قد تكون الإدارة الماليّة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي واحدة من أسوأ الإدارات وأكثرها تخلّفاً. فهي لا تزال تعمل على أساس نقدي لاحتساب ما يدفعه الصندوق من تقديمات وما يحصل عليه من إيرادات. قد يقبض الصندوق مبالغ عن سنوات ماضية فيسجّلها كأنها وردت اليوم، وقد يدفع مسبقاً عن أشهر مقبلة فيسجّلها كأنها حصلت اليوم. وأكثر من ذلك، تبيّن في عام 2018، أنّ السلف الماليّة التي تُسحب من أموال نهاية الخدمة لتسديد دفعات مقدّمة للمستشفيات عن فواتير غير مصفاة، لا تُحتسب ضمن عجز فرع ضمان المرض والأمومة. هذه الممارسات المحاسبيّة الاحتياليّة لإخفاء العجز الفعلي منذ بدء العمل بنظام السلف المخالف لقانون الضمان في 2011، اكتشفتها اللجنة المالية في نهاية 2018، طالبة التصحيح. فجأةً جاء التصحيح في التقرير المالي النصف سنوي لعام 2020. أظهر التقرير أن العجز الإجمالي في ضمان المرض والأمومة بلغ 4273 مليار ليرة، منه 1846 ملياراً سلف للمستشفيات، و2427 مليار ليرة هو عجز متراكم في فرع ضمان المرض والأمومة ناجم عن الفرق بين النفقات والإيرادات وفوائد المسحوبات من فرع نهاية الخدمة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

عملياً، العجز كلّه عبارة عن مسحوبات غير قانونيّة من فرع نهاية الخدمة. المسحوبات باتت تمثّل 36.5% من مجمل الأموال الجاهزة في هذا الفرع، أي أنها عملياً تكاد تكون خسائر غير قابلة للتعويض. وهو أمر يضاف إلى خسارة أكبر تكبّدها فرع تعويض نهاية الخدمة بعد تآكل قيمة أمواله بسبب ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى نحو 8000 ليرة مقابل الدولار، وتضخّم أسعار السلع الذي أكل أكثر من نصف القوّة الشرائية للأجر الوسطي في 2020 وحدها، أي من دون حساب الخسارة التراكمية للتضخم. بهذا المعنى، فإنّ القيمة الفعلية، أو القوّة الشرائية، لأموال نهاية الخدمة، تقلّصت إلى حدّ كبير، وهي مهدّدة بمزيد من التآكل بسبب الزيادة السنوية في النفقات الصحية التي يتكبّدها صندوق المرض والأمومة بنسبة 7% سنوياً بحسب أرقام اللجنة المالية في مجلس إدارة الضمان «وهي نسبة مرتفعة، ما سيؤدي إلى تسارع تفاقم العجز وقضم المزيد من تعويضات نهاية الخدمة في حال عدم اتخاذ التدابير الطارئة والجذرية». كان هذا الكلام في نهاية 2018. فمنذ يومها لم تتخذ أيّ تدابير طارئة أو جذرية.
التدبير الوحيد الطارئ الذي اتّخذ هو قبل نحو شهر حين طلبت إدارة الضمان من مصرف لبنان معاملة تعويضات نهاية الخدمة المدفوعة لمن ترك العمل أو بلغ السن القانونية أو سن الـ 64 بمثابة ودائع بالدولار يتم تغطيتها على أساس سعر صرف يبلغ 3900 ليرة مقابل الدولار (يتم تحويلها إلى الدولار على أساس سعر 1520 ليرة، ثم يعاد تحويلها على الليرة بسعر 3900 ليرة). حتى الآن، لم تصدر موافقة نهائية من المجلس المركزي لمصرف لبنان في انتظار دراسة الموضوع، إلا أنه تبيّن أن تغطية كامل قيمة التعويضات خلال عام 2020، والمقدّرة بأكثر من 1000 مليار ليرة، ستفرض على مصرف لبنان خلق كميات إضافية من النقد تقدّر بنحو 1500 مليار ليرة سنوياً، أو ما يوازي 130 مليار ليرة شهرياً، أي أن الكتلة النقدية قيد التداول بالليرة ستزداد وسطياً بنسبة 10% قياساً على الزيادة الوسطية الشهرية الحالية المقدرة بنحو 1300 مليار ليرة.
ما سيحصل هو أن مصرف لبنان سيدعم التعويضات عبر خلق النقد، تماماً كما يسعى إلى وقف دعم السلع الأساسية والغذائية وخلق نقد إضافي بقيمة تفوق 1100 مليار ليرة شهرياً، أي زيادة كمية النقد بنحو 85% وسطياً. خلق النقد بهذه الطريقة وبتسارع كهذا، يعدّ مشكلة كبيرة لأنه سيرفع الطلب على الدولار وقد يسهم في إضعاف الليرة أكثر وأكثر. وإذا ارتفع الدولار، فستتضخّم الأسعار أكثر، ويضطر مصرف لبنان الى خلق نقداً أكثر. إنها دوامة مغلقة ستنتهي بكارثة غير محسوبة النتائج، وستؤدي إلى تآكل المزيد من القوّة الشرائية لما تبقّى من أموال في صندوق نهاية الخدمة.
إزاء هذا الوضع، كل ما تقترحه إدارة الضمان هو الحصول على سلفة طارئة من الدولة اللبنانية لمواجهة الأزمة، أو زيادة معدلات الاشتراكات، أو إجبار الدولة على سداد ديونها للضمان، على اعتبار أن زيادة كمية الأموال سترفع القوّة الشرائية للتعويضات! كل هذه الحلول مصدرها «العلبة» نفسها السائدة منذ عقود. فالمسألة تتعلق بطرح متأخّر جداً من الضمان لحماية تعويضات العمال، إن لم يكن بعد فوات الأوان. ويضاف إلى ذلك أن ارتفاع وتيرة العجز في الضمان سيفرض سحب المزيد من التعويضات في الأشهر المقبلة واستخدامها لدفع سلف المستشفيات. إنها سيادة رأس المال على العمل بأوضح صورها. هي سيادة يشارك فيها الزعماء السياسيون الذين يدّعون تمثيل العمال بوصايتهم على الصندوق، ورعايتهم للاتحاد العمالي العام الذي يملك 10 أعضاء حكميين في مجلس إدارة الضمان. هؤلاء مثّلوا على العمال يوم كان النقاش محتدماً لزيادة الأجور في 2012، بينما لا يهتزّون إذا تقلّصت تعويضات العمل، أو استعملت بشكل شبه نهائي لتسديد سلف المستشفيات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا