بعد ثلاث سنوات من التخطيط، أطلقت السعودية، في الأسبوع الماضي، مشروع «ذا لاين» (أصرّ القيّمون على المشروع، على حصر الاسم باللغة الإنكليزية). هو عبارة عن مدينة سُوِّق لها باعتبارها «ثورة في التنمية الحضرية» كجزء من مدينة «نيوم» التي أُطلقت في أواخر عام 2017 بكلفة 500 مليار دولار أميركي. يتوقع بدء تنفيذ المشروع في الربع الأول من السنة الجارية، ويُقدّر أن يُسهم بإضافة 180 مليار ريال سعودي إلى الناتج المحلي الإجمالي السعودي، و380 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030 عبر إنشاء مدينة «مليونية» تقوم على شكل «سلسلة من المجتمعات الإدراكية المترابطة والمعزّزة بالذكاء الاصطناعي، وخالية من الانبعاثات الكربونية، وبلا ضوضاء أو تلوّث، أو مركبات وشوارع، تمتدّ على طول 170 كيلومتراً من ساحل «نيوم» شمال غرب المملكة، وتمرُّ بجبال وصحراء «نيوم» شرقاً «مع الحفاظ على 95% من الطبيعة» كما يذكر الموقع الإلكتروني للمشروع.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

في ما يخص النقل، تقوم «ذا لاين» على مبدأ إقامة مجتمعات تحتاج بداخلها إلى أقل من 5 دقائق مشياً على الأقدام للوصول إلى المرافق والعمل والترفيه، وإلى 20 دقيقة بواسطة النقل المشترك الجماعي للتنقل بين مجتمع وآخر مع غياب تام للسيارات والاعتماد على مصادر متجدّدة لتأمين الطاقة وعلى الذكاء الاصطناعي والروبوتات لـ«تسهيل حياة الإنسان». أما بالنسبة إلى البنى التحتية الأخرى، فيقترح المشروع إقامتها على طبقتين تحت سطح الأرض: طبقة الخدمات، وطبقة «ذا سباين» حيث ستوجد وسائل نقل للبضائع ووسائل نقل سريعة للركاب يُحرِّك بعضها أيضاً الذكاء الاصطناعي.
سعى القيّمون على المشروع لإظهاره على أنه شبيه بمدن الخيال العلمي بطريقة مبالغ فيها تتسم بها الخطط التسويقية للعديد من المشاريع في منطقة الخليج العربي. لذا عند قراءته نشعر ببعض من «اليوتوبيا» التي يسعى القائمون عليه لتظهيرها.
بالمبدأ العام لتنظيم المدن، أن تكون المدينة خالية من السيارات ومعتمدة على المشي للتنقلات ذات المسافات الصغيرة والنقل العام الجماعي للمسافات الأبعد، هو شيء مطلوب، بل هذا هو ما يجب أن تسعى غالبية المدن إليه (كلّ بحسب حاجاتها وقدراتها). لكن هل بالفعل يمكن اعتبار مشروع «ذا لاين» (و«نيوم» إجمالاً) نموذجاً يُحتذى به، أو تجربة واجبٌ نقلها إلى خارج حدودها الجغرافية؟ يُضاف ذلك إلى تساؤلات أخرى تحيلنا إلى الاعتقاد بأن «ذا لاين» لن تكون أكثر من «فقاعة» هدفها إلباس مطلقيها نوعاً من التطوّر لإظهارهم يجارون الثقافة المُدنية والحضرية المعاصرة، ولا سيّما الغربية منها منذ مطلع الألفية وبداية التحول من المدينة التي تُعطي أولوية للسيارة إلى تلك التي تسعى لأنسنة شوارعها وإعطاء الأولوية للناس فيها. هذا الاتجاه العالمي بدأ يزيد منذ بضع سنوات بشكلٍ متسارع إلى أن تم استيراده إلى منطقة الخليج أخيراً، ولكن تطبيقه بدأ كـ«رفع عتب» لا أكثر (لأسباب يطول شرحها في هذا المقال) فلم يُعط الجدوى المرجوّة منه خلافاً لما حصل في الكثير من دول أوروبا، وأميركا الجنوبية أو شرق آسيا على سبيل المثال.
مشروع «ذا لاين» سينتج مسخ مدينة تُقدَّم للأغنياء حصراً ولا سيما الأجانب منهم


التساؤل الأول هو لمن تقام مدينة كهذه؟ بمعنى آخر، من سيكون المجتمع الذي سيسكنها؟ رغم أن الإعلان الرسمي لم يتطرق إلى الكلفة (التقديرية) التفصيلية للمشروع، هناك تقديرات تشير إلى أن الكلفة الإجمالية تصل إلى 500 مليار دولار (لمشروع «نيوم» كاملاً؟)، إلا أنه يمكن بسهولة الجزم أنها ستكون كلفة مهولة، أي أن كلفة العقارات للإقامة أو إنشاء الأعمال فيها ستكون عالية جداً خصوصاً مع كل الخصائص التكنولوجية المرافقة للمشروع. إذاً يمكننا التوقّع منذ الآن أنها ستكون محصورة بطبقة الميسورين، ما يُفقدها أول خاصية: التعايش المجتمعي بين السكان خصوصاً بعد فقدان المكان لسكانه «الأصليين أو السابقين». فمع إعلان المشروع تبيّن أن نحو 20 ألف شخص من قاطني تلك المناطق غالبيتهم قبائل، نُقلوا إلى أماكن أخرى ما أدّى إلى توتّر بينهم وبين السلطات راح ضحيته قتيل من قبيلة «الحويطات». يُضاف إلى ذلك، الغياب المتوقّع للتنوّع الثقافي والاقتصادي، إذ يُستبعد أن نجد كثيراً من المهن والحرف كما يجب أن تكون في كل مدينة.
التساؤل الثاني مرتبط بمدى إمكانية أن تشكل هذه المدينة نموذجاً. في البداية، من المفيد التنويه بأن تعبير «ثورة» الذي رافق إطلاق المشروع يبدو «مبهبطاً» عليه نوعاً ما (عدا أنه يأتي في السعودية!). أما في ما يخص نموذجية المدينة التي سيُحتذى فيها لاحقاً، فإن هذا الأمر يبدو طموحاً جداً ربطاً بالقدرة على تحمّل كلفة تشييد مدينة كهذه. فمن النادر أن يكون الأمر بهذه السهولة بين الدول، ويُضاف الى ذلك المساحة الشاسعة التي يحتاج إليها المشروع والمقدّرة بنحو 26500 كيلومتر مربع لمجمل مشروع «نيوم» (35 مرة مساحة البحرين، 2.5 مرّة مساحة لبنان، 1.5 مرّة مساحة الكويت ونحو 90% من مساحة بلجيكا على سبيل المثال)، علماً بأن طول «ذا لاين» يبلغ 170 كيلومتراً. مساحة كهذه تُعد ضخمة جداً حتى في الدول الكبيرة، لذا يصعب إيجاد دولة مستعدّة لتخصيص هذه المساحة لإقامة مدينة «جديدة» من الصفر.
للتذكير فإن مصر قامت بمشروع مشابه، لكن بمعايير أقل بكثير ومساحة أصغر بكثير جداً؛ هو مشروع «العاصمة الإدارية الجديدة» التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 720 كيلومتراً مربعاً. وهذا المشروع أثار بضع علامات استفهام مرتبطة بالجدوى منه، التفريق الطبقي، البعد السياسي، التوسع العمراني... في الأساس لا تبدو المقارنة بين المشروعين («ذا لاين» و«العاصمة الإدارية الجديدة») ممكنة لأن لكل منهما خصائصه وأهدافه.
التساؤل الثالث يدور حول الهوية الثقافية والعمرانية للمدينة. لا يجب في أي مدينة من العالم مهما بلغ تطورها أو حداثتها إغفال تاريخها وثقافتها. لا شك في أن ذلك يُعدّ نوعاً من المعضلة في حالة «ذا لاين» إذ أن المدينة ستكون جديدة كلياً، بمعنى أنها لا تُستحدث فوق مدينة قائمة بل تنطلق من الصفر. إذاً هنا يبدو من المنطقي السؤال عما إذا كان المشروع يسعى إلى إضفاء خصائص عمرانية شرقية على المدينة، أم أنه سيجعل من مبانيها شبيهة لما اصطُلح تسميته العمارة الحديثة مع مبان شاهقة وأبراج زجاجية وضخامة في العمران (دبي مثالاً). ففي النهاية، نرجو هنا ألا تتم الاستعانة بالنموذج العمراني نفسه الذي طغى على «مبنى الساعة» والمباني الملاصقة له المُستحدثة في محيط الحرم المكي!
رغم أن التفكير بتحويل المدن للناس لا للسيارات والبحث عن تطويرها مطلوب دائماً، إلا أن كلفة ذلك والغاية منه لا يجب أن تتخطّيا حاجات المجتمع (المحلّي بالدرجة الأولى) وقدراته بعكس مشروع «ذا لاين» الذي لا يبدو أنه سينتج سوى مسخ مدينة تُقدَّم للأغنياء حصراً ولا سيما الأجانب منهم.

*باحث متخصّص في أنظمة النقل وعادات التنقّل.