في تشرين الثاني من عام 2016 وقّعت مصر اتفاق قرض بقيمة 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي. تضمّن هذا الاتفاق الممتدّ على ثلاث سنوات، شروطاً أساسية وضعها الصندوق، مثل تعويم سعر صرف الجنيه وضبط الموازنة العامة وزيادة الضرائب، إضافة إلى «إصلاحات هيكلية» في الاقتصاد. قبل هذا الاتفاق، كانت مصر تعاني من مشاكل عدّة أهمّها السعر المضخّم للجنيه المصري أمام الدولار (كانت مصر تعتمد سعر الصرف المثبت مقابل الدولار)، الذي قابله نشوء سوق موازية للعملة الخضراء ذات سعر صرف أعلى، وانخفاض حادّ في احتياطات النقد الأجنبي، إضافةً إلى عجز مالي كبير وارتفاع في مستوى الدين العام.

لكن برنامج صندوق النقد لم تظهر نتائجه في معالجة المشاكل الجذرية التي كانت تعاني منها مصر. فرغم التحسّن الذي شهدته بعض المؤشّرات مثل نمو الناتج المحلي في عامي 2018 و2019، فضلاً عن تحسّن نسبي في الحساب الجاري، إلا أن نسبة الفقر ارتفعت بنحو 5% بين 2016 و2019، كما ارتفع الدين العام الخارجي بأكثر من الضعف من 55 مليار دولار في 2015 إلى 123 مليار دولار في النصف الأول من عام 2020.
حدّد صندوق النقد شروطه لمنح مصر قرضاً، بإصلاحات على ثلاثة محاور:
1ـ إصلاحات نقدية: قبل توقيع الاتفاق بين الطرفين، كانت السوق الموازية للدولار، قد عادت إلى الواجهة بعد عقود من الثبات. بشكل بديهي، فإن الحلّ الأفضل، من وجهة نظر صندوق النقد، تكمن في تعويم سعر صرف الجنيه لمواجهة هذا الأمر، ولا سيما أن خطوة كهذه «ستحفّز الاستثمارات والصادرات». هذا ما فعلته الحكومة المصرية فور توقيع الاتفاق، ما أدّى إلى ارتفاع معدلات التضخم الى نسبة 29.5% في عام 2017.
2ـ إصلاحات مالية: كان هدف برنامج صندوق النقد الدولي معالجة العجز في الميزانية العامة المصرية من خلال خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الإيرادات.

8.7

مليار دولار هو كلفة خدمة الدين الخارجي على مصر في 2019 مقارنة مع 3.7 مليار في 2015 علماً بأن خدمة الدين الخارجي تمثّل 30% من الصادرات في عام 2019 مقارنة مع 17.7% في 2015


أحد السبل التي فرضها الصندوق لخفض هذا الإنفاق، عصر النفقات عبر استهداف أجور موظّفي القطاع العام، وخفض الدعم الذي كان يشمل الغذاء، عبر برنامج «تموين» يؤمّن الدعم لبعض السلع مثل الخبز والزيت والسكّر والأرز، إضافة إلى دعم المشتقات النفطية.
مسار خفض دعم السلع وتحويله إلى الدعم النقدي المباشر للأسر، أطلقته مصر قبل سنتين من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فهي أدخلت على برنامج «تموين» البطاقة الإلكترونية في عام 2014، ما أتاح لها البدء بسلسلة إجراءات لخفض عدد المستفيدين من البرنامج، لكنها تلقت تشجيعاً من صندوق النقد الدولي، واستكملت مسار تطبيق برنامج رفع الدعم حتى حوّلته بشكل كامل في 2019 من خلال إدخال معايير جديدة هدفها استبعاد الأسر التي تملك سيارات غالية الثمن، أو التي تدفع مصاريف مدرسية مرتفعة وغيرها... أدى هذا الخفض إلى تقليص عدد المستفيدين من برنامج «تموين» إلى 10 ملايين شخص، علماً بأن برنامج دعم الأغذية كان يكلّف الحكومة المصرية نحو 500 مليون دولار في السنة. كذلك أقدمت الحكومة على خفض الدعم على المشتقات النفطية وحرّرت السعر تدريجياً ما أدّى إلى ارتفاعات متتالية في أسعار المحروقات على مدى السنوات الثلاث التي شهدث تطبيق برنامج صندوق النقد.
أما زيادة الإيرادات فكانت من خلال رفع نسب الضرائب وإدخال ضرائب جديدة مثل ضريبة القيمة المضافة، التي تطال فئات المجتمع كلها، والتي وبلغت 14% في عام 2017. وللمفارقة لقد أتى هذا الأمر بعد أن خفضت الحكومة المصرية معدل الضريبة التي كانت تطال شريحة ذوي الدخل الأعلى من 25% إلى 22.5% في عام 2015.
3ـ إصلاحات هيكلية: هدف برنامج صندوق النقد من خلال هذه الإصلاحات إلى جذب الاستثمارات الأجنبية ومساعدة الشركات الصغيرة على التوسّع. لذا فرض على الدولة تطبيق قانون استثمار يخفّض عدد الإجراءات والتنظيمات التي كانت مفروضة لإنشاء شركات جديدة، وهو الأمر الذي كان يأتي في مصلحة الشركات الكبيرة، لأنه كان يستبعد الشركات الصغيرة قبل ولادتها. لكن هذا القانون لا يزال يؤمّن الأراضي لهذا الاستثمار بشكل مجاني، أو بأسعار مخفضة للغاية لمشاريع معينة، ما يسهم في تسهيل الطريق للفساد والمحسوبيات.
كما فرض البرنامج إصلاحات على القوانين التي تبسّط عمليات الإفلاس والتسييل والتي كان يفترض أن تحفّز الاستثمار الأجنبي للدخول إلى البلاد.

الفقر يزداد
يرى صندوق النقد أن برنامجه في مصر يسير بنجاح. إذ أن الناتج المحلي شهد نمواً في سنتي 2018 و2019 على التوالي، قبل بدء أزمة كورونا. كذلك يعتقد أن برنامجه نجح في لجم العجز الهائل في الحساب الجاري الذي بلغ 20 مليار دولار في عام 2016، وانخفض إلى نحو 8 مليارات و10مليارات في عامي 2018 و2019. لكن هناك العديد من النقاط التي يمكن الإشارة إليها للاستنتاج بأن «النجاح» الذي يتحدّث عنه الصندوق، فيه شيء من الوهم.

ارتفع الدين الخارجي لمصر من 55 مليار دولار في عام 2015 إلى 123 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2020


من أبرز ما حصل خلال فترة البرنامج، أن معدلات الفقر في مصر ارتفعت بين عامي 2015 و2019 من 27.8% إلى 32.5%، أي بما يقارب 5%. يعود هذا الارتفاع إلى التضخّم الناتج عن تراجع قيمة العملة بسبب تعويم سعر الصرف، أي بسبب الإجراءات التي فرضها الصندوق، في بلد يعتمد بشكل أساسي على الاستيراد. فقد بلغت قيمة الواردات 79 مليار دولار في عام 2019، وعجز في التجارة الخارجية بقيمة 50 مليار دولار يمثّل نحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي. عملياً، إن خفض قيمة العملة، يؤدي إلى ضرب الاستيراد ويرفع معدّلات التضخّم، وهذا بالفعل ما حدث مباشرةً بعد تعويم سعر صرف الجنيه في مصر، إذ ارتفع معدل التضخّم إلى 29.5% في عام 2017. وهذا ينعكس تراجعاً في القوّة الشرائية للأجور ويُترجَم مباشرة في زيادة معدلات الفقر.
هذه النتائج هي كلاسيكية في إطار البرامج مع صندوق النقد الدولي الذي لا يُعطي أهمية كبيرة للمشاكل الاجتماعية الناشئة بسبب سياساته التقشفية، بل يهتمّ بمعالجة المشاكل البنيوية من وجهة مالية بلا أبعاد اجتماعية. تقتصر نصائح الصندوق، في الشأن الاجتماعي، على إنشاء «شبكات أمان اجتماعية» لحماية الفقراء، أي أنه ينظر إلى «مساعدة الفقراء» بدلاً من إزالة أسباب وقوعهم في الفقر.

تعميق الارتهان للخارج
واحدة من المفارقات التي تنجم عن العلاقة غير المتوازنة مع صندوق النقد الدولي، إذا كان من الممكن إنشاء علاقة متوازنة، أنه يفرض مساراً للتعامل مع الأزمات يزيد الارتهان للخارج. فالدين الخارجي في مصر كان يبلغ 55 مليار دولار في 2015 قبل توقيع البرنامج مع الصندوق، لكن حصيلة السنوات الخمس التالية بعد توقيع البرنامج، رفعت هذا الدين إلى 123 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2020. هذا الأمر يشكّل عبئاً كبيراً على المجتمع كلّه وليس فقط على خزينة الدولة. فهذه الديون تترتب عليها كلفة خدمتها بالعملات الأجنبية علماً بأن التجارب السابقة أثبتت أن هذا الفخّ لا ينتهي إلا بالتخلّف عن سداد الدين، وهو ما سيجعل البلد في دوامة العودة لطلب المساعدة من صندوق النقد. في مقابل كلّ ذلك تراجع صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي كانت تعاني من عجز بقيمة 6.7 مليارات دولار في عام 2015، لكنه ازداد إلى عجز بقيمة 8.6 مليارات دولار في 2019، أي أن هدف برنامج صندوق النقد في جذب الاستثمارات الأجنبية لم ينجح.
ويشير تقرير لمؤسسة «فريدريش ايبرت» حول تداعيات برنامج صندوق النقد في مصر، إلى أن المشكلة البنيوية في القطاعات الاقتصادية لم تحلّ. «فالقطاعات الأنجح التي تحصد النموّ الأكبر لا تزال قطاعات النفط والخدمات المالية (وهي الدائن الأكبر للدولة)، بالإضافة إلى قطاعَي العقارات والإنشاءات اللذين يتميزان بالمضاربة في الأصول غير المنتجة، مثل الفيلات والشقق الفخمة، وتنتشر فيهما المحسوبيات والفساد». والمشكلة أن هذين القطاعين يحظيان بأكبر حصّة من الاستثمارات العامة والخاصّة في البلد، علماً بأنه لا تأثير إيجابياً لهما على ميزان المدفوعات. وحده القطاع السياحي، من بين القطاعات النامية في السنوات الأخيرة، ذو تأثير على ميزان المدفوعات، إلا أنه يبقى مكشوفاً بسبب المخاطر الأمنية في المنطقة التي لعبت دوراً كبيراً في تراجعه في السنوات التي مضت (قبل انتشار جائحة كورونا وأثرها عليه أيضاً)، وأي خضّة أمنية إضافية قد تعيده إلى الوراء أكثر. إن تركيز الاستثمار في القطاعات غير المنتجة، لم يؤدّ إلى تحسّن في سلة واسعة من المؤشرات الاقتصادية، بل اقتصر دوره على تحسّن طفيف في الصادرات التي بلغت 28.9 مليار دولار في 2019 مقارنة مع 25.4 مليار دولار في بداية تطبيق البرنامج عام 2016.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام