الأولويّة الراهنة هي من دون شك لإيجاد الحلول والمخارج لأزمتنا الماليّة والنقديّة والمصرفيّة التي تعطّل البحث عنها لغايات معروفة. مع ذلك لا بدّ من مواصلة رفع الركام عن الحقائق المتّصلة بها، والردّ على أسئلة من قبيل لماذا حصل ما حصل؟ كيف؟ بأيّ طريقة؟ هذا ليس عبثياً أو من باب الجدل العقيم، بل ينطوي حالياً على أهمية خاصة مع بروز محاولات واضحة لحصر الأزمة في فصلها الأخير، وطيّ صفحاتها الأولى. بقول آخر، هناك من يحيل جوهر المشكلة إلى الخيارات الجيوسياسية وتبعاتها، وإلى الأزمات والظروف والصراعات الخارجية، مقلّلاً من شأن ارتكاباتنا الخاصة وأخطاء السياسات والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية الناتجة عنها، ومن شأن التسليم بذلك أن يجعل خطوط الحلّ المستقبلي موجودة بكلّ بساطة في دفاتر الماضي. سنحاول تفكيك هذه الفرضية من خلال تحليل الأرقام والمؤشّرات ذات الصلة بعجزَي الحساب المالي والحساب الخارجي على امتداد المرحلة الفاصلة بين نهاية الحرب الأهلية وعشية الأزمة الأخيرة (1992-2018)، وذلك بهدف استكشاف الروابط والعلاقات الضمنيّة الكامنة بين المتغيرات ذات الصلة بالأزمة، والتقاط التحوّلات في سلوك الأزمة بين مرحلة وأخرى وصولاً إلى تحديد حقبتها المرجعية. وسنسلّط الضوء، خصوصاً، على التباين بين العجز المالي الفعلي والعجز المقدّر وعلاقته هو والإنفاق العام بالعجز التجاري، من دون أن نُغفل في السياق دور المعدّلات الزائدة للفائدة في تضخيم كلا العجزَين.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الفرق بين العجز المقدّر والعجز الفعلي
يمكن النظر إلى الفرق بين العجز المقدّر والعجز الفعلي في المالية العامة، باعتباره مؤشراً مقرّباً Proxy لكلفة العامل السياسي بوصفه أحد أسباب الأزمة. ظهر هذا العامل في التسعينيات في إطار المقايضة الضمنية التي أُديرت بها البلاد في حينه، بين التعددية والتوافقية والشراكة في القرار السياسي من جهة، والانفراد والأحادية في القرار الاقتصادي من جهة ثانية. وانطوت تلك الحقبة أيضاً، على إنفاق «سخي» لشراء رضا المتضرّرين من «النموذج الاقتصادي» الملائم لفئة صغيرة من السكان، ولامتصاص غضب الفئات الاجتماعية التي وجدت نفسها على هامش مشروع إعادة الإعمار ومستبعَدة من الدورة الاقتصادية والتمويلية المحيطة به.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أيضاً، يرتبط الفرق المذكور بتقويض الإدارة العامة وإضعاف بل استضعاف الهيئات الرقابية ثم استتباعها. فالفرق الواسع بين العجزَين الفعلي والمقدّر لم يحصل عبر تشغيل آلة المحاصصة والزبائنية والفساد بأقصى طاقتها فقط، بل أيضاً من خلال تهميش الإدارة العامة «الشهابية» لمصلحة إدارة رديفة مُنحت أدواراً مضخّمة، وأُعطيت مرونة واستقلالية تزيدان عن الحد. ولم يكن الفارق بين الإدارتين الأصيلة التي تضمّ الوزارات والإدارات العامة التقليدية، والرديفة التي تمثلها الهيئات والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، شكلياً وإدارياً فحسب، بل انطوى على فوارق نوعية وبنيوية. فالإدارة الرديفة افتقرت إلى شروط أساسية لا بد منها لقيام بيروقراطية حكومية صلبة وفعّالة: أولها؛ العصبيّة الداخلية التي تضمن للإدارة العامة القدرة والتماسك والتعاون والتضامن والانضباط الذاتي، وثانيها؛ الحصانة تجاه التدخلات والتأثيرات الآتية من خارجها، وثالث تلك الشروط؛ الكفاءة بالمعنى الفيبري التي تفتح نافذة فرص متساوية أمام الراغبين بالانضمام إلى الخدمة العامة. وبخلاف ذلك افتقرت الإدارة الرديفة في لبنان لعصبيّة ذاتية مستقلة عن عصبيات الطوائف والجماعات السياسية، بل صارت قراراتها امتداداً لمصالحها الفئوية، واتّخذ التوظيف فيها من أعلى الهرم إلى أسفله مساراً خاصاً مفصولاً عن ذلك الذي يتولّاه مثلاً مجلس الخدمة المدنية، وانعدم التضامن داخل هذه الادارة الرديفة نظراً لتعدّد مرجعياتها وتضارب أهوائها.
وعوداً على بدء، يقدّم الفرق الضخم بين أرقام العجز الواردة في قوانين الموازنة (أو مشاريع القوانين في السنوات التي لم تُقرّ فيها موازنات) والعجز الفعلي، دليلاً آخر على فشل النظام السياسي/ الاقتصادي والإداري في القيام بدوره، إلّا في الحالات التي كان يسعفه فيها الضخّ المتواصل وغير المسؤول للمال العام، وما لم يكن محاطاً بمقدار من الفوضى التي تجعل الإفراط في الإنفاق الهدري ممكناً ومحصّناً من المساءلة.
يقدّم الفرق الضخم بين أرقام العجز الواردة في قوانين الموازنة والعجز الفعلي، دليلاً آخر على فشل النظام السياسي/ الاقتصادي والإداري في القيام بدوره


العجز الفعلي بحسب تقارير الأداء كان أعلى بنحو 72% من العجز التراكمي المقدّر في قوانين الموازنة العامة في السنوات 1992-2000، وهذا أكبر فرق في العقود الثلاثة التي أعقبت الطائف. وبذلك زاد مجموع النفقات العامة في الأعوام المذكورة بنحو 46% عن النفقات التي أجازتها قوانين الموازنة العامة، واستمرّ الأمر على هذا المنوال سنوات إضافية لكن على نحو متباطئ. وفي نهاية المطاف وصل مجموع العجز الإضافي في السنوات 1992-2005 إلى ما يقارب 14368 مليار ليرة أي أعلى بـ 42.5% من العجز المقدّر في الموازنات العامة، فيما قارب الإنفاق الإضافي الزائد 22 ألف مليار ليرة مقارنة بما أقرّته الموازنات في المدة المذكورة.
كانت سنة 2005 في المرحلة اللاحقة مفصلية على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي، فالتطوّرات التي شهدتها أفضت إلى تعطيل التسوية التي فصلت بين مسارَي القرار الاقتصادي والسياسي، ليتّسع بعد تلك السنة نطاق التعدّدية والشراكة والفيتو المتبادل شاملاً الشؤون المالية والاقتصادية إلى جانب قضايا السياسة، ما عرقل انتظام عمل الدولة وأبطأ دوران عجلتها. وبفعل ذلك صار العجز الفعلي، بعكس حقبة التسعينيات، أقل من العجز المقدر في مشاريع الموازنات (بنحو 12400 مليار ليرة)، إذ قُدّر العجز الفعلي الوسطي في السنوات 2006-2018 بنحو 28.7% من مجموع النفقات العامة مقابل 38.4% للعجز المقدّر في الموازنة. وبذلك تقلّص الإنفاق الزائد الذي يتجاوز ما أقرّته الموازنات العامة ومشاريعها طوال المدة 1992-2018 إلى نحو 8600 مليار ليرة، والعجز الزائد إلى 6454 مليار ليرة تقريباً.


العجز المالي وعجز الميزان التجاري
ننطلق هنا من فرضية العجز التوأم Twin deficit التي تدلّ حسب الأدبيات الاقتصادية التقليدية على وجود علاقة طردية بين فائض أو عجز الموازنة وبين الفائض أو العجز في الحساب الجاري. هذه العلاقة لوحظ وجودها في لبنان لكن مع تقلّبات سببها طرق تمويل الدين وطبيعة التدفقات من الخارج، وما إذا كانت تنمو في مقابلها أصول حقيقية قابلة للتبادل الدولي أم لا.
تكشف بيانات السنوات 1992-2018 عن وجود علاقة ما بين العجز الفعلي في المالية العامة وعجز الميزان التجاري. يقدّر معامل الارتباط بين المتغيرين بـ0.66 في السنوات 2002-2018، ويرتفع المعامل إلى 0.72 إذا أخذنا بعين الاعتبار الصادرات والواردات من الخدمات. ويقدر متوسط العجز المالي الكلي التراكمي للسنوات 1993-2018، بما يعادل 31.4% تقريباً من مجموع العجز في الميزان التجاري، والذي تقدّر قيمته التراكمية بنحو 373363 مليار ليرة طوال المدة. سنلاحظ هنا أنّ نسبة العجز المالي إلى العجز التجاري كانت أعلى في المرحلة الأولى، بتسجيلها أكثر من 43% في السنوات 1993-2005، قبل أن تتراجع بعد ذلك إلى أقل من 28% في المدة 2006-2018، وذلك في مقابل زيادة أثر التدفقات والتحويلات الخارجية ثم الهندسات المالية خلال هذه المرحلة في تمويل الاستيراد وزيادة قيمة العجز التجاري. ويدل التفاوت بين النسبتين على أنّ المرحلة الأولى التي سبقت عام 2005 والتي احتضنت بذور العجز المالي أسّست أيضاً للعجز التجاري، فهذا الأخير تأثّر بالطلب الإضافي على السلع المستوردة المموّل بعجز الموازنة من جهة، والقوة الشرائية التي خلقها تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي منذ تشرين الأول عام 1997 من جهة ثانية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الفوائد الزائدة
ما تقدم يرتبط بعامل ثالث لا يمكن تجاهله في التنقيب عن جذور الأزمة، هو الإفراط في الاستدانة التي تشمل القطاعين العام والخاص والقطاع المصرفي. ما أودّ الإشارة إليه في هذا السياق، هو أنّ المشكلة لم تكن في الدين العام وحده، بل بما يمكن تسميته المديونية الشاملة للبلد بالعملات الأجنبية، والتي تتضمن إلى جانب رصيد الدين الحكومي، الودائع التي لا تقابلها أصول استثمارية عاملة وغير المغطاة بنمو اقتصادي حقيقي، وديون المصرف المركزي المكوّنة من شهادات الإيداع وفائض في الاحتياطيات المصرفية، وهذا فضلاً عن مديونية مستقبلية يمثلها عجز الميزان التجاري المتراكم الذي فاقمته قوة شرائية مفتعلة ممولة بالديون أيضاً، فالعملة الوطنية المستقرة التي نعمنا بها طوال ربع قرن اكتسبت قوتها من فوائض الديون المذكورة لا من اقتصاد قوي، ومهّدت لطريقة في الاستهلاك وسّعت الثغرة التمويلية في الاقتصاد.
هذه الحلقة المفرغة التي تبدأ بالدين وتنتهي به، كان لها محرّك واحد هو المعدل الزائد للفائدة ولا سيما قبل عام 2002، والذي ضخّم كلّاً من الدين العام وربحية المصارف وكلفة تمويل الاقتصاد وحصّة الفوائد من الناتج المحلي. لكن الأدهى من ذلك هو أن المبالغة في تحديد أسعار الفائدة زادت من تمركز الأصول المالية الحقيقية في أيدي فئة صغيرة تضاءل حجمها مع مرور الوقت، فكان سهلاً عليها مع بروز مؤشرات خطر جدية ترحيل هذه الأصول إلى الخارج محدثة فجوة موارد هائلة.
نستخلص من كل ذلك، أن جذور الأزمة الحالية تعود إلى حقبة التسعينيات التي شهدت إفراطاً في الإنفاق خارج قوانين الموازنة العامة، وزيادة في الفوائد الحقيقية وتعزيزاً مفتعلاً للقوة الشرائية للمقيمين، وهذا ما ترافق مع، بل إنه تسبب في، مضاعفة العجز التجاري، وتنامي المديونية الشاملة للبلد. هذه الحقائق التي استمرت لاحقاً بقوّة القصور الذاتي ضاعفت التفاعلات السلبية الناتجة عن أحداث طارئة كأزمة 2008 والحرب السورية وتدهور العلاقات الإقليمية، قبل أن تقود البلد إلى المربع الأخير وحافة الهاوية.
لا يبدو أنّنا سنعود إلى نقطة الصفر للانطلاق من جديد، أو نتمكن من ردم فجوة الموارد، قبل مرور سنوات طويلة، ومن دون اتّخاذ إجراءات صارمة لا تشبه نظامنا السياسي والاقتصادي الذي يجد فيه المرتكبون والمسؤولون عن الأزمة من يدافع عن مصالحهم، ما لم يكونوا مدعوين في الأساس للجلوس على مقاعد اتّخاذ القرار.