منذ فترة طويلة تمارس قوى السلطة عبر مديرها التنفيذي حاكم مصرف لبنان لعبة شراء الوقت. في عام 2016 اشترى سلامة الوقت عبر الهندسات المالية التي زادت الخسائر في ميزانيته بشكل هائل، وهو اليوم يمارس هذه اللعبة مجدّداً في ظل توقّعات سوداوية للأشهر المقبلة. في هذا السياق صدر عن مصرف لبنان التعميم 154 الذي بدا كأنه ملهاة لتقطيع الوقت في انتظار «تسوية» تعيد إحياء النموذج الاقتصادي الذي انفجر وفجّر معه المدّخرات والمداخيل وسحب الآلاف نحو الفقر والبطالة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره


◄ بعنوان «إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان» أقرّ المجلس المركزي لمصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 154. يظنّ مصدرو التعميم أن مفتاح قراءته يكمن في المادة الثالثة منه التي تفرض على كل مصرف تكوين «حساب خارجي حرّ من أيّ التزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقلّ في أي وقت، عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديه كما هي في 31/7/2020»، أي أنه على المصارف أن تجمع خلال ستة أشهر 3.4 مليارات دولار (ودائع الدولار كانت 114.4 مليار دولار في نهاية حزيران 2020) تعزيزاً لسيولتها بالدولار الطازج. وطلب التعميم من المصارف «حثّ» عملائها على إيداع 15% من تحويلاتهم إلى الخارج بين 1 تموز 2017 و27 آب 2020 التي تفوق 500 ألف دولار في حساب خاص مجمّد لمدّة خمس سنوات بفائدة غير خاضعة للسقوف، وبأي ضمانات قانونية يُتفق عليها في ما بينهم، ومقابل إعفاء المصرف من الاحتياط الإلزامي المفروض عليها (20%). و«الحثّ» يشمل أيضاً العملاء المستوردين لإعادة 15% من قيمة الاعتمادات المستندية المفتوحة في أيّ واحدة من السنوات الثلاث: 2017 و2018 و2019. ويُطبق «الحثّ» أيضاً، بنسبة 30% من التحويلات في الفترة نفسها، على رؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف وكبار المساهمين والعملاء المعرضين سياسياً (PEPs).
وأتاح التعميم للمصارف اتخاذ الإجراءات القانونية والنظامية لتحويل الودائع طوعاً إلى أسهم في رساميلها أو إلى سندات دين دائمة وقابلة للتداول والاسترداد.
فور صدور التعميم تركّز النقاش حول مدى قانونيته انطلاقاً من كونه يمثّل عملاً تشريعياً، كما وصفه الوزير السابق زياد بارود. وقد ألقى عليه قانونيون آخرون حججاً تتعلق بمخالفات جسيمة تجرّم الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج بشكل متساوٍ، ومن دون أي معايير واضحة، لا بل تهدّد باتهامهم بالتهرّب الضريبي وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة.
بدا التعميم مجرّد أداة لكسب الوقت. هو يأتي في سياق مرحلة ضبابية تتشكّل فيها الحكومة وفق تقاطعات إقليمية ودولية تعمل على إحياء النموذج الاقتصادي في لبنان على قاعدة استمرار ما كان سائداً بعد إجراء «إصلاحات». كأن مشكلة النموذج خارج بنيته الفعلية. لذا لم يشعر أحد بأنه تعميم قابل للتطبيق، لا بل إن مادته الثالثة التي تنطوي على أهمية نسبية ولم تثر جدلاً قانونياً كونها تجبر المصارف على تعزيز سيولتها عبر تكوين حساب حرّ بقيمة 3.4 مليارات دولار، بقيت خارج دائرة التركيز والنقاش. أصلاً لا أحد يصدّق أن مصرف لبنان قادر على معالجة الأزمة بتعميم يعوم فوق «تخبيصات» قانونية، لأن كل الأطراف المعنية بهذا النموذج في انتظار التسوية التي ستحصل وتموضعها فيها، وهذا ينسحب على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتحديد وعلى المصرفيين والمودعين والأشخاص المعرّضين سياسياً.

◄ قبل بضعة أيام صدر عن البنك الدولي تقدير للخسائر الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت. كانت لافتةً تلك المؤشرات المتعلقة بتقديرات الاقتصاد الكلّي لغاية 2020 و2021 والتي ترسم صورة قاتمة إذا استمرّ الوضع على حاله. فالتقدير يعتمد سعراً وسطياً للدولار في السوق الموازية بقيمة 4144 ليرة في عام 2020 و7364 ليرة في عام 2021. وعلى هذا الأساس، فإن الناتج المحلي الإجمالي سيتقلّص بنسبة 18.6% في عام 2020 ليبلغ 29.9 مليار دولار، وسيتقلّص أيضاً في عام 2021 بنسبة 12.1% ليبلغ 24.2 مليار دولار. وسيضطر مصرف لبنان أن يطبع كميات هائلة من الليرة اللبنانية بزيادة 150% في عام 2020 عمّا كانت عليه الكتلة النقدية بالليرة في نهاية 2019. وستزداد هذه الكتلة بنسبة 75% في عام 2021. الأسعار ستتضخّم، رغم وجود الدعم، بنسبة 90% في عام 2020 وبنسبة 64% في السنة التالية، ما يعني أن رفع الدعم سيطلق موجة من التضخّم المفرط التي ستضغط على سعر الدولار وستقلّص قيمة الناتج... كل ذلك يعني تآكل القوّة الشرائية والمدّخرات والمزيد من الفقراء والبطالة واحتمالات حصول اضطرابات اجتماعية.

◄ حتى الآن ما زالت تحويلات المغتربين هي السند الأساسي لاستمرار العائلات التي سحبها انفجار النموذج إلى ما دون خطوط الفقر العليا. رغم ذلك، يظنّ مصرف لبنان، بحاكمه ومجلسه المركزي، أن تعميماً كهذا يمكن أن يضخّ الحياة في شرايين الاقتصاد. أقصى طموح يُؤمل من تعميم كهذا، وفي حال كانت هناك جديّة لتطبيقه بكل مخالفاته القانونية، أن يشتري المزيد من الوقت. إنها لعبة سلامة المفضّلة التي يلعبها منذ فترة طويلة مع شركائه من القوى الحاكمة.