خلال الأسابيع الماضية، عُقدت أكثر من جلسة عن بُعد برعاية المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، والبنك الدولي بعنوان أساسي: الاطّلاع على التجربة المصرية في تحويل دعم السلع إلى دعم نقدي مباشر للأسر. دُعي إلى هذه الجلسات، وزير الاقتصاد المصري، وعدد كبير من ممثلي الأحزاب والقطاعات وخبراء اقتصاديين. كان الهدف الوحيد منها ترويج «منافع» التجربة المصرية. النقاش بشكل عام كان تقنياً، وهذا أمر خطير بحدّ ذاته، لأنه يلغي إمكانية النقاش في أصل فكرة الدعم وأهدافه. فالتجربة المصرية، المبنية بشكل واضح، على أفكار وآراء صندوق النقد الدولي، لا تُعدّ نموذجاً مهماً للاحتذاء به. مصر التي كانت تعاني من دين خارجي بقيمة 55 مليار دولار قبل توقيع اتفاق البرنامج مع صندوق النقد، صار لديها دين خارجي بقيمة 123 ملياراً في النصف الأول من عام 2020. أما ما يقال عن تصحيح العجز الخارجي بالاعتماد على تحرير سعر الصرف، ورفع دعم استيراد السلع والعديد من الإجراءات الأخرى التي ترافقت مع البند المنويّ إسقاطه على لبنان، أي تحويل الدعم إلى مساعدات نقدية لأسر محدّدة، فقد جاءت نتيجتها زيادة في معدلات الفقر بخمس نقاط مئوية. «مزايا» البرنامج المصري مع الصندوق لم تنعكس إلا على مؤشرات عامة. حتى التحسّن الذي لوحظ في عجز الحساب الخارجي، يُعتقد بأن سببه التدفقات الكبيرة من الديون الخارجية التي ستتحوّل لاحقاً إلى أحد أكبر أعباء الاقتصاد المصري. أما المشكلة في لبنان، فإن النقاش السائد في مسألة الدعم، ينطلق من ضرورة رفعه نهائياً وبسرعة بمعزل عن الصدمة التي سيحدثها على سعر صرف الليرة ومعدلات التضخّم، وتطوّر العلاقة بينهما. جزء أساسي من النقاش والترويج المرافق له، هو قائم برعاية المسؤولة في البنك الدولي حنين السيّد. وهو قائم ضمن اعتبارات «التركيبة» التي تظهر بوضوح في المجلس الاقتصادي والاجتماعي. هناك يختلط وجود ممثلي الطوائف مع مواقعهم كممثلين عن فئات اجتماعية واقتصادية (أصحاب عمل، وعمال، ومهن حرّة...). ففي ظل هذه الطبخة، يتم الترويج لأهمية رفع الدعم. أصلاً، يُنقل عن الرئيس نبيه برّي، موافقته على رفع الدعم فوراً واستبداله بصيغة الدعم النقدي المباشر للأسر. كذلك نُقل عن الرئيس المكلّف سعد الحريري، بأنه غير مهتم بتأليف الحكومة إلا بعد قيام هذه الحكومة باتخاذ قرار برفع الدعم (بالإضافة إلى اعتبارات خارجية ومحلية أخرى).
في الواقع، ما وصلت إليه قوى السلطة اليوم، هو أنها تجد نفسها أسيرة الانهيار. تحاول التعويض عن ذلك من خلال الترويج للتجربة المصرية. فهي من جهة، غير قادرة على الانسحاب من الدعم من دون بديل يُقدّم على طاولة النظام الزبائني، وغير قادرة أيضاً على تحمّل تبعات رفع الدعم والصدمة التي ستنتج منها. ستكون صدمة هائلة على معدلات التضخم وتحويل مساره من سريع إلى مفرط. كذلك ستزداد معدلات الفقر والبطالة سريعاً بعد انهيار ما تبقّى من قوّة شرائية للأجور. السلطة حاصرت نفسها بنفسها. لم تُدفع نحو هذا الاتجاه. قرار دعم استيراد السلع وتمويلها بدولارات مصرف لبنان، اتُّخذ تحت الضغط السياسي الرامي إلى معالجة أزمة السلطة مع الشارع، لا إلى معالجة أزمة الاقتصاد. وقرار الانسحاب من الدعم اليوم، سيكون مكلفاً بين السلطة والشارع، لكنّ خسائره الاقتصادية والاجتماعية كبيرة أيضاً. فهذه السلطة، لم تتمكن من إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «لأن الدولار سيكون يوم الإثنين تحت الـ 4000 ليرة وصولاً إلى 3200». كان ذلك يوم الجمعة بتاريخ 13 حزيران 2020. أما اليوم، فمع وصول سعر الدولار إلى 13000 ليرة، سواء كان الأمر تلقائياً بسبب العرض والطلب، أو «يد خفية»، تلاعبت به، فإن الأزمة الأهم هي أن الانهيار يحصل من دون أي تدخل، وبالتالي يصبح مزيد من الانهيار هو مجرّد نتيجة تلقائية. إزاء هذا الحصار الذاتي، يحاول بعض أطراف السلطة الحديث عن التجربة المصرية، فيما يحاول بعضهم الآخر البحث عن مخرج آنيّ لأن المخارج والحلول الجذرية غير متوافرة. المخرج الآنيّ، يعتمد على صيغة استمرار الدعم لفترة أطول لفكفكة بعض قيود السياسة المحلية والخارجية. إذاً، هو سباق بين المخرج الآنيّ، وبين الصدمة. حتى الآن مسار الصدمة يتفوّق، وخصوصاً بعدما أقرّ مجلس النواب اتفاقية القرض مع البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار لتسديدها نقداً للأسر عبر برنامج استهداف الفقراء. فالخطوة التالية على جدول أعمال السلطة هي رفع الدعم طالما «سنوزّع» المساعدات النقدية ونشتري ولاءات الكثير من الزبائن. صدمة من هذا النوع قد تخلق تضخّماً مفرطاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام