مع شروق كلّ نهار جديد يتّسع ميدان الصراع الصيني الأميركي الذي لم يعُد يتوقف على تداعيات اختلال الميزان التجاري ولا على استغلال فيروس كورونا الذي يسمّيه الرئيس ترامب، استفزازاً، الفيروس الصيني، ولا على اتّهام القنصلية الصينية بمحاولة سرقة الأبحاث الأميركية حول لقاح الكورونا… ولكن كما يبدو أصبح ميدان هذا الصراع على مشارف صندوق النقد الدولي. فمنذ بضعة أيام حثّ محافظ المصرف المركزي الصيني يي غانغ الصندوق على إصدار حقوق السحب الخاصة للدول الأعضاء فيه. ومن خلال ردّة الفعل الغربية على هذا الاقتراح، يبدو أن هذا الطلب سيكون موضعَ إشكال.
ما هي حقوق السحب الخاصة؟
في عام 1944 اجتمع مندوبو 44 دولة، في منطقة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير في مؤتمر الأمم المتّحدة النقدي والماليّ. كانت حصيلة الاجتماع ما كان يُعرف باتفاق «بريتون وودز» الذي كان من أهمّ أهدافه منع حصول انخفاض في قيمة العملات بسبب التنافسية، بالإضافة إلى تعزيز النمو الاقتصادي في العالم. وكان أبرز مهندسي هذا الاتّفاق الاقتصادي البريطاني الشهير جون كينز، وهاري وايت كبير الاقتصاديين الدوليين في وزارة الخزانة الأميركية في حينه.
نتيجة الاتفاق كانت تتوافق مع أفكار وايت الذي سعى ليكون للدولار دور قويّ في الاقتصاد العالمي، على عكس رؤية كينز الذي كان يريد إنشاء مصرف مركزي عالمي مع عملة احتياط جديدة. فأثمر الاتفاق بعض الأفكار خلاصتها أن تكون جميع عملات العالم مثبتة ومرتبطة بالدولار الأميركي. على أن يكون الأخير بدوره مثبتاً ومرتبطاً بالذهب. كذلك أُنشئ صندوق النقد والبنك الدوليان اللذان استمرّا حتى بعد سقوط الاتفاق في عام 1973.
اتفاق بريتون وودز أدّى في خمسينيات القرن الماضي إلى عجز في ميزان المدفوعات لدى الولايات المتحدة. كانت نتيجة طبيعية لأنّه ترتب على الولايات المتحدة أن تزوّد العالم بالسيولة من الدولار، بما يتناسب مع الاتفاق الجديد.
وفي ظلّ هذا الواقع وقعت الولايات المتحدة في معضلة لا يمكن أن تستقيم الأمور إلّا بعد معالجتها. فمن جهة إذا توقفت عن ضخّ السيولة إلى الخارج سيتلاشى أهم مصدر لتغذية الاحتياط العالمي ما سيدخله في حالة انكماش وانعدام الاستقرار. ومن جهة أخرى، إذا استمرّت الولايات المتحدة بضخّ السيولة بالعملة الخضراء سيتعاظم العجز في ميزان المدفوعات، ما سيؤدّي إلى اهتزاز الثقة بقدرة الدولار الأميركي ليكون عملة الاحتياط العالمي.
عُرفت هذه المعضلة بمعضلة تريفين نسبةً إلى الاقتصادي الأميركي روبرت تريفين. أمّا الحلّ الذي اقترحه هذا الأخير، فكان عبر خلق وحدات احتياطية جديدة دورها أن تخلق سيولة للاحتياط العالمي. وبهذه الطريقة لن يبقى العجز في ميزان مدفوعات الولايات المتحدة.
في هذا السياق أنشئت في عام 1969 وحدة جديدة من قِبل صندوق النقد الدولي اسمها «حق السحب الخاص» (SDR). هي ليست عملة جديدة، إنّما تُستخدم كأداة للمطالبة بالعملات الصعبة.
بشكل مبسّط، فإنه عندما يحتاج بلد ما إلى العملات الصعبة، يستخدم هذه الوحدات لمقايضتها بحاجته من الدولار ويدفع في المقابل فائدة مُحتسبة كمعدّل متوسّط للفائدة القصيرة الأجل للدول ذات العملات المدرجة في السلة الداعمة لهذه الوحدة. عندما أُصدرت هذه الوحدة كانت قيمتها تساوي 0.888 غرام من الذهب (أي ما كان يُعادل دولاراً واحداً في حينه). أمّا بعد انهيار اتفاق بريتون وودز عام 1973، فقد تغيرت طريقة احتساب قيمة هذه الوحدة لتصبح مرتبطة بسلّة عملات يتم اختيارها بحسب الخصائص التالية:
-الخاصية الأولى لها علاقة بصادرات الدولة المصدّرة للعملة. على الدولة أن تكون عضواً في نادي صندوق النقد، وأن تكون بين أكبر خمسة مصدّرين في العالم.
- الخاصية الثانية هي حرية الاستعمال، وهذا يعني أن تكون العملة مستعملة بشكل واسع في المعاملات الدولية وفي سوق الصرف العالمي.
حالياً تضم هذه السلّة الدولار الاميركي، اليورو، اليوان الصيني، الين الياباني، والجنيه الاسترليني. وكل خمس سنوات تتم إعادة النظر بالوزن الذي تؤثّر فيه كل عملة على قيمة الـSDR.
وبعد عام 1973 تقلّص الاعتماد على حقوق السحب الخاصة، لكن بقيت لها أهميتها. ففي عام 2009 وخلال الأزمة المالية الأميركية - العالمية اتّفقت دول مجموعة العشرين (G20) على توزيع ما يعادل 250 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة لمساعدة الدول على الخروج من الأزمة.
في ورقة بعنوان «السيولة الدولية ودور حقوق السحب الخاصة في النظام النقدي الدولي»، يقدّم الباحثان بيتر كلارك وجاك بولاك سببين يجعلان الـSDR أقل أهمية بعد سقوط اتفاق بريتون وودز هما:
- السبب الأول، أن الدول الصناعية أصبحت تعمل بأسعار صرف مرنة تلغي الحاجة إلى امتلاك احتياطات بالشكل الذي كانت تحتاج له عندما كان سعر الصرف ثابتاً بحسب اتفاقية بريتون وودز. لذا، لم تعُد هناك حاجة إلى سيولة إضافية.
- السبب الثاني، هو أن مشكلة «تكديس السيولة»، كما كان سائداً في المصارف المركزية حول العالم، لم تعُد مشكلة رائجة. فبما أن وحدات حقوق السحب الخاصة جاءت لتعالج هذه المشكلة، التي لم تعُد موجودة، فإنّ هذه الوحدات لم تعُد ذات أهمية.
انخفاض أهمية هذه الوحدات بعد انتهاء بريتون وودز كان ظاهراً، من خلال إلقاء الضوء على توزيعها عبر التاريخ، بحسب الورقة التي أعدّها موريس أوبستفيلد بعنوان «حقوق السحب الخاصة كأصل احتياطي دولي: أي مستقبل؟». توزيع هذه الوحدات خلال فترتَي 1970-1972، و1979-1981، أي قبل التوزيع الكبير في عام 2009. يومها لم تكن نسبة الـSDR من إجمالي الاحتياط الدولي قد تجاوزت أكثر من 6%، لا بل كانت هذه النسبة تنخفض تدريجاً إلى أن بلغت بحلول الأزمة المالية العالمية في 2009 نحو 0.5% من إجمالي الاحتياطي الدولي. وحتى بعد توزيع وحدات حقوق السحب الخاصة في عام 2009 بقيت النسبة قليلة.
الفائدة على وحدات حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي لا تبدأ بالتراكم إلّا عند تحويل الوحدات إلى العملات الصعبة، كما أن الفائدة على هذه الوحدات هي أقل من الفائدة السوقية، فضلاً عن أن استعمال حقوق السحب الخاصّة كوسيلة لمساعدة الدول المحتاجة في هذه الفترة يُغني عن الطلب من هذه الدول القيام بإصلاحات كشرط مسبَق مقابل التمويل


هنا نعود إلى مطلب حاكم المصرف المركزي الصيني. يقول في مقال نُشر في «فاينانشال تايمز» في 16 تموز 2020، إنه في ظلّ الأزمة الاقتصادية الحالية الناتجة عن فيروس كورونا، أفضل ما يمكن أن يفعله صندوق النقد الدولي هو توزيع جديد لحقوق السحب الخاصة، لأن التجربة كانت ناجحة في أزمة 2009، والدول ذات الاقتصادات الناشئة والنامية هي أكثر المتضررين من هذه الأزمة. والقروض العاجلة التي يمنحها صندوق النقد لها محدوديتها. فمن جهة هناك دول مأزومة قد تتردّد في أن تطلب قروضاً من الصندوق. ومن جهة أخرى، الصندوق قادر على تأمين تريليون دولار للإقراض وفق هذه الآلية، بينما يتوقع هو نفسه في دراساته أن تزداد الحاجة العالمية إلى 2 تريليون دولار، ما يعني أنه غير قادر على تلبية هذه الحاجات.
ويكمل بالاستناد إلى توقعات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي حول إصدار حقوق سحب خاصة بقيمة 500 مليار دولار لتأمين 22 مليار دولار لنحو 76 دولة من أفقر الدول في العالم، ما يرفع إجمالي احتياطاتها إلى أكثر من 9%. ويكون هذا التوزيع بحسب حاجة كل بلد بدلاً من الكوتا الخاصة بكل دولة.
ويشير إلى أن كلفة هذا الإصدار منخفضة جداً، فالفائدة على وحدات حقوق السحب الخاصة لا تبدأ بالتراكم إلا عند تحويل الوحدات إلى العملات الصعبة. كما أن الفائدة على هذه الوحدات هي أقل من الفائدة السوقية. بالإضافة إلى أن استعمال حقوق السحب الخاصة كوسيلة لمساعدة الدول المحتاجة في هذه الفترة يغني عن الطلب من هذه الدول القيام بإصلاحات كشرط مسبق مقابل التمويل. ويقول يي يانغ إن هذه مرحلة طارئة لا وقت فيها للتركيز على الإصلاحات الهيكلية، فالأهم هو إنقاذ البلاد من مأزقها.
ستفتح هذه الأزمات المتتالية باب النقاش حول ضرورة وجود مصرف مركزي عالمي يُصدر عملة دولية تُستعمل كاحتياطي، لتسهيل التعامل مع الأزمات العالمية من الناحية النقدية. وهذا الأمر سيدفع باتجاه نقاش حول صوابية فكرة تحويل وحدات الـSDR إلى عملة يُمكن تبادلها، وليس ضرورياً أن تحلّ مكان الدولار كعملة مسيطرة على التبادلات العالمية، لكن يمكن أن تكون وظيفتها عملة احتياط مدعومة من سلّة عملات عالمية. وحتى حينه قد يكون هذا النقاش ميداناً إضافياً في الصراع الصيني الأميركي.