كرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في أكثر من مناسبة عبارة تشير إلى أنه أقرض الدولة أموالاً يجب أن تعيدها إليه. في مقابلة تلفزيونية، أشار إلى ديون على الدولة بقيمة 15 مليار دولار، وفي كلمته المتلفزة الأخيرة، قال إن مصرف لبنان موّل الدولة، ما أدّى إلى وجود سندات يوروبوندز بقيمة خمسة مليارات دولار وحساب مكشوف مع وزارة المال اسمه حساب الحصيلة «بحيث إننا دفعنا عن الدولة اللبنانية، على أمل أن نستردّه بشكل ما، مبلغ 16 مليار دولار، ونحن قادرون وما زلنا على تحمّل هذه المبالغ، لكن في حال عدم عودتها الى مصرف لبنان يتغير وضع ميزانيته وقدراته للتدخل في السوق». وذهب سلامة بعيدأً في حدود روايته للقصّة، وبدأ يبرّر قيامه بهذا الأمر، مشيراً إلى أنه «بالنسبة إلى تمويل الدولة، رغم أنها في وضع عجز وعدم تحقيق الإصلاحات المطلوبة، هناك قوانين وعلى مصرف لبنان الالتزام بها. ففي موازنات 2018 و2019 و2020 التي صدرت بقوانين من مجلس النواب، فإن المطلوب من مصرف لبنان أن يؤمّن مداخيل كشكل من التمويل، لكن الأهم أننا إذا عدنا إلى قانون النقد والتسليف، فالمادة 91 تنص على أنه عند إصرار الحكومة علينا أن نؤمّن التمويل والمادة 96 تنص على إمكانية طلبنا سندات مقابل هذا التمويل وهذا ما قمنا به».

تصميم: رامي عليّان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في القانون، لا يمكن قراءة المادة 91 (قانون النقد والتسليف) من دون التي تسبقها. فالمادة 90 تنصّ على الآتي: «باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89، فالمبدأ أن لا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام». أما المادة 91: «إلا أنه، في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي، أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة… وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حلّ آخر، وإذا أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب. حينئذٍ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أُعطي فيه، على قوّة النقد الشرائية الداخلية والخارجية».
في المبدأ، إن المادة 91 هي الاستثناء للقاعدة، وتطبيقها، كما يزعم سلامة، يعني أنه يقرّ بوجود حالة استثنائية بالغة الخطورة تفرض عليه تمويل الدولة. وبحسب المعطيات الصادرة عن مصرف لبنان، فإن هذا التمويل كان يبلغ 2٫7 مليار دولار في 2009، ثم ارتفع تدريجياً ليبلغ 6٫3 مليارات دولار في 2012، ثم بلغ 10٫9 مليارات دولار في 2014، و12٫8 مليار دولار في 2017، ثم 15٫6 مليار دولار في 31 آذار 2020. كان هذا التمويل يزداد باطراد وثبات منذ 2009. فإذا كان سلامة يقرّ بوجود حالات استثنائية سنوية منذ تلك السنة إلى اليوم تستدعي إقراض الدولة، فلماذا لم يحرّك ساكناً، بل واصل تصريحاته الإيجابية عن استقرار الليرة والاستقرار المصرفي إلى أن أطلق هندساته المالية في صيف 2016، وصولاً إلى يومنا هذا وإعلان الحكومة تسجيل خسائر بقيمة 152 مليار دولار إذا جرى تحرير سعر الصرف بنسبة 100%.
يترك سلامة مسألة تمويل الدولة ملتبسة. فهو يصفها بأنها حساب مكشوف أي يقرض من مصرف لبنان للخزينة، ثم يدّعي بأنه يؤمن التمويل للدولة. فما المقصود بالتمويل؟ الحساب المكشوف، هو الحساب الذي يستعمل للتمويل القصير الأجل، أي لمدّة سنة. والمفارقة أن هذا الحساب متواصل منذ ما قبل 2009 وبشكل اعتيادي. فهل فعلاً قرض من مصرف لبنان للدولة يزداد بمعدل سنوي يبلغ مليار دولار؟ أما التمويل فهو ليس بالضرورة قرضاً، بل قد يكون تمويلاً للعملة الأجنبية مقابل الحصول على ليرات لبنانية.
فمسألة إقراض الدولة أصلاً ليست واضحة. ومصرف لبنان لا يمكنه الاستمرار بالعمل وفق الاستثناء لسنوات طويلة، لذا كان يقول إنه يموّل الدولة ويأمل استعادة تمويله منها. ما كان يقوم به سلامة، هو أنه يسحب أموالاً من الليرة من حساب الخزينة المعروف باسم الحساب 36 بما يوازي قيمة الدفعة بالعملات الأجنبية التي تطلب منه الدولة تسديدها. بمعنى أوضح، كان يقوم بعملية تحويل العملة لأي زبون آخر. فعندما تطلب الدولة منه القيام بذلك، هي بوصفها زبون لديه دفعة بالدولار وهو بوصفه بنك البنوك الذي يدير العملة الأجنبية والمحلية في البلاد كلها. سلامة لا يعترف بذلك، بل يعتقد أنه يموّل بمعنى الإقراض. لذا، كان يستحوذ على الليرات ويضعها في حساب هو وحده قرّر فتحه للخزينة اسمه حساب الحصيلة (الحساب رقم 100)، ويضع فيها الليرات على أنها ودائع للدولة، ويضع فيها الدولارات المحوّلة منه على أنها ديون على الدولة. هذا ما يتيح لسلامة نقل الدولارات المحوّلة عن الدولة، إلى بند «الأصول المختلفة». الدولارات خرجت من كل النظام (كل دفعات الدولة هي للخارج)، بينما سلامة يضع هذه الدولارات في أصوله!
ربما يكون مقبولاً أن يتريّث قليلاً في شطب الخسارة الناتجة من هذه العمليات، أي الفرق بين سعر الدولارات التي اشتراها سلامة وبين سعر بيعها للخزينة، لكن لا يمكنه مواصلة القيام بذلك لأكثر من 10 سنوات. رحلة الدولارات من حسابات الاحتياطات بالعملة الأجنبية، أي عندما كانت ودائع مستقطبة عبر المصارف، ثم ترحيلها إلى الخارج قبل أن يتم تصنيفها محلياً ديون هي عملية وهمية بامتياز. سلامة كان يسجّل الوهم على دفاتره. سلامة بوصفه تاجر أوراق مالية وسمسار بورصة عمل سابقاً في ميريل لينش يستمر منذ تعيينه حاكماً ببيع الوهم نفسه، مرّة لتثبيت سعر صرف الليرة، ومرّة لتبرير انهيار سعر الليرة.