في منتصف عام 2019، انهارت سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار التي انتهجها مصرف لبنان منذ النصف الثاني من التسعينيات، فتضاعف سعر الدولار مقابل الليرة نحو 7 مرات. أدّى ذلك إلى انتقال حصّة وازنة من عمليات تبادل الدولار والليرة، إلى السوق الموازية ذات نظام التسعير الحرّ، وخلق تضخماً في الأسعار بمتوسط سنوي بلغ في نهاية 2020 نحو 84%. ردّة فعل مصرف لبنان تمثّلت في إطلاق يد ماكينة طباعة الليرة «تعويضاً» عن ضعف قدرته على ضمان فعالية سياسة التثبيت. وخلال 22 شهراً، تضاعفت الكتلة النقدية المتداولة بالليرة نحو 6 مرات لتبلغ 34487 مليار ليرة في نهاية شباط 2021. وكما كان متوقعاً، فإن هذا المسار تحوّل إلى دينامية تتغذّى على نفسها؛ تضخّم الأسعار يغذّي ارتفاع سعر الصرف، والعكس صحيح أيضاً. هذه واحدة من أبشع الضرائب التي يدفعها حالياً المقيمون في لبنان، لكن وقعها على المداخيل المتوسطة والمتدنية أكبر بكثير من وقع أي ضريبة أخرى. ما هي أسباب وأهداف فرض هذه الضريبة «الخفيّة»؟ كيف ينظر إليها الاقتصاديون؟
أنجل بوليغان ــ المكسيك

ما الفرق بين أن تفرض الحكومة ضرائب جديدة، أو أن تجبر المقيمين على استجرار الخدمات من مصادر خاصة رغم أنهم سدّدوا كلفتها عبر الضريبة، أو أن تترك معدلات التضخّم تأكل القسم الأكبر من مداخيلهم ومدّخراتهم؟
في السنوات الماضية، كان المقيمون في لبنان يسدّدون الضرائب المفروضة عليهم، ويدفعون مبالغ إضافية لقاء خدمات يفترض أن يحصلوا عليها من الدولة، لكن لم يكن مفروضاً عليهم معدلات تضخم كبيرة. أصلاً في ظل سياسة تثبيت الليرة، لم يكن التضخّم مشكلتهم على الإطلاق.

بالأرقام


%84
هو معدل التضخم في لبنان في عام 2020 بحسب أرقام دائرة الإحصاء المركزي
34.4
ألف مليار ليرة هو حجم كتلة النقد بالتداول في لبنان بحسب أرقام مصرف لبنان في نهاية شباط 2020

كانوا يعانون من انعدام اللامساواة في الدخل والثروة بكل ما يعنيه ذلك من فروقات اجتماعية واقتصادية وسياسية، لكن تضخّم الأسعار المرتفع أو المفرط لم يكن أحد أسباب معاناتهم. أما حالياً، فقد تُرك لبنان يغرق في الانهيار حتى أصابه التضخّم المرتفع، وبات التضخم المفرط يمثّل تهديداً حقيقياً للمجتمع. فمع تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية، مستوى الـ10 آلاف ليرة بما يمثّله رمزياً بالنسبة إلى الوضع المعيشي، لا يمكن التفكير إلا في ما ستؤول إليه معدلات التضخم مستقبلاً، خصوصاً أنه خلال السنة الماضية تدهورت نوعية حياة اللبنانيين بشكل غير مسبوق مع تسجيل معدلات تضخّم وسطية بلغت 84%. فقد انعكس ذلك تآكلاً في الأجور وزيادة في معدلات البطالة والهجرة والفقر. ليست هناك إحصاءات واضحة عن البطالة والهجرة، وخصوصاً بين الشباب، في ظل الإغلاقات المتكررة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، لكن تقديرات الفقر تشير إلى أن نحو 42% من اللبنانيين باتوا تحت خطّ الفقر. كل هذا أتى على شكل «ضريبة التضخّم».

وصفة للتضخّم
في أساسيات السياسات المالية، تأتي طباعة الأموال كأحد خيارات الدولة لتغطية العجز في موازناتها. هذا العجز هو الفرق بين النفاقات والإيرادات. أما الخيارات الأخرى، فتنحصر إما برفع الضرائب للحصول على إيرادات، أو خفض الإنفاق من خلال سياسات تقشفيّة، او اللجوء إلى الاستدانة لتأمين الأموال لتغطية العجز. كل هذه الخيارات تُعتبر مكلفة على الخزينة العامة، سواء من الناحية المالية أو السياسية، ولا سيما خلال الأزمات الاقتصادية / المالية التي تضع ضغوطاً هائلة على صانعي السياسات النقدية والمالية. فيترافق رفع الضرائب مع سخط شعبي على قرارات الحكومة. وكذلك تفعل الإجراءات التقشفية. أما الاستدانة، فهي مكلفة مالياً ومرهقة للخزينة، خصوصاً في حالات الأزمات لأن كلفتها تصبح مرتفعة كثيراً بسبب ارتفاع المخاطر المترتبة على المستثمرين في إقراض الدولة في مثل هذه الحالات. لذا يصبح خيار طباعة الأموال هو الخيار الأكثر كلفة على المقيمين في البلد المعني، والأقل كلفة على قوى السلطة لأنه لا يضعها في الواجهة ويجنّبها مواجهة السخط الشعبي.
لكن لخيار طباعة الأموال تبعات على مستوى معدّلات التضخّم، وهو ما توضحه النظريّة الكميّة للمال (Quantity Theory of Money). تربط هذه النظريّة مستوى الأسعار بكميّة الأموال المتداولة؛ كلّما ارتفعت كتلة الأموال المتداولة ترتفع معها الأسعار وبالتالي تزيد معدّلات التضخّم. ورغم من أن هذه النظريّة تابعة للنهج الاقتصادي الكلاسيكي، وقد أدخل عليها الاقتصادي جون مانيارد كينز العديد من التعديلات، إلا أنه يعتقد أنه في حالة ثبات مستويات الإنتاج والاستهلاك، «فمن الحماقة عدم الاعتراف بصوابية هذه النظريّة». برأيه، إن القيمة الحقيقية الإجمالية لكتلة النقود الورقية المتداولة هي ثابتة بمعزل عن عدد وحداتها المتداولة، وذلك بشرط عدم حصول تغيّر في العادات الاستهلاكية أو في الإنتاج. وفي حالة لبنان، فإنه في ظل التراجع الاقتصادي وانخفاض الإنتاج، لا يمكن أن تعني عملية طباعة هذه الكمية الكبيرة من الليرات إلا تضخماً.

ضريبة بلا تشريع
ومن الأمور القليلة في عالم الاقتصاد التي تحظى بتوافق الغالبية، هو أن التضخّم هو عبارة عن ضريبة نافذة المفعول. كينز يقول عن التضخّم إنه «ضريبة يجد الشعب صعوبة في تفاديها، وهي ضريبة حتى أضعف الدول قادرة على تطبيقها». وفي المقابل يقول ميلتون فريدمان، الذي يُعدّ منظّراً اقتصادياً يتحدّى نظريات كينز، إن التضخّم «ضريبة لا تحتاج إلى تشريع».
لكن كيف يمكن أن يُعتبر التضخّم ضريبة؟ الضريبة بمفهومها العام هي عملية نقل للموارد من عامّة الشعب إلى الدولة. من هذا المنطلق، يلعب التضخّم الدور نفسه. فعندما تضخّ الدولة الأموال، من خلال عمليات يقوم فيها المصرف المركزي أو من خلال إنفاق الحكومة، تستعمل هذه الأموال بقيمتها الأساسية؛ فعلى سبيل المثال، إذا استُخدمت لشراء البضائع أو لتسديد كلفة الخدمات، فإن العمليات تتم على أساس قيمة العملة قبل ضخّ هذه الأموال في السوق. لكن ما يحصل بعد ذلك، هو أن قيمة الكتلة النقدية تنخفض. فما كان يمكن الحصول عليه مقابل عدد معين من الوحدات النقدية، يصبح الحصول عليه بحاجة إلى عدد أكبر من الوحدات النقدية. بهذه الطريقة تكون الدولة قد نقلت جزءاً من القدرة الشرائية من عموم الناس إليها.

لا يمكن تفادي ضريبة التضخم لأنها تمسّ كل عمليات الاستهلاك ونتائجها مدمّرة اجتماعياً واقتصادياً


ظاهرياً تبدو هذه الضريبة أنها تمسّ كل فئات المجتمع بشكل متساو على اعتبار أن كل شرائح المجتمع تدفع «النسبة» نفسها. لكن في الواقع، إن هذه الضريبة تمسّ الطبقات الفقيرة بشكل أعمق من الطبقات الميسورة. فالأسر الفقيرة تحتفظ بأجزاء أكبر من «ثرواتها» على شكل سيولة مقارنةً مع الأسر الميسورة. وهذا يعود إلى عدّة أسباب، منها حاجة الأسر الفقيرة إلى السيولة لشراء حاجاتها، علماً بأن هذه السيولة نسبتها كبيرة مقارنةً بما يتوفر لديها من «ثروات». أما العائلات الميسورة فحاجتها إلى السيولة تُعدّ أقل مقارنةً بثرواتها، وهذا يعود أولاً إلى حقيقة أن ثروات هذه الأسر أكبر بكثير من ثروات الأسر الفقيرة، وثانياً إلى أنها تستثمر ثرواتها في أشياء أخرى مثل الأراضي والبيوت والذهب وغيرها. وبما أن التضخّم يصيب النقد، أي السيولة، يكون نصيب الفقراء من هذه الضريبة، نسبةً إلى ثرواتهم، أكبر بكثير من نصيب الميسورين. وهذا ما يؤدي إلى زيادة التفاوت الاجتماعي بشكل كبير، ما يفاقم حالة اللامساواة.
هذه الضريبة تعمّ شرائح المجتمع بشكل غير عادل، ولا يمكن تفاديها لأنها تمسّ كل عمليات الاستهلاك. أما كلفتها على الدولة، فلا تتعدى كلفة طباعة الورق لأنها لا تحتاج إلى الجباية، بل يتم تحصيلها تلقائياً عبر انخفاض قيمة النقد.
تكون نتائج هذه الضريبة مدمّرة للبنية الاجتماعية لأنها تعيد تنظيم هيكلية توزيع الثروة بشكل غير عادل، وهذا ثابت في النظام الرأسمالي. كما أن نتائجها تكون مدمّرة للاقتصاد، لأنها تعطّل الترتيبات الطويلة الأمد، مثل العقود والديون، إذ إن هذه الترتيبات تعتمد بشكل أساسي على قيمة الأموال المتفق عليها، فأي تغيّر في قيمة العملة يعني تفاوتاً في القيمة المتفق عليها في أي عقد (سواء عقد شراء أو عمل أو دين). وهذه الترتيبات طويلة الأمد هي أحد الأعمدة الأساس لأيّ اقتصاد.

خيار الهروب من المسؤولية
بات معروفاً أن سياسة تثبيت سعر الصرف هي سياسية متخلّفة تخلّت عنها الدول منذ عقود. ومن الطبيعي أن يكون سعر الصرف الثابت الذي تعوّدنا عليه في لبنان بقيمة 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، هو سعر مضخّم للّيرة. فمن أجل الإبقاء على سعر الصرف ثابتاً، كان مصرف لبنان يتدخّل في السوق بمليارات الدولارات التي لم يكن يملكها، بل كان يحصل عليها عبر تحفيز الفوائد لاستقطاب تدفقات جديدة من الخارج. لذا كان يتوقّع أن يشهد سعر الصرف ارتفاعاً في حال توقف مصرف لبنان عن التدخّل في السوق.
ومن المنطقي أن يواجه المركزي هذا الارتفاع الطبيعي، بسعر الصرف من خلال طباعة الليرة لتغطية ما فقدته الكتلة النقدية الموجودة من قيمة. فطباعة المزيد من العملة في هذه الحالة هي أمر لا مفرّ منه. لكنّ هذا الأمر يثير سؤالاً أساسياً: هل هناك حاجة فعلية في السوق إلى زيادة الكتلة النقدية المتداولة بنسبة تزيد عن 450%؟
ما هو أكيد، أن ما فعله مصرف لبنان، متمثّلاً بحاكمه ذي الصلاحيات الهائلة، كان هروباً من الخيارات الصعبة عليه حصراً. فبدلاً من الطباعة المفرطة لليرة، كان الأجدر به إلزام المصارف بإجراء «كابيتال كونترول»، حتى ولو لم يقبل أهل السياسة بقرار كهذا. كان يمكنه أيضاً إجبار المصارف على إعادة الأموال التي حوّلها أصحابها وشركاؤهم إلى الخارج من أرباح «الهندسات» المالية، وعمليات السوق المفتوحة التي كان يفصّلها المركزي على مقاسهم على مدى العقود الأخيرة، بدلاً من «حثّهم» على ذلك، كما ورد في التعميم 154 بعد فوات الأوان.
رغم تعدّد الخيارات، إلا أنه فضّل سلوك الطريق الأسهل عليه، أي الضريبة «الخفيّة» التي أفقدت الناس قدرتهم الشرائية ووضعت نصف المجتمع تحت خط الفقر. هذه الطريق كانت الأقل ألماً عليه وعلى أصدقائه السياسيين والمصرفيين، لكنها ليست سوى هروب إلى الأمام من واقع أصبح فيه هو وكل قطاعه مفلسيْنِ.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام