يوم الثلاثاء 18 آب الجاري وقع انقلاب في مالي - من دول الساحل الأفريقي جنوب الجزائر - قاده عسكريون اعتقلوا رئيس الجمهورية أبو بكر كيتا ورئيس الوزراء وكبار المسؤولين. أعلن كيتا على التلفزيون استقالته وحلّ البرلمان، وقبل انقضاء 24 ساعة دعت ​فرنسا،​ ​مجلس الأمن الدولي إلى اجتماع طارئ، وأيّدت النيجر - جارة مالي - هذا الطلب، ثم وصف وزير الخارجية​ الفرنسي ​جان إيف لودريان​، هذا الانقلاب بأنه «حادثة خطيرة»، مشيراً إلى أن فرنسا ستواصل دعمها لسيادة وديمقراطية مالي. ما حدث هناك ليس إلا استمراراً للصراع الدولي على ثروات شمال أفريقيا ودول الساحل الثلاث مالي وتشاد والنيجر. ففي مالي احتياطات كبيرة في باطن الأرض من ذهب ويورانيوم ونفط لم تتكشف إلا حتى عام 2013 بعد الغزو الفرنسي لأراضيها والمدعوم أميركياً عبر مركز العمليات العسكرية في شمال أفريقياً «أفريكوم». والانقلاب في مالي يأتي في إطار تطويق الصين وروسيا وسعي الولايات المتحدة إلى وضع اليد على دول شمال أفريقيا. ليبيا كانت مرحلة أساسية. ففي تشرين الأول 2011 أسقطت ليبيا. وفي مطلع 2012، مارس الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ضغوطاً على الجزائر للمشاركة في حملة فرنسية على مالي، إلا أن الجزائر رفضت. لكن كان لافتاً أنه بعد عشرة أيام على سقوط ليبيا، أي في 21 كانون الثاني 2011، وصلت طائرات عسكرية أميركية ضخمة إلى مالي تنقل آلاف الجنود الفرنسيين الإضافيين من فئة النخبة ومعدات عسكرية وأسلحة. يومها تبيّن أنّ أجندة فرنسا أبعد ما تكون عن الإنسانية، إذ فضحها تصريح لودريان الذي كان وزيراً للدفاع في حينه: «هدفنا إعادة احتلال فرنسا الكامل لمالي»، كما فضحها تصريح الرئيس هولاند: «القوات الفرنسية باقية في مالي وجوارها.. بهدف هزيمة الإرهاب». ثم بدأ الغزو الفرنسي لمالي في 11 كانون الثاني 2013 بدعم أميركي وبذريعة إرهابيي تنظيم القاعدة والسلفيين. في حينه، وصلت إلى مالي قوات فرنسية تتألف من فرقة بحرية مجوقلة والفرقة 13 المظلية وطائرات هليكوبتر وميراج وهركول وترانسال.بالنسبة إلى الأميركيين، كان ضرورياً وضع اليد على شمال أفريقياً من أجل السيطرة على حقول الطاقة. ابتلاع مالي هو مهمة رئيسية في هذا الإطار. حصل الانقلاب في 21 آذار 2012. يومها دبّرت الولايات المتحدة وفرنسا انقلاباً عسكرياً استولى على العاصمة باماكو وأطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً وفَرضَ حكماً عسكرياً. لاحقاً، تبيّن أنّ الأميركيين والفرنسيين يعلمون منذ فترة طويلة بأن مالي غنية جداً بالثروات الطبيعية الهائلة، لذا جعلوا منها مركزاً «للحرب العالمية ضد الإرهاب». يومها جاء تبرير فرنسا للغزو سخيفاً: إقدام جماعة سلفية صغيرة اسمها «أنصار الدين» على مهاجمة قرية في جنوب مالي (تبيّن أنّ هذه الجماعة استقدمتها فرنسا نفسها من ليبيا). كانت ذريعة مريحة لفرنسا أن يهاجم مسلحون قرية صغيرة ثم يطلب قائد الانقلاب نجدة فرنسا لتسيطر قوات فرنسية على باماكو خلال ساعات. لكن ما أثار الاستغراب يتعلق بحجم العملية الفرنسية السريعة لجهة سرعة استجابة فرنسا لطلب المساعدة من سلطة غير شرعية في مالي، وانتشار القوات الفرنسية خلال ساعات في باماكو.
إذاً، الدافع الحقيقي لغزو مالي في عام 2013 يتعلق بثرواتها الخيالية من احتياطي الذهب واليورانيوم والنفط والتي تكتّمت عنها الشركات الغربية. لعقود عدّة تجاهلت فرنسا ثروات مالي المخزونة وتركتها بلداً فقيراً يعيش على الزراعة البدائية والمواشي في ظلّ مستوى معيشة هو بين الأسوأ في العالم. ولم تدقّ صافرات الإنذار في الدوائر الفرنسية والأميركية، إلا عندما شرعَت حكومة مالي في وضع خرائط توزيع الثروات الطبيعية لأول مرّة في تاريخها. فقد كشفت تقاير وزارة المناجم المالية عن كميات كبيرة في باطن الأرض من النحاس واليورانيوم والفوسفات والبوكسيت والأحجار الكريمة والذهب والنفط والغاز، ما يجعل مالي واحدة من الدول الغنية جدّاً بالموارد، إلى أن احتلت مالي، قبل الغزو الفرنسي بعامين، المرتبة الثالثة عالمياً (بعد جنوب أفريقيا وغانا) في إنتاج الذهب.
قادت فرنسا عملية الاحتلال لأنّها تحتاج إلى اليورانيوم في مالي لإنقاذ شبكة الكهرباء في فرنسا. إذ أنّ منظومة شبكة الكهرباء الفرنسية تميّزت عن كل الدول الصناعية بأنّ نسبة 60% من الطاقة الكهربائية المنتجة تُستخرج من المفاعل الذرية. لذا هي بحاجة دائمة إلى اليورانيوم الذي استوردته بكثرة من دولة النيجر المجاورة لمالي.
وفي حديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز» ذكر قائد عسكري أميركي أنّ «الانقلاب في مالي كان يجرى التحضير له منذ خمس سنوات (أي منذ عام 2007 عندما بدأ البنتاغون إعداد خطط لإسقاط عدد من الدول، بينها سورية، وفق مذكرات الجنرال الأميركي وزلي كلارك)، مشيراً إلى تدفّق السلاح الثقيل والمقاتيلن من ليبيا إلى مالي.
قادت فرنسا احتلال مالي في 2013 لأنّها تحتاج إلى اليورانيوم لتشغيل المفاعل الذرية في معامل إنتاج الكهرباء


في الواقع، لقد كشف خبراء عسكريون أميركيون يعرفون منطقة الساحل الأفريقي أنّ الجماعات المسلحة التي انتشرت في مالي استُعملت كمبرّر للغزو الفرنسي ــ الأميركي، رغم ضآلته. فما كان مُعلناً وظنّه الناس أنه الحقيقة، كان مجرّد وهم خلقه حلف الناتو. صدّق الناس أنّ ثمّة تنظيماً إرهابياً سلفياً يحمل اسم «تنظيم القاعدة في مالي» يهدّد أفريقيا وقريباً سيهدّد أوروبا. هذا التنظيم لم يكن سوى مجموعة صغيرة صنعتها الولايات المتحدة والناتو مثل «الجماعة الإسلامية المسلحة» في ليبيا و«تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي». هذه الجماعات درّبتها الولايات المتحدة وحلف الناتو. وكانت الولايات المتحدة قد أقامت قيادة عسكرية إقليمية تحت اسم AFRICOM (قيادة جبهة أفريقيا)، تماماً كما أقامت قيادة عسكرية في الخليج العربي ومركزها قطر باسم CENTCOM (قيادة الجبهة المركزية).
لقد أصبح اسم تنظيم القاعدة ماركة توزيع تجارية ورثها الإرهابي أيمن الظواهري من زميله أسامة بن لادن. ففي عام 2006 منح الظواهري جماعات سلفية مسلّحة في الجزائر امتياز اسم القاعدة تحت اسم «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي». وفي عام 2007 أعلن الظواهري دمج الجماعة الليبية وتنظيم القاعدة في المغرب. ولكن الجزائر استطاعت عام 2008 كسر هؤلاء الموجودين على أراضيها، فهرب من بقي منهم جنوباً إلى مالي عبر الحدود.
وكان مؤسس المجموعة الليبية شخصاً ليبياً يُدعى عبد الحكيم بلحاج، لقي تدريباً في أفغانستان. ودرّبت جماعته القوات الأميركية الخاصة لمدّة شهرين وأصبح اسمها «لواء طرابلس» ومعظم عناصرها من الطوارق. وكانوا في طليعة الجماعات التي جعلت ليبيا بلداً سائباً. كان «لواء طرابلس» يشتري الأسلحة في مدينة بنغازي وينقلها إلى مالي. أثناء غزو ليبيا خضعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون لجلسة مساءلة من لجنة في الكونغرس فأشارت إلى بواخر أسلحة شحنت من ليبيا إلى سورية للجماعات المسلحة في حلب إضافة إلى نقل آلاف الإرهابيين من تونس وليبيا إلى محافظتي حلب وإدلب. وكذلك نقلت القوات الفرنسية جماعات «لواء طرابلس» من ليبيا إلى شمال مالي حيث أعلنت «تطبيق الشريعة الإسلامية» وتحالفت مع جماعة «أنصار الدين» التي يقودها «إياد الغالي» ومع «تنظيم القاعدة في المغرب» الذي يقوده ابن عمه «حمادة الهامة». و«لواء طرابلس» وحلفاؤه كانوا الحجّة التي من أجلها غزت فرنسا مالي.
بعد نجاح عملية مالي، ارتاحت قيادة «أفريكوم» إلى احتمال تعميم العملية لتغطّي دولاً أخرى في أفريقيا وتمهّد للسيطرة على ثروات الغاز والنفط واليورانيوم والمعادن. ودور Africa Command الرسمي كما حدّدته الإدارة الأميركية هو تقديم «الدعم العسكري لسياسة الحكومة الأميركية تجاه أفريقيا، ويتضمّن علاقات عسكرية مع 53 دولة أفريقية». وتعمل أفريكوم مباشرةً مع وزارة الخارجية الأميركية ووكالة USAID وتشارك مع السفارات الأميركية في تدريب الدول الأفريقية لتصبح أكثر جهوزية في الأمن. وكما جاء في شهادات الكونغرس فإنّ خطة آفريكوم تتضمّن استخدام فرنسا كجنود على الأرض (وليس استخدام الجنود الأميركيين) مع وعد أميركي لفرنسا بتجديد مجدها الاستعماري في شمال غرب أفريقيا وساحل غرب أفريقيا، وأنّ فرنسا قد قبلت صاغرة هذا التوزيع للمهام لأنّ اقتصادَها بات ضعيفاً ونفوذها في العالم قد تبخّر.
المفارقة أنّ الخرائط الأميركية التي تُظهر توزيع الثروات الطبيعية - وخاصة مصادر الغاز والنفط واليورانيوم - تشبه كثيراً الخرائط العسكرية التي تستعملها آفريكوم على أنّها مناطق تحتاج إلى تطهير من الإرهابيين. حتى أنّ معهداً فرنسياً مرموقاً هو (Institut français des relations internationales IFRI) نشر تقريراً في آذار 2011 يبيّن أماكن تجمّع التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل الإفريقي (نيجر ومالي وتشاد وصولاً إلى نيجيريا والسنغال) وشمال أفريقيا (تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) وبين حقول الثروات الطبيعية في هذه البلدان، ويُظهر تطابقها.
تابع صفحات ملحق «رأس المال» على وسائل التواصل الاجتماعي:
فايسبوك
تويتر
إنستغرام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا