في ظلّ الأزمة النقدية التي نعيشها، لا بدّ من حلول عملية يمكن تنفيذها فوراً من قِبل القابض على أموال الإيداعات، والمتحكّم بالأصول المالية للدولة ومؤسّساتها، والناس والجهة التي ترسم السياسة النقدية وتنفذها.في صف الاقتصاد في السنة الجامعية الأولى، يعلّمون الطلاب أنّ المصرف المركزي لأيّ دولة هو الذي يضع السياسة النقدية في البلاد، ومهمّته هي: المحافظة على قيمة العملة الوطنية، ومراقبة عمل المصارف. ويقوم المصرف المركزي بدوره من خلال أدوات تؤثّر بالسوق، أهمها: الفوائد والقروض.
فشل مصرف لبنان في مهمّته. كيف ولماذا؟

سياسة الفوائد المرتفعة غير العقلانية على سندات الخزينة
استمرّت هذه السياسة لأكثر من أحد عشر عاماً من آذار 1992 ولغاية آذار 2003. في هذه الفترة، عمل المصرف المركزي على جذب الودائع من خلال إعطاء فوائد مرتفعة غير عقلانية على سندات الخزينة.
مثال 1: معدّل الفائدة على سندات الخزينة لأجل 6 أشهر وصل في أيلول 1995 إلى مستوى 27.9%.
مثال 2: معدلات الفائدة المدفوعة على سندات الخزينة لأجل عام واحد بلغت في أيلول 1995 نحو 37.85%.
لم يكن هناك داع لدفع هذا الحجم من الفائدة، لأن سعر الصرف في عام 1995 كان بحدود 1612.26 ليرة لبنانية مقابل كل دولار أميركي، وكان هناك استقرار سياسيّ وتمديد رئاسة الياس الهراوي.

سياسة القروض المصرفيّة
- إن أسعار الفائدة التي كانت تدفعها المصارف التجاريّة في آذار 1992 وصلت إلى مستوى 42.8% ولغاية آذار 2003 حيث انخفضت إلى 15%، إلّا أنها بقيت الأعلى في المنطقة، ما يشير إلى أن السياسة النقدية كانت سياسة طاردة للاستثمارات، وغير مشجّعة لها.
- كان يجدر خفض أسعار الفائدة من أجل استخدام الأموال المودعة في إعطاء قروض للقطاعات الإنتاجية وتحقيق نمو متوازن، ولا سيما أن معدّلات نمو الناتج المحلّي الإجمالي بدأت تنخفض وبلغت 1% في عام 1997 ونمو سلبيّ بمعدّل - 0.526% في عام 1999.
- كان يمكن المصرف المركزي توجيه المصارف نحو تمويل القطاعات الإنتاجية المحلّية، إلّا أنها موّلت البطاقات المصرفيةّ (دائنة ومدينة) والقروض الشخصية مقابل توطين الراتب وقروض سيارات والورم العقاري.
مثال 3: تضاعف عدد حاملي البطاقات المصرفية من 628,259 في كانون الثاني 2003 ليصبح 2,674,870 في كانون الثاني 2019، أي بمعدل 425%. [1]
مثال رابع 4: إذا قارنّا الفوائد مع دولتَين تشبهان لبنان من عدة أوجه وهما بلغاريا والأردن. [2]
- في عام 1998 كان معدّل الفائدة في بلغاريا 14%، في الأردن 12.6%، بينما في لبنان 20.15%.
- عام 2002 بلغ معدّل فائدة الإقراض 9.2% في بلغاريا، 10% في الأردن، إلّا أنه كان 16.6% في لبنان؛ رغم أن لبنان كان يعيش أيامه الورديّة في تلك الفترة حين عُقدت في بيروت القمّة العربية بحضور بارز لمعظم القادة العرب، ثم القمّة الفرنكوفونية، وفي ظلّ تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، ألم يكن في حينه واجب أن تكون أسعار الفائدة للاستدانة أقلّ لتشجيع الاستثمار وإطلاق النمو في المدن والبلدات التي حُرّرت مثلاً.

داريو كاستيليخوس ــ المكسيك

بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري في شباط 2005 أصبح المصرف المركزي يخفّض الفائدة على الإقراض، إلّا أنّ البلاد لم تعد جاذبة للاستثمار، ناهيك عن حرب 2006، والمشاكل السياسية 2007. ثم بدأ يتعافى الاقتصاد عامي 2009 و2010 قبل نشوب أزمة سياسيّة داخلية، أعقبها نشوب الحرب الأهلية السورية على الحدود الشمالية والشرقية التي هدّدت طرق الترانزيت وطرق سياحة العرب إلى لبنان، وأعقب ذلك حصار اقتصاديّ غير معلَن وتفجيرات إرهابية وصلت إلى قلب بيروت وضواحيها.
كلّ هذه العوامل أدّت إلى بداية انكماش اقتصاديّ لم يكن يوجد في مقابله سياسات نقدية ومالية شافية لإخراج البلاد من ذاك النفق الأسود الذي دخلت فيه.
هذه القراءة للدلالة على أنه انطلاقاً من السياسات النقدية لم يقُم المصرف المركزي والمصارف التجارية طوال الثلاثين عاماً الماضية بدورها في تطوير البنى الاقتصادية وزيادة الإنتاج والنمو، بل ركّزت جلّ اهتمامها على جذب أموال الإيداعات مقابل فوائد سخيّة وسط عدم إدارتها بالشكل المطلوب واستخدامها في تنمية الاقتصاد الداخلي من أجل المساهمة في خلق اقتصاد إنتاجي محصّن في وجه الأزمات وخلق فرص عمل للمواطنين تؤدّي إلى زيادة القدرات الشرائية وتعظيمها مقابل انخفاض التدفّقات الخارجية. إلّا أنه للأسف، ما قامت به هذه السلطة النقدية، هو إيداع أموال المودعين مع سلطة فاسدة وبتمويل قروض استهلاكية (قروض السيارات، والقروض الشخصية والبطاقات المصرفية، وقروض الزواج، وغيرها) وأحياناً قروض بعشرات الملايين بفوائد تفضيلية لعدد قليل من الزبائن، أو قروض وهميّة للمحظيين.

آليات للحماية
من أجل حماية أموال المودعين، هناك ضرورة للقيام بالآتي:
1- ضمان الملاءة المصرفية للمصارف العاملة في لبنان فوراً، وطلب عودة جميع الأرباح التي رُحّلت إلى الخارج، وبيع الوحدات والممتلكات العقارية في الداخل والخارج وضمّها إلى الموجودات الحالية، وفي حال الرفض كما هو الحال عليه منذ حزيران 2020 حيث تعذّر على عدد من المصارف زيادة رساميلها 20%، فإنّ الحلّ يكمن في ضرورة مراسلة السلطات الدولية لطلب وضع اليد على أموال وممتلكات جميع أصحاب الأسهم في المصارف، وتحويل المصارف إلى مؤسّسات مساهمة تُدرَج في البورصات المحلّية والدولية ويُحوّل جزء من ملكيّتها إلى أصحاب الودائع. ونتيجة عدم الثقة في السلطات المحلّية، يمكن بيع نسبة من الأسهم لمصارف وبيوت استثمار دولية لإدارة تلك المصارف حسب القوانين والمعايير الدولية.
2- إطلاق هيئة التحقيق الخاصّة عملية تحقيق شاملة للحسابات الكبيرة في المصارف منذ آذار 1992 والتي استفادت من رفع أسعار الفائدة على سندات الخزينة في مراحل معيّنة، كذلك التحقيق في القروض كافة التي أُعطيت لأصحاب أسهم في مصارف، موظفين كبار في الدولة، سياسيين، نواب وأقاربهم، كذلك جميع الأموال التي رُحّلت إلى الخارج والتي فيها شُبهات فساد وسرقة مال عام وسرقة مال المودعين.
3- على مصرف لبنان والمصارف، إعطاء المودعين حقوقهم حسب سعر الصرف الحقيقي، مثلاً إذا كان السعر في السوق 8000 ليرة مقابل كلّ دولار، فيجب أن تُعطى أموال المودعين حسب سعر الصرف هذا، لا على أساس 3900 ليرة مقابل الدولار كما الحال عليه اليوم.
4- جميع الأموال التي يتم سحبها من خلال الصرافات الآلية ATM، أو الشراء عبر مكنات البيع في أماكن التجزئة POS مباشرة من حساب الدولار، يجب أن تكون مقوّمة على سعر السوق الحقيقي لا الوهمي المقوّم من أيّ هيئة صُورية لمصرف لبنان، وبالتأكيد ليس سعر الصرف الرسمي كما يحصل منذ أكثر من عام لأنّه يسهم في القضاء على أموال المودعين وسرقتها مباشرة في إطار تبرير أن السحب على سعر الوحدة بناء على تعميم مصرف لبنان رقم 151 تاريخ 21 نيسان 2020 فقط من الصندوق وداخل المصرف.
5- ضرورة إيجاد سياسة نقديّة مرنة لسعر الصرف، لحماية القدرات الشرائيّة للمواطنين وخاصّة لأصحاب الأجور بالليرة، بوضع سعر صرف أعلى لا يجب أن تتجاوزه الليرة اللبنانية في الأسواق وسعر صرف أدنى لا تنخفض دونه، فعلى سبيل المثال يكون خلال الفترة الأولى 3000 الحدّ الأدنى و5000 الحدّ الأعلى.
حالياً تعمل المصارف ثلاث ساعات يومياً وتختلق عمولات جديدة من أجل اقتناص المودع وفرض غرامات إكراهية مخالفة للقانون


6- إن سياسة ضبط رؤوس الأموال في المصارف دفعت إلى إيجاد تجارة جديدة هي تجارة الشيكات المصرفية التي يشترك بها موظفون كبار في مصارف وسماسرة وصرّافون، بغية إعطاء المودعين الخائفين على أموالهم أقل من 35% من قيمتها. أي أنّ أيّ مودع يملك 100 ألف دولار يأخذها بواسطة سمسار بقيمة 35 ألف دولار من المصرف. أين مصرف لبنان من التحقيق في هذه العمليّات؟ أين لجنة الرقابة على المصارف؟ وأين القضاء اللبناني الغائب عن سرقة أموال المواطنين؟
7- ضرورة تشجيع الاستثمار في القطاعات المنتجة من خلال دفع المودعين إلى سحب كمّيات تتجاوز السقوف المرسومة من مصرف لبنان ومن المصارف بشرط استثمارها في القطاعات المنتجة ضمن مشاريع تُسهم في خلق فرص عمل وفي محاربة البطالة.
8- على المصارف التجاريّة أن تستعيد ثقة المواطن بها باعتبار المواطن شريكاً معها في الخروج من الأزمة، ولديها واجب أن تصل معه إلى حلول واقعيّة في ما خصّ ودائعه، لا أن تسدّ آذانها، وتخفض دوام عملها إلى الربع حتى لا تستقبل المودعين. حالياً تعمل المصارف ثلاث ساعات يومياً، وتختلق عمولات جديدة من أجل اقتناص المودع وفرض غرامات إكراهية بمسميات شتّى على التأخّر عن سداد القروض رغم الإعفاء الوارد في المادة 36 من موازنة 2020 التي تفرض إعفاء المتأخّرين عن سداد القروض المدعومة من أيّ إجراءات عقابية حتى نهاية حزيران 2020 ومع مفعول رجعي يبدأ من الأول من شهر تشرين الأول 2019، ورغم صدور قانونين عن مجلس النواب اللبناني: قانون رقم 160 القاضي بتعليق سريان جميع المهل القانونية والقضائية والعقدية من تاريخ 18 تشرين الأول 2019 ولغاية 30 تموز 2020، وقانون رقم 185 الذي ينصّ على تمديد العمل بأحكام قانون 160/2020، وتعليق مفاعيل البنود التعاقدية المتعلّقة بالتخلّف عن سداد القروض بكافة أنواعها، وخاصة المدعومة، من سكنية وصناعية وزراعية وتكنولوجيا معلومات، فلا تسري على المقترِض أي جزاءات قانونية أو تعاقدية، بما في ذلك أي زيادة على معدل الفائدة بسبب تأخّر أو تعثّر في تسديد قرض أو أيّ من أقساطه في المهل المحدّدة قانونياً أو تعاقدياً.
9- عدم المساس باحتياط مصرف لبنان من الذهب في ظلّ سلطة نقدية وسياسية لا ثقة بها. فما دام جزء من المواطنين قام بمشاركة الميليشيات وزعاماتها في السلطة عبر قلم الاقتراع، لا يجوز له الاستفادة من نتاج عمل الأجيال السابقة بل الأفضل إبقاؤه للأجيال القادمة.
10- ضرورة مراقبة مصاريف وآليات دعم مصرف لبنان للحكومة. يُقال إن مصرف لبنان يموّل السلة الغذائية بنحو 200 مليون دولار شهرياً، فيما يجدر بنا السؤال: لِم لَم يستفِد اللبنانيون من هذا الدعم؟
لقد انبثق من رحم ثورة 17 تشرين، حملات وروابط هدفها حماية أموال المودعين، أصدرت بيانات وخطابات، أطلقت صيحات استغاثة للإعلام، عقدت ندوات تعريفيّة لجمهور المودعين، دور هذه اللجان إيجاد بيئة حاضنة للمودعين، إسماع آرائهم، وطرح حلول واقعيّة على السلطات النقدية، والسياسية. وبرغم معرفتنا أنّنا نعيش في دولة لا قضاء فيها، ولا سلطة إلّا على الضعفاء، ثورة 17 تشرين كانت الأمل بضرورة تغيير السياسات العامة وباسترداد المواطنين حقوقهم.

* باحث ومستشار اقتصادي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا