إن العلاقة بين سعر الفائدة والنمو الاقتصادي تظهر بوضوح من خلال قيام الفيدرالي الأميركي بخفض معدلات الفائدة ربطاً بتحليل أداء السوق وبرغبته في تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة العمالة، ولا سيما مقارنة مع الدول الشريكة للولايات المتحدة في التجارة الدولية (الاتحاد الأوروبي، الصين، المكسيك، كندا، اليابان، بريطانيا... هذه الدول الست تمثل 73.268% من حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة لعام 2020). وبنتيجة معدلات الفائدة المنخفضة، تهرب بعض الرساميل للاستثمار في عملات أخرى، ما ينعكس انخفاضاً في سعر صرف العملة الخضراء مقابل عملات تلك الدول. يقوم الفيدرالي بهذه الخطوة لتصبح منتجاته الداخلية أكثر جذباً محلياً وخارجياً ما يسهم في انخفاض عجز الميزان التجاري وفي زيادة الاستثمار في الأوراق المالية والأسهم داخلياً نتيجة تحقيقها لمعدلات عائد أكبر من الإيداع في المصارف، كما أن هذه الخطوة تفيد المستثمرين الذين يعمدون إلى الاستدانة من المصارف بهدف زيادة الاستثمار، وبالتالي تحقيق زيادة في معدلات الإنتاج ورفع معدل تشغيل الأيدي العاملة، وبالتالي انخفاض معدلات البطالة.* مثلاً: في 16 كانون الأول 2020 أبقى الفدرالي الأميركي سعر الفائدة عند مستوى يلامس الصفر، فضلاً عن قيامه باستحواذات شهرية إضافية منها سندات خزينة لا تنقص عن 80 مليار دولار، وأوراق مالية ذات صلة بالرهن العقاري لا تقل عن 40 مليار دولار، وذلك من أجل رفع معدل العمالة في الاقتصاد الأميركي ولضمان بقاء معدلات التضخم المالي عند حدود 2%.

ما أهداف الفيدرالي الأميركي؟
الفيدرالي الأميركي هو المصرف المركزي للولايات المتحدة، ويتكوّن من 12 مصرفاً احتياطياً تمثّل المصارف المركزية في 12 حيّزاً جغرافياً وليس ولاية. وجرى تقسيم كل حيّز جغرافي بالاستناد إلى مؤشرات اقتصادية وجدت عام 1913. يمكن أن يكون لعدّة ولايات مصرف مركزي واحد، مثلاً الحيز الجغرافي الأول: يشمل ولاية بوسطن، ولاية مين، ولاية ماساتشوستس، ولاية نيو هابمشير، ولاية رود أيلاند، ولاية فيرمونت، ولاية كونيكتيكت ما عدا مقاطعة فير فيلد. وجميعها تتبع مصرفاً مركزياً واحداً مقرّه في بوسطن.
وكل مصرف احتياطي (Federal Reserve) يتبع لحيّز جغرافي يمارس عمله فرادة، إنما تحت إشراف المجلس الفيدرالي. والأهداف الخمسة الرئيسية للنظام الفيدرالي الأميركي (ما يمثل المصرف المركزي) هي:
- رسم السياسة النقدية للولايات المتحدة من أجل تأمين أعلى معدل عمالة ممكن، أسعار مستقرّة، وتأمين استقرار معدلات فائدة طويلة الأجل.
- تأمين استقرار النظام المالي مع السعي إلى تقليل المخاطر واحتوائها من خلال رقابة فاعلة وانخراط داخل الولايات المتحدة وخارجها.
- تعزيز درجة أمانة المؤسسات المالية ومراقبة تأثيرها على النظام المالي ككل.
- تقوية نسبة أمان وفعّالية أنظمة الدفع والتسويات من خلال خدمات مقدمة للقطاع المصرفي، والحكومة الأميركية، لتسهيل التبادل والدفع بالعملة الوطنية.
- تأمين حماية المستهلك وتنمية المجتمع من خلال الرقابة لمصلحة المستهلك، البحث وتحليل الأنماط الاستهلاكية ومشاكلها، وأنشطة التنمية الاقتصادية المجتمعية، وإدارة قوانين المستهلك وتطبيقاتها.

كيف يتحرك الفيدرالي الأميركي (المصرف المركزي)؟
لأن هدف المصرف المركزي حماية المجتمع وتطوير الاقتصاد، لا يمكن أن يكون شخص واحد هو المتحكم في جميع قراراته والتي من شأنها التأثير على نشاط البلاد والعباد، لذا ينطلق المفهوم الأميركي من إيجاد عدّة مؤسسات، هي:
- أولاً: المصارف المركزية في الاثنتي عشرة منطقة جغرافية (Federal Reserve Banks) من أجل الإشراف ومراقبة عمل المؤسسات المالية وتأمين فعاليتها، وتأمين آلية خدمات الدفع، والتبادل المالي في ما بينها، كما تقوم بجمع معلومات وأرقام اقتصادية ضمن كل منطقة جغرافية من أجل رسم السياسة النقدية الفيدرالية واتخاذ القرارات المناسبة في ما بعد من قبل المجلس الفيدرالي ولجنة السوق الفيدرالية المفتوحة.
كل مصرف مركزي يتكوّن من تسعة أعضاء، ستة يجري انتخابهم من قبل المصارف العاملة في منطقة الاحتياطي الفيدرالي (هم مديرو أو رؤساء مجالس إدارة في مؤسساتهم) ثلاثة من بينهم يمثلون القطاع المصرفي في كل حيز جغرافي (Class A) وثلاثة آخرون يمثلون الجمهور والمودعين (Class B) وثلاثة من الجمهور يختارهم المجلس الفيدرالي (Class C) ضمن شؤون: الزراعة، الصناعة، التجارة، الخدمات، العمالة، وشؤون المستهلك. ويتم اختيار حاكم ونائب للحاكم من بين الفئة الثالثة (Class C) على أن يكونوا مختصّين في الاقتصاد والمال. وظيفة الأعضاء التسعة هي ضمان الحوكمة داخل المؤسسة، وتأمين ضوابط التدقيق الداخلي، لكن ليست لهم علاقة في الإشراف على العمل المصرفي.
- ثانياً: المجلس الفيدرالي (Board of Governors) يتكون من سبعة حكام لمصارف فيدرالية يجري اختيارهم من قبل رئيس الولايات المتحدة ويتم التصديق عليهم من قبل مجلس الشيوخ، من أجل الإشراف على نظام عمليات كلّ العمليات الفيدرالية والأهداف الخمسة الرئيسية له، ويتم اختيار أحدهم ليكون رئيساً للمجلس وعضو آخر ليكون نائباً للرئيس. يستعين المجلس بأكثر من 400 اقتصادي من مختلف الحقول البحثية (اقتصاد كلي، اقتصاد جزئي، اقتصاد نقدي...) من أجل القيام بالأبحاث، إنتاج أوراق علميّة ونشرها في مجلات محكّمة، وإجراء تحليلات اقتصادية وتوقعات مستقبلية بشكل رئيسي عن السوق الأميركي.
- ثالثاً: لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة (Federal Open Market Committee) تتألف من 12 صوتاً (سبعة أعضاء يتألف منهم المجلس الفيدرالي وحاكم المصرف الفيدرالي لمنطقة نيويورك والأربعة حكام للمصارف المركزية الباقية تكون مدّة خدمة كل واحد منهم عاماً كاملاً وتتنقّل المسؤولية في ما بينهم)، كما جميع حكام المصارف المركزية يمكن لهم حضور اجتماعات اللجنة من دون المشاركة في التصويت. هذه اللجنة هي من تنتخب رئيس الاحتياطي الفيدرالي. عمل هذه اللجنة أساسي كونها ترسم السياسة النقدية في البلاد. اللجنة هي جهاز صنع السياسات النقدية في النظام الفيدرالي الأميركي، وذلك من أجل تأمين أقصى عمالة ممكنة، أسعار مستقرة لمجموعة واسعة من السلع والخدمات (ما يسهم في زيادة الادخار وتكوين رأس المال)، وتأمين استقرار أسعار الفائدة على الأمد الطويل في الاقتصاد الأميركي.
وتقوم اللجنة بعملها من خلال وضع إستراتيجية على أمد طويل وباعتماد أدوات للوصول لها، أهمّها أسعار الفائدة لأموال الاحتياطي الفيدرالي على الأمد القصير (وهي الأموال التي تتحرك بين المصارف) وتأثيرها على كلفة وتوفر الاستدانة للقطاعات الإنتاجية، كما تأثيرها على مجموع ما يحصل عليه المودعون نتيجة إيداعاتهم. بالإضافة إلى السياسة النقدية التي تشكل لاعباً أساسياً يؤثّر على معدلات التضخم المالي، من أجل التأثير على الأسواق وضمان استقرارها، وهذا بدوره يؤثر على مداخيل المقيمين في البلاد كي لا تنخفض قدراتهم الشرائية. علماً بأن معدل التضخم يؤثر أيضاً على قرارات الأفراد والشركات بالاستدانة والاستثمار كما يؤثر على الادخار، وبالتالي فإن ارتفاع التضخم يؤدي إلى تآكل رأسمال الأفراد واحتياطيات المؤسسات.
لم يكن لدى الاحتياطي الفيدراليّ استراتيجية خروج من سياسته النقدية غير العادية في عام 2008 وبالتأكيد ليست لديه استراتيجية خروج اليوم


* مثال: خلال الأزمة المالية التي بدأت عام 2007 في الولايات المتحدة الأميركية، بدأت هذه اللجنة بخفض أسعار الفائدة على أموال الاحتياطي من 5.25% في شباط 2007 إلى 4.75% في أيلول 2007 وإلى 3.00% في كانون ثاني 2008 وإلى 2.00% في نيسان 2008 ثم إلى 1.00% في تشرين الأول 2008 وما يقرب إلى الصفر مع نهاية 2008، كما عمدت إلى شراء أوراق مالية حكومية طويلة الأجل. ومع تعافي الاقتصاد الأميركي وتحقيق معدلات عمالة قصوى في خريف 2014، قامت اللجنة وابتداءً من عام 2015 برفع أسعار الفائدة للاحتياطي الفيدرالي.

ماذا نستخلص لبنانياً؟

ضرورة إيجاد آليات أخرى لتعيين أصحاب القرار النقدي في البلاد، كما بتوزيع المهام داخل المصرف المركزي، وضرورة رفده بإدارة فاعلة في الإحصاء ومراجعة البيانات ورسم السياسات النقدية، على أن يكون معدل البطالة ونسبة التضخم أداتين أساسيتين في رسم تلك السياسات، مع أهمية مراجعة معظم التعاميم الصادرة خلال العام المنصرم وأهمها كيفية ضخّ أموال بالعملة الوطنية في الأسواق وتوجيهها للنشاط الاستثماري لا الاستهلاكي كما حصل منذ أكثر من عام وأسهم في وصول معدلات التضخم المالي إلى حدود قياسية أدّت إلى انخفاض القدرات الشرائية للمواطنين إلى حدود غير مسبوقة، وفي رفع معدل الفقر، وفي انخفاض قيمة الودائع بالليرة اللبنانية كما احتياطيات المؤسسات، مع تراجع الاستثمار، وانخفاض التوظيف، وبالتالي مراكمة الأزمات.

* باحث اقتصادي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا