التي لم تقبل دعم صندوق النقد أو لم يقدّم لها أساساً.
كذلك جربت مبادرة ميازاوا اتفاقيات مقايضة العملات. ووسّعت أشكال الدعم المتاحة إلى أكثر من القروض وضمانات الائتمان، لتشمل ترتيبات مقايضة العملات بين البنوك المركزية، التي استخدمها مصرفا كوريا الجنوبية وماليزيا المركزيان. ومع ذلك، أثبتت المبادرة أنها ليست أكثر من استجابة قصيرة الأجل لمواجهة الأزمة، بدلاً من أن تكون إطلاقاً لشبكة من آليات الاتفاقات الثنائية تحت رعاية يابانية يمكن أن توفر شبكة أمان مالي دائمة لبلدان المنطقة.
وفي الفترة اللاحقة، حاولت تلك البلدان، مدفوعة بالمخاوف من اختلال توازن القوى المحتمل في المنطقة لمصلحة اليابان، إنشاء ترتيب للتمويل التعاوني، كوسيلة لمعالجة الهشاشة في المالية وميزان المدفوعات. وتُوج هذا الجهد بمبادرة شيانغ ماي، التي تضم رابطة دول جنوب شرق آسيا بالإضافة إلى 3 دول (الصين واليابان وكوريا الجنوبية)، والتي كانت بشكل أساسي شبكة من ترتيبات تبادل العملات الأجنبية الثنائية.
كان من الممكن أن تخدم مبادرة شيانغ ماي الغرض منها إذا استوفت المتطلبات المحددة لإطار عمل منع الأزمات وحلها على المستوى الإقليمي. وهذه المتطلبات كانت أنه ينبغي أن تكون المبادرة: (1) مناسبة للمهمة من حيث حجم الموارد المتاحة؛ (2) مستقلة عن تأثير الولايات المتحدة وشرطية صندوق النقد الدولي؛ و(3) إطار عمل يتجنّب التوترات الإقليمية التي يمكن أن تقوّض الجهود المبذولة. ومن الناحية العملية، فشلت المبادرة في تلبية هذه المتطلبات.
أدّت الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة ومؤسّسات بريتون وودز، وهي مثل تلك التي حدثت في وقت النقاش حول صندوق النقد الآسيوي، والتوترات الجيوسياسية في المنطقة إلى قرار تلزيم مهمّة مراقبة الدول التي تستفيد من المقايضات بموجب مبادرة شيانغ ماي إلى صندوق النقد الدولي. فبعد حدّ معين من الاقتراض، كان مطلوباً من المقترض أن يكون قد دخل في اتفاقية مع صندوق النقد الدولي وأن يخضع لشروط هذا الأخير ومراقبته ليكون مؤهلاً لأخذ المزيد من القروض. في البداية، كانت أي مقايضة تزيد عن 10% من المبلغ المتفق عليه في أي ترتيب مقايضة ثنائي، تتطلب رقابة من صندوق النقد الدولي. وتم رفع تلك النسبة إلى 20% في عام 2005 ثم إلى 30% في عام 2012. هذا يعني أن كمية الأموال التي يمكن الحصول عليها من دون الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي كانت متواضعة، وخاصة أن الضعف في المنطقة قد ارتفع بشكل كبير بعد عام 1997، وبالأخص بعد عام 2004 عندما حدثت طفرة في تحركات رأس المال من مراكز رأس المال إلى الأسواق الناشئة، مدفوعة بسياسة أسعار الفائدة المنخفضة التي اعتمدتها البنوك المركزية في البلدان المتقدمة، خاصة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
عملياً، لم يسفر أي شيء يُذكر عن جهود التعاون الإقليمي هذه، التي كانت تهدف إلى معالجة نقاط الضعف التي تنجم عن التدفقات المتقلبة لرأس المال عبر الحدود. ويمكن تفسير هذا الفشل من خلال ثلاثة عوامل. العامل الأول كان إخضاع هذه الاتفاقية الإقليمية لصندوق النقد الدولي، كوسيلة لاستدامة توازن القوى الإقليمي القائم ولضمان السداد، ما أدّى إلى تقويض هذه الجهود. والعامل الثاني، كان التحوّل إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للوصول إلى السيولة بالدولار، وهذا تم من خلال ترتيبات مقايضة العملات التي يمكن للاحتياطي الفيدرالي أن يطبع منها بلا حدود، نظراً إلى سيطرته على إصدار الدولار. أما العامل الثالث، فهو القبول المتزايد للترتيبات الثنائية مع إحدى القوى الإقليمية - اليابان أو الصين - للوصول إلى السيولة بالدولار أو العملات الإقليمية.
بهذه الخلفية، كثّفت الصين جهودها لاستخدام ترتيبات المقايضة الثنائية وتدفقات رأس المال كوسيلة لتأسيس قيادة بعملة «دولية» إقليمية. وبسبب مواجهتها مشاكل اقتصادية وتضرّر علاقتها بالولايات المتحدة، تراجعت اليابان في السباق على القيادة الإقليمية. لكن الصين أيضاً تواجه مخاوف إقليمية من عواقب هيمنتها، كما تواجه ردّ فعل عنيف من القوى الأخرى التي يتجمّع بعضُها مع بعض، كما هو الحال مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند التي اجتمعت في «الرباعية»، على سبيل المثال. إن العداء الصيني لا يساعد، لكن كرمها المالي قد يكسبها مؤيدين كافين لشبكة من المقايضات والتدفقات الثنائية التي تخلق تحت قيادتها شبكة أمان مستقلة عن صندوق النقد الدولي، تلبي الحاجة التي شعرت بها المنطقة منذ فترة طويلة.

*نُشر هذا المقال على موقع ineteonomics.org في 15 نيسان 2020

**س. ب. تشاندراسيخار أستاذ سابق في مركز الدراسات الاقتصادية والتخطيط، جامعة جواهرلال نهرو، في نيودلهي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام