هناك نظريات عدّة عن انحدار المجتمعات الكونية أو عن تكثّف العمل الفردي في آفاتٍ كونية اجتماعية وبيئية؛ من أبرزها نظرية «الاستغراب». ففي لبنان، كما في أماكن أخرى في العالم، حيث يُفنى الإنسان «المُستغرب» من أجل ربّ الطائفة أو العرق أو القبيلة. «الاستغراب» ظاهرة عامة مقترنة بالتسليع الذي يطال معظم مرافق الحياة في ظل اقتصاد السوق. كلما زادت السلع زاد المبيع. في «الاستغراب» يُستغرب الإنسان من ذاته ومن بيئته. كلما استملك أكثر، أصبح أقل. والإنسان هنا ليس بالفرد المجرد، إنما الإنسان الاجتماعي. أي الطبقة أو المجتمع ككل.الرجل الأبيض هو على الأرجح الأكثر «استغراباً» من إنسانيته لأنه يجول الأرض غازياً لمصلحة ربّ عرقه. أدلّة الرجل الأبيض تفيض عن المقبول. أهمها إيمانه بديموقراطية الإنسانية في تماهٍ تام مع سلطته، بالتزامن مع الإثراء بالمجازر العرقية. يستغرب من منتوجه لينتج أدوات فنائه. أسُس الاستغراب ماديّة ذات انعكاسات روحية. الإنسان يُسلب من منتوجه لينتج سلعة مفروضة على المجتمع كحاجة تتحكّم بمصيره من خلال تبادلها في السوق. فهو كما يقول الفيلسوف perlman، يودّ أن يولد ميتاً كي يرتاح لأنه يعيش الموت في الحياة أكثر من الحياة. إن «الاستغراب» هو استلاب للإرادة التاريخية. يظنّ الإنسان أنه يعيش بمحض إرادته، لكنه ليس بالفاعل التاريخي، ويتفاعل على أرضية تاريخية وجدها التاريخ وثقله. وبـ«الاستغراب» يصبح غرضاً لاستعراض سلعي، تتقمّص السلعة في روحه. يعيش بالاستعارة من مشهد السلعة ويترافق ذلك مع استعارة روحية. الضابط الرئيس لهذا المشهد المهمّ هو علاقة رأس المال، أي الطبقة كفئة فلسفية، الثقل التاريخي المتوارث والمرصوص بريوع تعيد إنتاج الظرف القائم.

داريو كاستيليخوس ــ المكسيك

علاقة رأس المال هذه، لها من الدهاء ما يتيح لها إنتاج الظروف التاريخية للفساد و«الاستغراب» إلى حدّ تأكل فيه ذاتها. ها هو اليوم رأس المال يقتات حتى على خدمه. كل فرد «يفعل ما يشاء»، لكن بحكم المنطق التاريخي ومغالطة التركيب تجتمع حركة الكل كي تتماثل مع أوامر رأس المال. صندوق النقد يمثّل تلك المؤسسات التي يتفيّأ بها رأس المال. أما عن مغالطة التركيب، فهذه تُقال كذلك بمغالطة الجمع، أي مجموع الأجزاء لا يساوي الكل. على سبيل المثال، إذا ادّخر كل فرد في المجتمع، يهبط الاستهلاك والطلب ويفقر الناس، أما إذا ادّخر فرد واحد فيثرى. حالة الاستغراب هذه ليست حالة لبنانية حصراً، إنها حالة كونية متفاوتة الأعراض. هي السياق أو البيئة التي تحوّل الثراء العام إلى الخاص، سواء بالعنف أو بالتقشف. إذاً هي تحديداً بيئة فاسدة نتيجة سياسة مؤسسية دولية مترابطة مع سياسة محلية فاسدة وإطار عام سياسي وقانوني يُقتطع به الريع من العالم النقدي، أي على عكس الريع الإنتاجي، ما يحدّ من قدرة المجتمعات على إعادة إنتاج ذاتها. الريع النقدي عندما يتأتى المال من المال، والريع الإنتاجي هو المبني على قاعدة تكنولوجية جديدة. الفساد هنا هو هيمنة وإشاعة الفكر الفاسد، أي منهج التفكير الذي يلغي التاريخ المركّب بالتسطيح الشكلي، أي طرق التفكير الشائعة. وهو الذي يرمي بالمنطق الرسمي على واقع كيفي، ما يلغي ارتباط المفاهيم بالواقع. بمعنى آخر، الإنسان يغذّي استغرابه انطلاقاً من ترابطه الطبقي الذي يأخذ شكل الهوية أو الطائفة. الهوية في ظل مجتمع متسلِّع تمثل آلية اقتناص الريع. التحاصص الهوياتي أو الطائفي حالة عامة وليست خاصة بلبنان. لكن الهوية السياسية الملحقة برأس المال تلغي الذاتية أو الخصوصية الثقافية، أي تلغي الهوية الثقافية الحقيقية كالصهاينة مثلاً، فهم ملحدون، لكنهم يتبجّحون بأن الله أعطاهم فلسطين، أي أن الهوية الصهيونية هي متاع لاقتناص الريع أو تحاصص على الريع الإمبريالي.
بالطبع، ليست هناك طبقة من دون كيان ثقافي متفرّد بذاتيته وذاكرته الاجتماعية والمرتبط بالهوية الطبقية. فعلى سبيل المثال، إن صراع الشعوب الأصلية في أميركا المتمسكة بهويتها الثقافية، أكثر ارتباطاً بالطبقة العاملة الكونية من هوية تختزل ثقافتها، أي كعربي يستنسخ الأسماء الغربية لأبنائه. المنطق هو كالآتي: بما أن رأس المال مبني على تقسيم العمالة على أسس هوياتية، فالحيّز المعادي لرأس المال من العمل يمثّل تجسيد العمل في التاريخ. رموز وذاكرة هذه الهويات هي رموز وذاكرة الطبقة العاملة. الاستغراب أو فصل حالة الوجود عن حالة المعرفة منتج كعالم في الجامعات، أُنفقت عليه المليارات، لأنه السلاح الأقوى الذي يحمي سلطة رأس المال.
الوعي بهلاميّته يُربى كموقف طبقي بالغ الكلفة لأنه استثمار في تمكين علاقات إنتاج تستهلك الإنسان من دون وعي الإنسان لاستهلاك ذاته. الفساد المبني على الوعي الزائف ممنهجٌ من أجل تثبيت حكم العلاقة الاجتماعية السائدة، أي رأس المال. بالطبع، لدينا هذا الفاسد أو ذاك، أو بالأحرى، كل مشارك باقتصاد السوق فاسد ولو عن غير قصد. هناك المتواطئ مع القوى الاجتماعية التي تلغي الشعب بالفقر والحرب. هذا المتواطئ يشارك مع الفاعل التاريخي الذي يضع أسس الفساد. الفساد هو إرث تاريخي أو علاقة متجذّرة بثقافة ترعاها معظم أدوات إنتاج الفكر المهيمن. يندر أن تنتج إطاراً يخلو مما هو ليس بفاسد. غير الفاسد هو من يحارب الفاعل التاريخي بوعي اجتماعي بديل.
لسنا هنا بصدد شخصنة التآمر. بالطبع، هناك دهاليز سرية لصناعة السياسات. إنما نوصّف حالة تاريخية اختزلت الإنسان. المؤامرة هي تلك الأيديولوجية السائدة التي تستلب إرادة القوم جمعاً. فإذا سردنا حالة فائض الإنتاج مع الفقر جنباً إلى جنب، لقرية من قرى الكفاف أيام الإقطاع ما قبل 500 سنة، لقال أهل القرية إنها محض خيال. الشعوب تجوع اليوم، بينما فائض الإنتاج هو سبب تجويعهم. رغم ذلك، وبحكم الفكر السائد، فإن سُئل أحد عن أسباب الأزمة سيعطي جواباً حسابياً: هناك كمّ هائل من البشر وقلّة من الموارد. هذه مغالطة. عندما يُسقط الحساب على الواقع يحدث المستحيل، أي ينطبق المنطق الرسمي (الحساب) على واقع ديناميكي وكيفي. الحساب اقتطاع من واقع متغير في زمن افتراضي. لقد انتزعت المدارس والجامعات حتى الفطرة السليمة التي تلد مع الإنسان. وبهذا التحريف تقدر الأيديولوجية السائدة بحكم ضعف الأيديولوجية البديلة أن تقلب الواقع رأساً على عقب. لكن تمسك الإنسان بتصوّر مقلوب للواقع، هو موقف طبقي. تصوّر الصهيوني أن الله غير الموجود له أعطاه فلسطين، أو الطائفي الذي يظنّ أن نوعه أفضل، كل هذه الميثولوجيات الممتدة عبر العصور والمستحدثة، إنما هي لاقتطاع الريع من خلال تمثيله السياسي لمجموعة على حساب مجموعة أخرى. ففي ظل رأس المال، كل المداخيل والحصص هي ريوع مبنية على التمثيل السياسي في السلطة.
لذا يصعب قلب هذه المفاهيم من دون قلب موازين القوى. هذه أسس إعادة إنتاج التحاصص بالهوية من أجل إفقار الكل. بما أن الدخل ريع منوط بالهوية الفئوية، تتدنّى حصّة الأجور مع صعود الهوية الفئوية.
غياب البديل في لبنان، بينما معاناة اللبنانيين من هذه الأزمة واضحة للعيان، هذا نتاج أيديولوجية فاسدة شبه كونية، لكن في الوقت نفسه، لدينا مريعون طائفيون يتوخّون هذه اللحظة لإعادة تفعيل الريع الجيوسياسي بما يخدم مصلحة الإمبريالية أكثر. في اقتصاد السوق، يتحصّل المال مع انحسار السوق أو امتداده. أي أنهم يعرفون أن الإمبريالية لأسباب تعود للتمكن الجيوسياسي ستبدأ بطبع دولارات جديدة لشراء ذمم جديدة في لبنان: أميركا تضخّ السيولة من دون كلفة تقريباً.
فبعد سياسات تقشّفية وُظّفت فيها المصارف لاختلاس الأموال السورية وتلك غير المستحبّة أميركياً، قامت المصارف بعملية انتحار جماعي بإيعاز أميركي طبعاً من أجل الإتيان على ما تبقى من البنية الاجتماعية في دورة اقتصادية مبنية على الريع الجيوسياسي الذي بدوره يشكل احتياط الدولار. من السذاجة أن يُظّن للحظة واحدة أن ضخّ الدولار في لبنان لم يبدأ بعد، قالها Dean Rusk وزير الخارجية أيام كيند: أميركا لا تنام في عالم مليء بالمؤامرات، هذا الضخّ هو أكبر الاستثمارات الإمبريالية، وهو الذي يبني لأولوية السياسة وتغييب الوعي. لكن لحسن الحظ، إن ميزان القوى الداخلي مختلّ جداً في لبنان.
حرب التفقير بدأت. لم يتحرّك البنك المركزي لخلق بديل مصرفي يوفر الاعتماد عندما أقفلت المصارف الخاصة، وليس ممكناً لمصرف يدور في حلقة الدولار أن يستقل بقراره. كان قرار الاختلاس والسلب والإفلاس قراراً أميركياً في توقيت انتهازي. كذلك بدأ مع هجوم شركات التصنيف على نوعيّة الدين العام. المصرف المركزي لم يتّخذ إجراءات بنّاءة ومن دون ضخّ اعتمادات جديدة لن تقوم للاقتصاد قائمة


أما عن حرب التفقير فهذه بدأت. لم يتحرّك البنك المركزي لخلق بديل مصرفي يوفر الاعتماد عندما أقفلت المصارف الخاصة. ليس ممكناً لمصرف يدور في حلقة الدولار أن يستقل بقراره. كان قرار الاختلاس والسلب والإفلاس قراراً أميركياً في توقيت انتهازي. كذلك بدأت مع هجوم شركات التصنيف على نوعية الدين العام. المصرف المركزي لم يتخذ إجراءات بنّاءة، ومن دون ضخ اعتمادات جديدة لن تقوم للاقتصاد قائمة.
ظاهرة الانتحار المصرفي الجماعي لسلب قوى لا تدور في الفلك الأميركي، سابقة خطيرة طالما كان الدولار أداة استبداد. قلّما ضحّى رأس المال بأبناء جلدته الطبقية بهذه الحدّة. حتى المصارف التركية تتحوّط بالاحتفاظ بودائع الدولار من أدوات الدولار المالية: كان فاقعاً استهتار المصارف بالمدخرات ومحفزاً لعجلة الفساد السياسي إلى حد لا يمكن ان نتصور عملية الشلل الآن إلا على أنها استكمال للانقضاض على البنية التنموية. في هذه البرهة بالذات، عملية التصعيد الأميركية بالحصار وبالدولار لها ارتداداتها الدولية. الدولار عملة التداول والتدخير الكوني، لذا يرتاب العالم من تصرف أميركا الفظّ وغير الآبه لأنه فعلاً يشكل سابقة تنمّ عن ضعف إمبراطورية لجأت إلى إجراء كهذا.
محاربة الفساد الفكري هي اصطفاف قوى في وجه الإمبريالية. علاقة رأس المال حذقة وتحتاط باستزلام اليسار الانتهازي الذي يتكلم بطريقة الأساقفة عن الخير والشر في عالم محكوم بالسلعة وبعلاقة تستهلك الإنسان في الربحية. هذا اليسار غيبوي يحارب الفاسد وكم هم كثر. هم لا يصوّبون الملامة على العلاقة الحاكمة وهم غير قادرين على التجريد البسيط لأن هذا التسطيح موقف طبقي. بمحاربتهم الفساد من منطلق مجرّد يلومون الفقير على سرقة رغيف خبز. لكن الفاسد والمفسد هو التاريخ المتكوّن بحكم علاقة رأس المال الذي يستلب الإنسان من ذاته ومن بيئته من أجل التراكم. الغريب أن الريع الجيوسياسي في الكل الرأسمالي المرتّب هرمياً يستهلك في الأطراف حتى أرباب الطوائف والعرق. وبما أن الفساد حالة نكرية تخلع الناس عن التاريخ، فمكافحة الفساد إذاً تبدأ باستملاك التاريخ من خلال بناء أرضية تختلف عن أرضية سجن ستانفورد. محاربة الفساد منوطة بتطور الوعي الثوري المنظم بجبهات عريضة: التنظيم أولاً.
الحدّ الأدنى أو القاسم المشترك للجبهات العريضة هو فكّ الارتباط بالدولار وحصر التعامل به في يد الدولة، وإعادة تحرير الاعتماد من أجل دعم الاقتصاد الوطني. التنمية منظور طويل الأجل، ومديونية التنمية التي تدعم الإنتاجية توفي نفسها على المدى البعيد قطعاً.
بالنسبة إلى تطور الوعي المُحبِّذ لهذا الانفكاك عن الدولار، لدينا حالتان. حالة الإشراط المسلكي، أي المواطن الذي يسيل لعابه للاستهلاك ولو على حساب نفسه ومجتمعه، وهذه حالة متعمّقة جداً. وحالة أخرى ألا وهي أفول الولايات المتحدة من السيادة الكونية أو انحدارها. بانت الولايات المتحدة بعنصريّتها وفقرها الاستعراض الأخير للسلع الذي يمهّد لإعادة تكوين وعي ثائر. الحالة الأخيرة هذه هي المحدِّد الأوّلي في تطوّر الوعي الثوري.