يجتمع وزراء المالية ومحافظو المصارف المركزية حول العالم في إطار الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين لعام 2020. اجتماعهم هذه السنة مهم جداً نظراً إلى الأزمة غير المسبوقة التي يواجهها العالم. فالحكومات تكافح من أجل تمويل الرعاية الطارئة والدعم الاجتماعي والاقتصادي العاجل للتعامل مع جائحة «كوفيد-19». هذه النفقات القصيرة الأجل ضرورية، لكن البلدان بحاجة إلى أكثر من وحدات العناية المركّزة وأجهزة التنفس والفحوصات والدعم في حالات الطوارئ. يجب على الحكومات أن تواصل الاستثمار في الصحة العامة على المدى الطويل، وفي الحدود الدنيا للحماية الاجتماعية الشاملة، وفي أنشطة توليد فرص العمل، وغيرها من أهداف التنمية المستدامة.لا تزال فجوة التمويل واسعة. ومع ذلك، فإن قدرة الموازنات العامة للدول أكثر محدودية مما كانت عليه قبل الجائحة، إذ أدّى الإنفاق الطارئ للوباء إلى مستويات أعلى من الديون والعجز المالي.
تلقّت العديد من البلدان الدعم من أدوات التمويل السريع التابعة لصندوق النقد الدولي وغيرها من الترتيبات، أو حصلت على قروض إضافية للتعامل مع حالة الطوارئ ما جعلها أكثر مديونية. أما الآن، فالصندوق وقادة المال في العالم، يتحدثون عن الضبط المالي «الضروري» أو الخفوضات التقشفية بعد الوباء. هذه الخفوضات تقلّل من النشاط الاقتصادي وتؤدّي إلى تدهور الظروف المعيشية. عملياً، كشف الوباء عن الحالة الضعيفة لأنظمة الصحة العامة ــ بشكل عام مثقلة بالأعباء ــ ونقص التمويل ونقص الموظفين بسبب سياسات التقشف والخصخصة السابقة.
على مدى العقد الماضي، نفّذت غالبية البلدان سياسات تقشف ما أدّى إلى آثار اجتماعية سلبية. عانى الناس من إصلاحات غير كافية في الضمان الاجتماعي أدّت إلى خفض المزايا التي حصلوا عليها بشقّ النفس؛ خفوضات في رواتب وصرف المعلمين وموظفي الصحّة وغيرهم من موظفي الخدمة المدنية؛ خفض المساعدات؛ إصلاحات مرونة العمل التي أدّت إلى تدهور ظروف العمل؛ خصخصة الخدمات العامة؛ استهداف مزايا الحماية الاجتماعية وتقليصها عندما ينبغي على العالم أن يوسّع أرضيات الحماية الاجتماعية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في هذا الإطار، وقّعت أكثر من 500 منظمة وأكاديمي من جميع أنحاء العالم على بيان يطالب صندوق النقد الدولي بإنهاء التقشف:
«لقد بدأ صندوق النقد الدولي في حصر البلدان ببرامج قروض جديدة طويلة الأجل مشروطة بالتقشف في الأشهر القليلة الماضية... هناك عدد ملحوظ من حزم الطوارئ التي قدّمها الصندوق في إطار مواجهة «كوفيد 19» تتضمن لغة تعزّز الضبط المالي في مرحلة التعافي... بدلاً من التقشف، من الضروري خلق حيز مالي وإعطاء الحكومات الوقت والمرونة والدعم لتحقيق انتعاش مستدام وشامل وعادل».
في الواقع، الناس يعانون بلا داع. قبل الوباء كانوا متروكين. تأثّروا بشدّة أثناء الوباء. وإذا وافق وزراء المالية على الخفوضات التقشفية، فالناس سيعانون بشكل حادّ من انخفاض الإنفاق الحكومي. في الثمانينيات والتسعينيات، أصبح التكيّف الهيكلي والتقشف من الشروط الملازمة في أميركا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء. أما النتائج؟ فبين عامَي 1980 و 2000، عانت أميركا اللاتينية من ركود اقتصادي امتدّ لعقدين. وفي أفريقيا جنوب الصحراء، انخفض دخل الفرد بنسبة 15%.
لقد زاد الفقر وعدم المساواة خلال الجائحة. يجب على البلدان الآن تجنب الخفوضات التقشفية بأيّ ثمن، وبدلاً من ذلك أن تعمل على تعزيز الإنفاق الاجتماعي. العودة إلى وضع ما قبل كورونا ليس هو الحلّ، فقد حُرم الكثيرون من العيش الكريم. من الضروري زيادة الإنفاق العام وخلق فرص العمل.
هذا ممكن. هناك بدائل. هناك ما لا يقلّ عن 8 خيارات يمكن أن تنظر فيها الحكومات لزيادة الموازنات العامة، بدلاً من التقشف.
أولاً: زيادة الإيرادات الضريبية، ولا سيما - في ضوء المستويات المتزايدة من انعدام المساواة - زيادة الدخل التصاعدي وضرائب الثروة، والضرائب على الشركات بما في ذلك الضرائب على القطاع المالي التي لا تزال غير خاضعة للضرائب إلى حد كبير.
ثانياً: زيادة تغطية الضمان الاجتماعي والإيرادات من خلال نقل العمال من الاقتصاد غير النظامي إلى القطاع النظامي، وبالتالي دفع مساهمات الضمان الاجتماعي، وقبل كل شيء، عدم خفض مساهمات أصحاب العمل في الضمان الاجتماعي كما هو مقترح أحياناً لأن هذا من شأنه أن يجعل الضمان الاجتماعي غير مستدام.
ثالثاً: محاربة التدفقات المالية غير المشروعة واستردادها. تُفقد أموال عامة كبيرة في أنشطة غير مشروعة مثل غسيل الأموال والتهرب الضريبي. سيؤدّي الحد من هذه التدفقات إلى زيادة كبيرة في الأموال العامة المتاحة.
رابعاً: إذا احتاجت الحكومات إلى إعادة تخصيص النفقات العامة، فينبغي تجنب الخفوضات التقشفية للقطاع الاجتماعي بأي ثمن. بدلاً من ذلك، يجب أن يكون التركيز على استبدال النفقات العالية الكلفة ذات التأثير الاجتماعي المنخفض مثل الدفاع. على سبيل المثال، نجحت تايلاند في خفض الإنفاق العسكري للاستثمار في الصحة العامة.
على مدى العقد الماضي نفّذت غالبية البلدان سياسات تقشف أدّت إلى آثار اجتماعية سلبية وعانى الناس من إصلاحات غير كافية في الضمان الاجتماعي وخفوضات في الرواتب وصرف المعلمين وموظفي الصحّة وغيرهم


خامساً: اعتماد أطر اقتصادية كلية أكثر تكيّفاً مع بعض التسامح في التضخّم والعجز المالي.
سادساً: يتعين على صندوق النقد الدولي استكشاف الخفوضات في الديون السيادية. بالنظر إلى مستويات الديون المرتفعة الحالية، من المهم تشجيع الإعفاء من الديون / تخفيفها، أو على الأقل تأجيل سداد الديون مع إعادة الهيكلة.
سابعاً: الزيادات في مساعدات التنمية والتحويلات، مثل الصندوق العالمي لأرضيات الحماية الاجتماعية.
ثامناً: إصدار حقوق السحب الخاصة في المؤسسات المالية الدولية، أو بدلاً من ذلك إصدار نقود ورقية للدول النامية عبر اتحاد متعدد الأطراف في إطار الأمم المتحدة لتوفير السيولة لمنع الكساد العالمي.
تُعد خيارات السياسة هذه مهمة جداً لحياة الناس بحيث لا يتم تحديدها خلف أبواب مغلقة: يجب مناقشتها بشكل مفتوح في الحوار الوطني، مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين، بمن في ذلك النقابات وأرباب العمل والحكومات والمنظمات المدنية.
يمكن، ويجب منع التقشّف، فمن الممكن زيادة النفقات الاجتماعية وخلق فرص العمل. يجب على الحكومات ألا تقبل التقشف الضارّ. بدلاً من خفض الموازنات التي جرى تقليصها إلى حد كبير، يمكن للبلدان أن تمنع التقشف ولديها موازنات أكبر بكثير لتمويل الأنشطة الاقتصادية المولّدة للعمالة، وتحقيق الصحة والازدهار لجميع المواطنين.

* إيزابيل أورتيز، مديرة البرنامج العالمي للعدالة الاجتماعية في مبادرة حوار السياسات بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأميركية، مديرة منظمة العمل الدولية واليونيسيف، ومسؤولة كبيرة في الأمم المتحدة وبنك التنمية الآسيوي.
ريتشارد جولي هو اقتصادي إنمائي اختير كأحد المفكرين الرئيسيين الخمسين على مستوى العالم في المجال الاقتصادي، وأستاذ فخري وزميل أبحاث في معهد دراسات التنمية (IDS) في جامعة ساسكس، المملكة المتحدة، وسابقاً الأمين العام المساعد للأمم المتحدة.
نُشر هذا المقال في «إنتر برس للخدمات» (IPS) في 16 تشرين الأول 2020

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا