«درجة عالية جداً وغير معتادة من الغموض» تدفع صندوق النقد الدولي إلى الامتناع عن صياغة توقّعات متينة للبنان تغطّي الأعوام الخمسة المقبلة. أما الثابت فإنه في نهاية هذه السنة، ستكون نتائج الأزمات المترابطة تقلّصاً اقتصادياً بنسبة 25%، وتضخّماً يقرب من الـ100% ضمن أفق ليست فيه مخارج عملية بل ركود ووباء في انتظار تفاهمات دولية تنتشله من الحضيض. أما في العالم فرغم التوقعات بتعافٍ جزئي، إلّا أن التقديرات بوقوع 90 مليون إنسان تحت خط الفقر المدقع، سيُفاقم انعدام المساواة.
لبنان يختنق
يختنق لبنان من شحّ الدولارات التي اعتاد تدفّقها إلى شرايين اقتصاده لتغذّي شهيته المفتوحة على الاستيراد والاستهلاك ونظامه الزبائني والفساد المستشري في قطاعه العام من المرافق الحدودية وصولاً إلى الوزارات الحيوية. في حالات الوئام السياسي، تدعم البلدان الراعية والمنظمات الدولية نظام الطوائف عبر الهبات والقروض، إلّا أن تحوّلات المشهد الإقليمي والدولي ومعها تحوّلات لبنان الداخلية، جعلته على هامش توازن كهذا؛ أفضل ما يُمكن تأمّله اليوم، اتفاق قريب بين واشنطن وطهران بعد الانتخابات الأميركية. وبانتظار ذلك، تتجسّد في لبنان انعكاسات التهميش من النظام المالي العالمي، والخضوع للعقوبات الأميركية. فالأزمة المعقّدة والمركبّة تتفاقم بفعل وباء كوفيد-19، وتدفع الاقتصاد نحو التقلّص بنحو الربع هذا العام من دون أيّ أفق حول المرحلة المقبلة، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي بعنوان: «مسار الصعود الطويل والشاق».


أداء لبنان الاقتصادي هو الأسوأ إقليمياً، وبأشواط. أما على المستوى العالمي فهو ثاني أسوأ اقتصاد بعد ليبيا _ البلد الذي يشهد حروباً أهلية متنقلة في انتظار توصّل العملية السياسية إلى حلّ نهائي لواقع الميليشيات. لكن في المجمل، إن الحالة اللبنانية تنطوي على وجهَين: الوجه الفنزويلي، والوجه الأميركي.
من جهة، يُشبه لبنان الحالة الفنزويلية. فالبلد اللاتيني الذي يخضع للعقوبات الأميركية في ظلّ تدخلات خارجية لخنق إدارته السياسية، يُسجّل تقلصاً اقتصادياً يوازي المسجّل في لبنان، لكن أزمته النقدية تعادل أضعاف أزمة الليرة وينعكس ذلك في مؤشر أسعار المستهلك الذي يرتفع بنسبة 6500%.
ومن جهة ثانية، فإن حالة لبنان تماثلها حالة الولايات المتّحدة. فبرغم أن مؤشر الاضطراب الاجتماعي العالمي هوى على نحو دراماتيكي منذ آذار 2020 وسجّل أدنى مستوى له خلال خمس سنوات نتيجة انهماك الشعوب بمواجهة الفيروس، غير أن «لبنان والولايات المتّحدة هما أبرز مثالين عن الحالات الشاذة»، يُلاحظ صندوق النقد. ففي البلد الأول استمرت الاحتجاجات ضد النظام القائم والداعية إلى التغيير السياسي الاقتصادي، وفي الثاني تعاظمت المواجهات بين المدنيين والشرطة في ظل انتشار كثيف للسلاح.
مصاباً بفيروس كورونا وبأزمة سياسية حادة، يترنّح لبنان اقتصادياً في انتظار الحلول السياسية. في هذا الوقت تعاني طبقاته الاجتماعية الهشّة من تعاظم البطالة ومعدلات التضخّم. يُقدّر خبراء صندوق النقد أن يبلغ ارتفاع مؤشّر أسعار المستهلك في الربع الأخير من السنة الجارية 145% على أساس سنوي.

تعافٍ جزئي بقيادة الصين
يؤكّد خبراء صندوق النقد بداية نهوض الاقتصاد العالمي من الركود الذي ولّده الوباء خلال عام 2020. ففي الربع الأخير المتبقي منه، يُسجَّل انتعاش في الحركة يتوقع له أن يمتدّ خلال العام المقبل لينموّ الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2% ويعد الصندوق هذا الوضع «تعافياً جزئياً من الركود المعقد» الذي كلّف الاقتصاد العالمي 4.4% من الناتج.
هذا التعافي لن يكون متماهياً بين مجموعات البلدان المختلفة من الصناعية إلى الناشئة والفقيرة. فالنموّ في البلدان ذات الاقتصادات المتقدّمة، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، سيبلغ 3.9%، أما اقتصادات البلدان النامية والناشئة فستنمو بمعدل 6%.
واللافت هو أن الصين التي انطلق فيها الوباء في الفصل الأخير من عام 2019 (وفقاً للتقديرات المقبولة علمياً حتى اليوم) ستُسجّل أحد أفضل معدلات النمو العالمية، وسيبلغ 10% تقريباً، إذ «عاد النشاط الاقتصادي إلى طبيعته على نحو أسرع من المتوقع غداة إعادة فتح البلاد في بداية نيسان، وبعدما سجل الناتج نمواً مفاجئاً في الربع الثاني نتيجة سياسات الدعم المتينة والصادرات القوية»، وفقاً لخبراء الصندوق.
فعلياً، كسر الوباء سلاسل الإنتاج والتجارة بين الأقاليم وكرّس في مفاصل عديدة سياسات حمائية تشمل الأدوات والمعدات الطبية وصولاً إلى الشرائح الإلكترونية. وبنتيجتها تتقلّص التجارة الدوليّة بأكثر من 10% هذا العام، ومع انكفاء الطلب، تراجع سعر النفط بواقع الثلث. غير أن سياسات الدعم الاقتصادي والنقدي التي اعتمدتها الحكومات، ومنها الحكومة الصينية، أنعشت الدورات الاقتصادية القومية. ومنذ تحول كوفيد-19 إلى وباء اعتباراً من مطلع الربيع الماضي، بلغت قيمة حزم التحفيز المالي والنقدي، وضمنها الإعفاءات الضريبية وإجراءات الدعم المباشر، 6 تريليونات دولار. ويتوقع أن تُحافظ المصارف المركزية الكبرى على إجراءاتها الحالية خلال المدى المنظور إلى نهاية عام 2025.
ترتبط جميع تلك العوامل بإجراءات تحفيز الشركات ومصالح الدول وبنطاق الموجة الثانية من انتشار الفيروس وبعدها بفرص نجاح اللقاح وقدرة الأنظمة الصحية على استيعاب المرضى، لكن يبقى الجانب الإنساني من الأزمة الكونية السائدة هو الأهم. فالأجراء والمياومون الذين يعتمدون على العمل غير المنتظم يشهدون تراجعاً فجائياً في مداخيلهم، وبنتيجة ذلك قد يسقط أكثر من 90 مليون إنسان تحت خط الفقر المدقع، المعرّف على أساس دخل يومي بقيمة 1.9 دولار.
وبالتوازي مع ذلك سيكون للأزمة الاقتصادية انعكاس حادّ على مؤشّرات عدم المساواة الاقتصادية الاجتماعية. ستكون الفئات الأكثر هشاشة، أي الفئات الشابة من القوى العاملة وصولاً إلى النساء، أكثر تأثراً من باقي الفئات. كذلك فإن عبء الأزمة، وفقاً لأبحاث الصندوق، يقع بنحو غير متماهٍ على القطاعات الاقتصادية المختلفة، إذ يستفيد البعض من إمكانيات العمل عن بُعد، فيما لن يكون هذا الخيار متاحاً في مجالات أخرى ما يؤدّي إلى إلغاء الوظائف وتسريح العمال. ومع ارتفاع معدّلات البطالة ستتفاقم أنماط تعمّق عدم المساواة المرصودة منذ التسعينيات في البلدان المتقدمة وبعض البلدان الناشئة سريعة النمو.
ويُضاف عامل المديونية التي تقع في نهاية المطاف على عاتق عائلات الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود عبر فرض الضرائب وسياسات الهيكلة وإعادة الجدولة التي عادة ما تنعكس على التقديمات الاجتماعية. فرغم أن معدلات الفوائد المنخفضة حالياً من شأنها احتواء تداعيات ارتفاع المديونية، إلّا أن هذا الوضع يسري حصراً على البلدان المتقدمة التي تتمتّع بكثير من هوامش الفوائد السلبية على سنداتها. أما في البلدان النامية والناشئة فإن الحصّة المتزايدة من الإيرادات العامة التي ستمتصّها خدمة الدين العام ستعني أن هناك دخلاً أقل يُخصص للمجالات الحساسة مثل الإنفاق على الاحتياجات الاجتماعية؛ وهو إنفاق تزداد أهميته للخروج من تداعيات الوباء والركود الذي خلّفه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا