يتساءل العديد من الناس، والبعض في البرلمان، لماذا لا يكتشف المدقّقون الماليون المزيد من أعمال الاحتيال. يعتقدون أنه يجدر بهم ذلك، إلّا أنّ هذا الاعتقاد خاطئ. فمهام التدقيق المالي تختلف تماماً عن مهام تدقيق الاحتيال، أو عن المحاسبة الجنائية التي شاع الحديث عنها في لبنان أخيراً باعتبارها إحدى وسائل البحث عن الأموال المهدورة أو المنهوبة. ما الفرق بين عمليات التدقيق العادية والمحاسبة الجنائية؟ كيف تطوّرت مفاهيم التدقيق في ظل تطوّر عمليات الاحتيال؟ هل هناك حاجة، أو رغبة، أو قدرة، على تكريس المحاسبة الجنائية في لبنان؟ من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة وبأي ظروف موضوعية وإدارية وقانونية؟ هل بإمكان المحاسبة الجنائية الاستدلال على الأموال المنهوبة؟
الاحتيال تاريخياً
ربما يكون أول احتيال كبير للشركات هو الاحتيال المعروف باسم فقاعة بحر الجنوب (South Sea Bubble). تأسّست شركة بحر الجنوب (SSC) في بريطانيا عام 1711، بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وأعطيت لاحقاً الحقّ الحصري بالمتاجرة في بحار قارة أميركا الجنوبية. في عام 1719 اقترحت الشركة مخططاً يقضي بتحملها الدين العام في بريطانيا، والمقدر بأكثر من 30 مليون جنيه إسترليني، عن طريق دعوة المستثمرين بالاكتتاب في أسهم الشركة مقابل السندات الحكومية التي يحملونها. ورغم أن بنك إنكلترا عرض تحمّل الدين، إلّا أن البرلمان وافق على تولّي الشركة هذا الدين. قادت شركة بحر الجنوب ارتفاع سعر السهم من خلال وسائل اصطناعية، موهمة المستثمرين بعوائد على الأسهم تفوق بكثير تلك المحققة من السندات الحكومية، ما أدّى إلى تهافت المستثمرين على الاكتتاب في أسهم الشركة. وفي جنون المضاربة هذا، ارتفعت قيمة سهم الشركة من 128 جنيهاً إسترلينياً إلى 1000 جنيه إسترليني خلال الفترة بين كانون الثاني وآب من عام 1720. وبعدما شاع خبر أن الأسعار المتداولة تفوق بكثير القيمة الحقيقية لأسهم الشركة، بدأت عمليات بيع الأسهم بالتسارع من قِبل مديري المحافظ بداية، ثم المستثمرين للاستفادة من أرباح الأسهم الضخمة. وبحلول نهاية شهر أيلول من السنة نفسها، انخفض سعر السهم إلى 150 جنيهاً إسترلينياً.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

ومع غضب المستثمرين، والعديد منهم من الأرستقراطيين، بدأ البرلمان البريطاني بالتحقيق. كجزء من هذا التحقيق، تم تعيين مدقّق خارجي لمراجعة دفاتر شركة بحر الجنوب. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إحضار مدقّق خارجي لمراجعة دفاتر شركة، بما يمثّل بداية المحاسبين القانونيين في إنكلترا، وبالتالي بداية المحاسبين القانونيين المعتمدين (CPA) وعملية التدقيق المالي كما نعرفها اليوم.
وفي قضية أخرى، في عام 1920، وضع تشارلز بونزي (Charles Ponzi) مخططاً لشراء القسائم البريدية من إسبانيا وبيعها إلى خدمة البريد الأميركية، مستفيداً من فروقات الأسعار كوسيلة لتحقيق الربح. ومن أجل زيادة رأس المال، وعد بونزي المستثمرين بعوائد ضخمة تُقدر بـ50% خلال 90 يوماً. قام بونزي بتوليد العوائد للمستثمرين القدامى عبر استخدام أموال المستثمرين الجدد. وسُجن بتهمة الاحتيال على 40 ألف شخص بقيمة 15 مليون دولار. حتى يومنا هذا، يُشار إلى هذا النوع من المخطّطات باسم مخطط بونزي (Ponzi scheme).
لم ينتهِ تطبيق مخطّط بونزي في الولايات المتحدة الأميركية بانتهاء قصّة مؤسّسه. يُعدّ برنارد مادوف (Bernard Madoff) الشخصية الأكثر شهرة في استخدام مخطط بونزي. وهو أقرّ في عام 2008 بسرقة 17 مليار دولار من المستثمرين الذين انضموا إلى مشاريعه.
ولعلّ الاحتيال الأكثر بروزاً لجهة التأثير على مجتمع الأعمال، الكشف عن الاحتيال المحاسبي في شركة إنرون (Enron) الأميركية للطاقة والسلع والخدمات. في عام 2001، أدّى الكشف عن اختلافات كبيرة في الإيرادات والمطلوبات في التقارير المالية لشركة إنرون، إلى إفلاسها. تسبّبت هذه الفضيحة بحلّ شركة تدقيق الحسابات آرثر أندرسن (Arthur Andersen).

التدقيق المالي (Financial Audit)
هذا السرد التاريخي لأبرز عمليات الاحتيال وتطوّرها، يقابله تطوّر مماثل في عمليات التدقيق المالي. هو مفهوم يتعلق بتقييم مدى امتثال البيانات المالية لشركة ما، قياساً إلى المعايير التنظيمية المعتمدة. وقد صمّم التدقيق المالي، من أجل الكشف عن الأخطاء الجوهرية، والحصول على «تأكيد معقول» حول صحّة البيانات المالية للشركة وخلوّها من الأخطاء الجوهرية، سواء كانت ناشئة عن غش أو خطأ بمعزل عن أسباب حدوثه، بهدف إعطاء رأي عن مدى عدالة البيانات المالية. ويُقصد بـ«التأكيد المعقول» الحصول على مستوى عالٍ من التأكيد من دون أن يشكّل ضمانة لاكتشاف الأخطاء الجوهرية دائماً في حال وجودها، علماً بأن ما يسمّى «أخطاء جوهرية» هي تلك التي تؤثّر، منفردة أو مجتمعة، على القرارات الاقتصادية لمستخدمي البيانات المالية.
وبما أن فحص ومراجعة كامل المستندات والعمليات المحاسبية يتطلّب موارد مالية وزمنية ضخمة، فضلاً عن عدم جدواها، لذا فإن أحد أهمّ المتطلبات الرئيسية لعملية التدقيق المالي يكمن في الحصول على أدلّة مناسبة كافية لتقليل مخاطر المراجعة إلى مستوى منخفض مقبول، عبر تحديد حجم العيّنات وأنواعها بناء على نسبة مخاطر التدقيق المحتسبة بالمعادلة الآتية:
مخاطر التدقيق (Audit risk) = المخاطر الملازمة (Inherent risk) × مخاطر الرقابة (Control risk) × مخاطر عدم الاكتشاف (Detection risk).
المخاطر الملازمة هي قابلية حدوث خطأ مادي مؤثّر على رصيد حساب أو مجموعة معاملات متشابهة بشكل فردي أو عندما تُدمج مع أخطاء في أرصدة أو مجموعات أخرى، مع افتراض عدم وجود رقابة داخلية ذات صلة. أما مخاطر الرقابة هي قابلية حدوث الخطأ المؤثّر من دون أن تتمكن أنظمة المحاسبة والرقابة الداخلية من منعه أو اكتشافه وتصحيحه في الوقت المناسب. ولهذه الغاية، يتمتّع المدقّقون الماليون بخبرة في المحاسبة وإعداد التقارير المالية وفقاً لمبادئ المحاسبة المقبولة عموماً، أو المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS)، إضافة إلى معايير التدقيق. إن أهم سمات التدقيق المالي هي الاستقلالية والموضوعية والشكّ. ويعتبر الحكم المهني أمراً حاسماً في المراجعة المالية.

تدقيق الاحتيال (Fraud Audit)
بخلاف التدقيق المالي، يظهر تدقيق الاحتيال عادة من خلال: ادّعاء أو شكوى أو إشاعة احتيال يقدّمها طرف ثالث (مورد ساخط أو موظف زميل)؛ حدس المحقّق أو الشكّ العام في أن شيئاً ما غير صحيح؛ الأرباح أو المبيعات أو الأكلاف أو الأصول أو التزامات غير مقبولة أو منخفضة جداً أو مرتفعة جداً؛ اكتشاف عرضي لشيء مفقود (نقد أو ممتلكات أو تقارير أو ملفات أو مستندات أو بيانات)؛ نتائج تقارير التدقيق أو الرقابة. في هذا السياق، تشير التقديرات إلى أن نحو 60% من عمليات الاحتيال اكتُشفت من خلال التبليغ عنها أو عن طريق تلميح أو حادث ما.
إن تدقيق الاحتيال هو عملية الكشف عن الأنشطة الاحتيالية ومنعها وتصحيحها. ومع أن القضاء التام على الاحتيال هو الهدف، إلّا أنه ببساطة أمر غير ممكن. ينطبق مفهوم المعقولية هنا، بحيث يجب أن يكون مدققو الاحتيال قادرين على إحباط أية عملية احتيال يمكن منعها بشكل معقول. عادة، تكون عمليات الاحتيال من النوع المحاسبي مصحوبة بالتناقض في السجلات المحاسبية أو تعديل الأدلة المحاسبية أو تغييرها أو إتلافها أو تزويرها.
تشمل المهارات المطلوبة لمدقّقي الاحتيال جميع تلك المطلوبة للمدققين الماليين، إضافة إلى مهارات جمع الأدلة وتوثيق خسائر الاحتيال لأغراض جنائية ومدنية وتعاقدية وأغراض التأمين. ويتمتع مدقّقو الاحتيال بمنظور قانوني ومنظور بيئي ومنظور الجاني ومنظور ثقافي. وتكون لديهم أيضاً خبرة خاصة ببيئة الأعمال (مثلاً: الخدمات المصرفية والتأمين والبناء والتصنيع والتوزيع والبيع بالتجزئة). وعادة ما يستند مدققو الاحتيال في عملهم إلى الفرضيات الآتية: إمكانية وجود الاحتيال حتى في أنظمة المحاسبة ذات الضوابط الجيدة؛ إمكانية إخفاء عمليات احتيال كبيرة خلف مبالغ مرئية صغيرة؛ يمكن تمييز «الأعلام الحمراء» للاحتيال من خلال الأحداث غير الروتينية؛ يمكن أن يأتي مرتكبو الاحتيال من أيّ مستوى من الإدارة أو المجتمع.

المحاسبة الجنائية (Forensic Accounting)
إذا كان تدقيق الاحتيال هو الكشف عن أسباب حصول أخطاء جوهرية، فإن وظيفة المحاسبة الجنائية أبعد من ذلك. فهي تقوم على تقييم الخسائر وتوثيق الأدلّة وليس عملها مرتبطاً بوجود الشكّ أو الشكوى أو غيرها، بل عليها أن تقدّم خدمات الدعم القضائي والتحقيق المحاسب للدوائر والشركات والوحدات الحكومية لمساعدتها على إصدار أحكامها، ومنع واكتشاف الجرائم الاقتصادية ذات الأبعاد المحاسبية من خلال منظومة من المعارف والخبرات في مجال المحاسبة والتدقيق والقانون والكمبيوتر مدعومة بقدرات ومهارات شخصية في مجالَي التواصل والتحقيق.
والمحاسبة الجنائية من أقدم المهن التي مارسها المصريون. فقد كان للفرعون شخص يعمل كمحاسب جنائي، ويراقب مخزونات الحبوب والذهب وغيرهما من الأصول. ويتم انتقاء هذا الشخص لكونه جديراً بالثقة ومسؤولاً وقادراً على التعامل مع مواقع النفوذ.
غالباً، يتم استدعاء المحاسبين الجنائيين مباشرة بعد ظهور أدلّة أو شكّ في وجود احتيال من خلال ادّعاء أو شكوى أو اكتشاف. يسهم المحاسبون الجنائيون في ترجمة المعاملات المالية المعقدة والبيانات الكمية إلى مصطلحات يمكن أن يفهمها الأشخاص غير المتخصصين. ويعتمد المحاسب الجنائي على موارد مختلفة للحصول على أدلّة مالية ذات صلة وتفسيرها وتقديمها بطريقة مفيدة. إن إشراك المحاسب الجنائي يكون دائماً تفاعلياً، وهذا يميّزه عن مدقّقي الاحتيال، إذ يميل إلى المشاركة بنشاط في الوقاية والكشف في بيئة مؤسّسية أو تنظيمية.
على سبيل المثال، في حالة عدم التزام أحد المصارف بمتطلبات معيار الأدوات المالية (IFRS9)، يتوجّب على المدقّق المالي الإشارة في تقريره إلى هذا الخطأ بصفته من «الأخطاء الجوهرية» التي تؤثّر على قرارات مستخدمي البيانات المالية. بينما يتولى مدقّق الاحتيال والمحاسب الجنائي البحث عن الأسباب الذي أدّت إلى حدوث الخطأ وإذا كانت تنطوي على عمليات احتيال، بالإضافة إلى احتساب كلفة الخسائر الناتجة من هذا الخطأ.
مجالات خبرة المحاسبين الجنائيين تتعدّى المحاسبة والتدقيق إلى مهارات التحقيق الجنائي والمقابلات وكتابة التقارير والشهادة كشهود خبراء. يدرَّب المحاسبون الجنائيون على الرّد على الشكاوى الناشئة في المسائل الجنائية، وبيانات المطالبات الناشئة في الدعاوى المدنية، والشائعات والاستفسارات الناشئة في تحقيقات الشركات. تُعطى موضوعية واستقلالية مدققي الاحتيال والمحاسبين الجنائيين أهمية قصوى.

ديوان المحاسبة
في ظلّ هذا الاختلاف الكبير في الأدوات والأهداف بين عمليات التدقيق العادية، والمحاسبة الجنائية، وفي ضوء ما يتداول اليوم في لبنان عن ضرورة اللجوء إلى المحاسبة الجنائية بحثاً عن الأموال المنهوبة أو المهدورة من خلال الأدوات والآليات التي أتاحت الأمر، ثمة سؤال أساسي بات مطروحاً: هل هناك فرصة لمأسسة مفهوم المحاسبة الجنائية في لبنان، وتحويل بعض عمليات الرقابة إلى شكل من أشكال المحاسبة أو التدقيق الجنائي؟ ربما الأمر يكون أكثر من ضرورة استناداً إلى الحقائق المتداولة، أو تلك المسرّبة أو المخفية عن فساد وهدر للمال العام والخاص. ويصبح الأمر أكثر ضرورة، قياساً إلى انعدام فعالية الهيئات المدنية والرسمية التي يتّصل عملها بمكافحة الفساد أو البحث عنه أو كشفه طالما أن هناك صعوبات تواجه عمليات تطبيق القوانين، أو عوائق موجودة في القوانين نفسها التي قد تغطّي أو تشرّع الفساد والهدر (وهو ما أشارت إليه خطّة الحكومة الأخيرة بشكل صريح).
وظيفة المحاسبة الجنائية تقييم الخسائر وتوثيق الأدلّة وتقديم خدمات الدعم القضائي واكتشاف الجرائم الاقتصادية ذات الأبعاد المحاسبية


أياً يكن الحال، فإنّ ديوان المحاسبة قد يكون أهم المؤسسات التي يجب تجهيزها وتحضيرها للقيام بأعمال المحاسبة الجنائية. أصلاً، شكّل تأسيس ديوان المحاسبة في مرحلة تدخّل الدولة في الاقتصاد، حجر الأساس في إنشاء الإدارة العامة اللبنانية، أما اليوم، وفي مرحلة تحرير الاقتصاد، تزداد أهمية الرقابة على استعمال المال العام، مع ما يستلزمه من تعزيز دور وصلاحيات ديوان المحاسبة. لم ينشأ الديوان في عام 1983 إلا بوصفه هيئة إدارية قضائية متخصّصة تتولى القضاء المالي. وهو يمارس الوظيفة الإدارية، برقابته المسبقة والمؤخرة على تنفيذ الموازنة، وبإبداء الرأي في الأمور المالية. في حين، يمارس الوظيفة القضائية، برقابته على الحسابات، وعلى كلّ من يتولى استعمال أو إدارة الأموال العمومية، والأموال المودعة لدى الخزينة.
رغم ذلك، فالأكثر استغراباً في نشأة الديوان، النقص في استقلاليته، فضلاً عن إغراقه بأعمال الرقابة المسبقة التي تتعارض مع وظيفته الأساسية، أي بصفته مدققاً خارجياً للحسابات العامة يبدي رأيه بشأن البيانات المالية للحكومة. ثمة علاقة متناقضة بين الديوان والحكومة إذ يقع في صلب أعماله مراقبة السلطة التنفيذية وإداراتها، لكنه يخضع لها أسوة بالإدارات الأخرى ويتبع إدارياً لرئاسة مجلس الوزراء التي يعود لها صلاحية تعيين رئيسه وقضاته وموظفيه، وإقرار موازنته. وفي هذا الإطار، أعربت الأجهزة الرقابية في مؤتمر جوهانسبرغ، عن قلقها تجاه تمويل الحكومة للجهاز الرقابي، والتأثير المحتمل لذلك في استقلاليته، وبخاصة في ظلّ حاجته إلى الموارد المالية والبشرية المتخصصة لتنفيذ مهماته.
وبما أن الفرص تولد من رحم الأزمات، تشكل الأزمة المالية الراهنة في لبنان فرصة حقيقية لتعزيز دور ديوان المحاسبة، بالتخّلي عن الرقابة المسبقة والتوجه نحو اعتماد مهام جديدة كمراجعة الأداء وتدقيق الاحتيال والمحاسبة الجنائية. هذا، بالتزامن مع ضمان استقلاليته عن السلطة التنفيذية، وتقديم تقاريره مباشرة إلى البرلمان، حيث تشكل المعلومات التي يقدمها الديوان بنتيجة أعمال التدقيق أساساً لكلّ من البرلمان والمواطنين لمساءلة الحكومة عن نتائج أعمالها.

* خبير مالي