في 29 تموز الماضي، أعلن مصرف لبنان استثمار 175 مليون دولار في صندوق «سيدر أوكسيجين» من الودائع الاحتياطية التي يملكها بالدولار، أي من الدولارات «الفريش» بحسب المفهوم المتداول حالياً في السوق. يفترض أن يستفيد الصناعيون من هذه المبالغ لاستيراد المواد الأولية من الخارج، لكن ليس ثابتاً أن هذا الأمر قد يتحقق في ظل الأكلاف المرتفعة التي سيتكبدونها بسبب الفوائد التي تصل إلى 14% على التمويل الذي سيحصلون عليه، علماً بأن مستويات الفائدة قد تتجاوز هذا الرقم إلى 17%، فضلاً عن الرسوم الإدارية البالغة 1%، والشروط التي تفرض عليهم تأمين 30% من قيمة التمويل بسعر السوق.هذا المستوى المرتفع من الفائدة المفروضة من خلال الصندوق، أعلى من الفوائد السوقية التي تفرضها المصارف حالياً عبر مؤشّر الـBRR على الإقراض بالدولار والذي بلغ حدّه الأقصى 10.39% في كانون الأول 2019، ثم انخفض إلى 4.5%. فرض مستوى مرتفع من الفوائد كهذا، يعني أن الكلفة التي ستترتّب على الصناعة ستكون باهظة جداً ولن تُسهم في خفض أكلاف الإنتاج وليس أكيداً أنها ستكون خطوة واضحة لتحفيز التصدير.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وهذه ليست مشكلة الصندوق الوحيدة، بل الأمر يتعلق أيضاً بآلية الاستفادة بحدّ ذاتها. فالصندوق لن يكون قادراً على الاستدامة إلا بوجود نوع من التوازن في العملاء بين الصناعيين المصدّرين والصناعيين غير المصدّرين لجهة حجم أعمالهم، أي أن الدولارات التي ستأتي من الصناعيين المصدّرين ستسهم في عملية التمويل التراكمية. فبشكل عام ينقسم الصناعيون إلى فئتين: صناعيون يصدّرون غالبية بضائعهم إلى الخارج، وصناعيون يبيعون غالبية بضائعهم في الداخل. الأكثر حاجة إلى الاستفادة من تمويل الصندوق هم الصناعيون الذين يبيعون منتجاتهم محلياً. فهؤلاء يحصلون حالياً على الدولارات اللازمة لاستيراد المواد الأولية اللازمة لمنتجاتهم من السوق غير النظامية وفق سعر الصرف الأعلى الذي بلغ في نهاية الأسبوع الماضي 7400 ليرة مقابل الدولار. وفي المقابل، إن الأقلّ حاجة هم الصناعيون الذين يصدّرون غالبية بضائعهم إلى الخارج. فهذه الفئة من الصناعيين، ليست لديها مصلحة واضحة وأكيدة في التعامل مع الصندوق أصلاً لأنها تحصل على الدولارات «الفريش» من الخارج مقابل منتجاتها المصدّرة. كما أن غالبية هذه الفئة لديها حسابات مصرفية في الخارج تغنيها عن التعامل مع المصارف المحلية وتجعلها بمنأى، نسبياً، عن الأزمة الموجودة في لبنان. هذا التمييز كان ضرورياً للتمهيد للسؤال التالي: لماذا ستلجأ فئة الصناعيين المصدّرين إلى الاستفادة من الصندوق طالما أنه يفرض عليها الحصول على قسم من المبالغ التي ستستردها مقابل صادراتها، بالليرة اللبنانية حصراً؟ والأسوأ من ذلك أن المبالغ المدفوعة من الصندوق، ستكون وفق سعر صرف السوق، وربما تكون وفق سعر الصرف المحدّد في منصّة مصرف لبنان، كنوع من الإغراء من أجل إشراكها فيه، لكن ذلك يعني أن هذه الفئة ستخسر جزءاً كبيراً من قيمة أموالها مقارنة مع سعر الدولار في السوق غير النظامية.
كذلك، يفرض الصندوق على الصناعيين تأمين 30% من قيمة القرض بالدولار النقدي الذي يحصل عليه الصناعيون من السوق غير النظامية بالسعر الأعلى، ما يعني أن هذا الأمر لن يؤثّر إيجاباً على كلفة الإنتاج، بل سيزيدها. وهو أمر يضاف فوق الكلفة الناتجة عن أسعار الفوائد المرتفعة.
حتى الآن، هناك أكثر من 70 ملفاً قيد الدرس للصناعيين في الصندوق الذي يتّخذ من لوكسمبورغ مقرّاً له. وكل المعاملات التي يقدّمها الصناعيون من أجل الاستفادة من التمويل المتاح مرهونة بعمليات تدقيق تُجرى في الخارج وسط تعقيدات بيروقراطية وتقنية بمستوى مرتفع جداً. والتدقيق بحدّ ذاته، يأخذ في الاعتبار أن المخاطر المحلية مرتفعة جداً، وأن احتمالات التخلّف عن السداد عالية، وهو ما يضغط على الصناعيين في وقت يحتاج فيه لبنان إلى تسريع العمل من أجل زيادة التصدير.
ويضاف إلى ذلك، أن الصندوق يفرض على المنتسبين إليه رسوماً إدارية عالية أيضاً بنسبة 1%، وليس هناك أمل واضح بأن الجهات الأوروبية التي كانت قد أبدت إيجابية في المشاركة بالتمويل ستشارك فيه، وبالتالي قد لا يستطيع الصندوق أن يؤمّن مبلغ الـ750 مليار دولار المطلوب من أجل سير عمله بشكل منتظم. فهذا المبلغ قد لا يوفّر قاعدة مناسبة للتمويل المستدام قياساً على دراسة الجدوى التي تشير إلى أن مبلغ الـ750 مليون دولار يموّل صادرات بقيمة 3 مليارات دولار سنوياً. مشاركة الصناعيين في هذا الصندوق لا تزال حذرة جداً، وخصوصاً أن التمويل عبره غير واضح المعالم، بل هو سيؤدي حتماً إلى زيادة أكلاف الإنتاج، وسيأكل القسم الأكبر من القدرة التنافسية التي تحقّقت بفعل تدهور سعر الليرة وانخفاض قيمة الأجور وملحقاتها التي يدفعها الصناعيون، أي أنه يثير تساؤلات مشروعة عن مدى القدرة التنافسية التي سيؤمّنها للمصانع في إطار خطوة كان يفترض أن يعوّل عليها من أجل جذب الدولارات إلى لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا