خارج إطار الصراع الظاهر بين الولايات المتحدة والصين، هناك ساحات أخرى مغمورة في هذا الصراع مرتبطة بالموارد الطبيعية ومن أبرزها معدن الـ«ليثيوم» الذي يشتهر باسم «النفط الأبيض». ظهر هذا المحور إلى العلن في الساحة البوليفية أخيراً، لكن الصراع مفتوح على ساحات عديدة حول العالم تختزن ما لا يقل عن 71 مليون طن من النفط الأبيض تقدّر قيمة مبيعاتها بما لا يقل عن 4500 تريليون دولار بأسعار اليوم، علماً بأن حجم المبيعات السوقية اليوم يبلغ 77 ألف طن بقيمة 69.000 دولار للطن المتري الواحد (5.3 مليارات دولار). لكن أهميته ليست محصورة بالكلفة، بل ترتكز على الاستحواذ، أي إن الصراع مرتبط بمستقبل الإنتاج التكنولوجي وإنتاج وحدات تخزين الطاقة مثل بطاريات السيارات والهواتف الخلوية، والكمبيوترات وسواها. لذا، يتوقع أن يزداد هذا الصراع سخونة في المستقبل في ظل تسارع وتيرة التطوّر التكنولوجي وإنتاجه اعتماداً على البطاريات المنتجة بواسطة مادة الـ«ليثيوم».معدن الـ«ليثيوم» متوافر بكثرة نسبية. هو يقع في المركز الـ25 لجهة الوفرة في لائحة مواد الجدول الدوري للعناصر الطبيعية. وزنه خفيف، ولديه قابلية مرتفعة للتفاعل العالي. كلفة مبيعه مرتبطة بكلفة استخراجه من الماء الملحي، أو من الصخر. في السنة الماضية، أنتج العالم نحو 77 ألف طن متري من هذا المعدن، لكن هناك الكثير من التوقعات بأن يزداد الطلب عليه خلال السنوات المقبلة انسجاماً مع ارتفاع معدلات الإنتاج التكنولوجي وتطوّرها، ما سيحدث نقصاً في الكمية المعروضة في السوق.
ما يزيد نسبة مخاطر النقص في العرض، هو أن استخراج الـ«ليثيوم» عملية معقّدة ومكلفة وتحتاج إلى وقت طويل. يتم سحب الماء الملحي الموجود تحت قشرة ملحية تتشكّل بسبب العوامل الطبيعية، ويوضع في بُرك خاصة مكشوفة على الشمس والهواء من أجل التبخّر. الناتج من هذه العملية يخضع لعملية بلورة (crystalizing) تهدف إلى استخراج الأملاح الأخرى في المحلول المتبقي. وبعد ذلك، تتم تنقية الناتج وتنتهي بالحصول على محلول مركّز بالـ«ليثيوم».

69.000

سعر الطن المتلري من معدن الليثيوم المتداول في البورصات الدولية وهو انخفض %25 مقارنة مع سعره في ت1 الماضي


الطريقة الثانية لاستخراجه لا تقلّ صعوبة وتعقيداً. فهو يكون موجوداً في بنية الصخور الصلبة التي يتم سحقها و«تحميص» الناتج منها بهدف تحويلها إلى بودرة. لاحقاً تخضع البودرة إلى سلسلة من التحميص بعد إضافة المواد إليها مثل حامض الكبريت ورماد السودا إلى أن تنفّذ عملية التكرير والتنقية للحصول على مادة ذات تركّز عالٍ من الـ«ليثيوم». حالياً، تعمل المختبرات في الشركات المنتجة حول العالم، على استعمال مواد جديدة في عملية الاستخراج لتوفير جزء مهم من كلفة الإنتاج من خلال درجات حرارة أقل تكفي لإتمام عملية التحميص (الجزء المستخدم من الصخر).
يُستعمل هذا المعدن من أجل صناعة البطاريات بشكل أساسي. تستحوذ وجهة الاستعمال هذه على 65% من الإنتاج السنوي، إلا أن له استعمالات أخرى مثل السيراميك والزجاج الذي يستحوذ على 18% من الإنتاج، وشحوم التزييت تستهلك نحو 5%، وصناعة البوليمر 3%.
أكبر مخزون غير مستخرج من معدن الـ«ليثيوم» موجود في بوليفيا. يقدّر بأن الكمية المتاحة للاستخراج تبلغ 21 مليون طن منه، وتليها الأرجنتين التي تختزن نحو 17 مليون طن، وتشيلي بنحو 9 ملايين طن، وأستراليا بنحو 6٫3 ملايين طن. في المجمل تقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية بأن هناك 80 مليون طن غير مستخرجة بعد.
لكن في مجال الكميات المستخرجة تأتي أستراليا أولاً. في السنة الماضية بلغ إنتاجها 42 ألف طن. بينما بلغت الكمية المنتجة في الأرجنتين نحو 6400 طن، والصين 7500 طن.
على ضفّة الاستهلاك، تشير الإحصاءات إلى أن الصين أكبر مستهلك لهذا المعدن. حصّتها السوقية تبلغ 39% من الإنتاج العالمي. يُعزى هذا الأمر إلى سياسات الصين الإنتاجية في السلع التكنولوجية ذات القيمة المضافة المرتفعة. فهي عملت على الدخول بقوّة في مجال تصنيع بطاريات الليثيوم، وأصبحت تستحوذ على جزء كبير من السوق العالمية. فبحسب Benchmark Mineral Intelligence، وهي شركة أبحاث في لندن، فإنه من أصل 136 شركة تصنّع بطاريات الليثيوم هناك 101 شركة مقرّها في الصين. وتتّضح أكثر وجهة الصين هذه من خلال عمليات الاستثمار في مجال استخراج وصناعة الليثيوم. شركة Tianqiu Lithium الصينية اشترت في الفترة الأخيرة، أسهماً بقيمة 4 مليارات دولار من شركة SQL التشيلية التي تُعدّ من أكبر منتجي مادة الليثيوم في تشيلي. وبذلك، أصبحت الشركة الصينية ثاني أكبر مساهم في الشركة التشيلية، علماً بأن هذه الشركة الصينية تملك 51% من أكبر حقل ليثيوم في أستراليا. كذلك، فإنه بات لدى الشركة الصينية سيطرة نسبية على مرحلتَي الإنتاج والتصنيع، أي صار لها يد تطاول كامل سلسلة التوريد لصناعة بطاريات الليثيوم وسوق مبيعاتها أيضاً.
الاستحواذ الصيني على سلاسل الإنتاج والتصنيع يمثّل مصدر قلق في الولايات المتحدة. فمستقبل الطاقة وما يرتبط بها من إنتاج تكنولوجي حول العالم، يعتمد على تكنولوجيا البطاريات. فإذا واصلت الصين هذه السيطرة ستكون الشركات الأميركية المنتجة للسلع التي تتطلب وجود بطاريات قابلة لإعادة الشحن، خاضعة نسبياً لسيطرة الشركات الصينية. ويزداد مستوى المخاطر مع تضاعف مستوى الاعتماد على هذا النوع من البطاريات. للدلالة على ذلك، فإن الانقلاب في بوليفيا رُبط مباشرة بالصراع على مناجم النفط الأبيض في بوليفيا. فهذه الأخيرة تملك أكبر مخزون في العالم منه. مالك شركة «تيسلا» التي تصنّع السيارات الكهربائية (يعدّ موضوع معدن الليثيوم وأسعاره من أكبر اهتمامات الشركة) أيلون ماسك أبدى اهتماماً واسعاً بموضوع الانقلاب في بوليفيا، وهو غرّد على التويتر في شهر تموز الماضي قائلاً: «تستطيع أميركا أن تحدث انقلاباً أينما أرادت، وعليكم أن تتقبّلوا الموضوع».









اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا