«التضخّم هو دائماً وفي كلّ مكان ظاهرة نقديّة»
ميلتون فريدمان
اقتصادي وأكاديمي أميركي، حائز جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 1976


يشهد لبنان اليوم أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة تختلف عن سابقاتها. يمكن وصفها بالأزمة المزدوجة أو الأزمة داخل الأزمة. وهي تتّخذ شكلين: الأوّل ماليّ، وقد تجلّى في التخلّف عن سداد الدين السيادي في مطلع آذار الماضي بما سيترتب على ذلك من توزيع لخسائر إجماليّة بقيمة 83 مليار دولار سيتحمّلها العملاء الاقتصاديّون في البلاد. الشكل الثاني يتعلّق بتفشّي جائحة كورونا (Covid-19)، وما ينطوي عليه من صدمات سلبيّة على الاقتصاد؛ فمن جهة يشهد لبنان - والعالم أجمع - انكماشاً في الطلب الكلّي، وذلك نتيجة تنامي الشعور بالخشية لدى المستهلكين والمستثمرين على السواء من تطوّرات المستقبل ومآلاتها. ومن جهة ثانية، تَسبَّب الفيروس التاجيّ في صدمات للعرض الكلّي نتيجةً لعمليات الإغلاق والحجر الصحّي على مستوى لبنان، وكذلك بلدان العالم، وترتّب على ذلك تعطيلٌ للإنتاج والتوزيع ولسلاسل التوريد (Supply Chains)، ما دفع بدوره إلى إغلاق المصانع أبوابها - وإن مؤقّتاً - بسبب عدم قدرتها على الحصول على الكثير من السلع الوسيطة كالموارد الأساسيّة، والسلع الرأسماليّة، وغيرها من البضائع التي تشكّل عنصراً أساسيّاً في عمليّة الإنتاج.
في خِضَمّ هذه الأزمة المزدوجة، يجد المواطنون والمواطنات أنفسهم في حالةٍ من الريبة إزاء مصير مدّخراتهم في المصارف، ولا سيّما تلك المقوّمة بالدولار الأميركي، وكذلك حيال مستقبل قدرتهم الشرائيّة. لقد بات سعر الصرف على عتبة الـ4000 ليرة لبنانية مقابل كل دولار، هابطاً بمعدّل 166% عن سعر الصرف الرسميّ. وكان من أهمّ جوانب هذا الانهيار الارتفاع الملحوظ في الأسعار، لا سيّما أنّ لبنان هو بلد مستورد صافٍ لحاجاته الاستهلاكيّة.

1357 مليار ليرة شهرياً

هي كمية الأموال التي يطبعها مصرف لبنان شهرياً منذ 30 تشرين الثاني 2019 لغاية 15 نيسان 2020. كانت كمية النقد قيد التداول 9054 مليار ليرة في 30 تشرين الثاني 2019، ثم ارتفعت إلى 15163 مليار ليرة في 15 نيسان 2020، أي بزيادة 6109 مليارات ليرة في فترة 137 يوماً


ولا تقتصر الإشكاليّة على تدهور سعر صرف العملة الوطنيّة – الذي خضع للتثبيت مقابل الدولار لعقود من الزمن رغم اختلاله وبعده عن مستواه التوازني الحقيقي – فقط، بل تكمن أيضاً في ترافُق تدهور العملة مع ازدياد الأسعار؛ أو ما يُعرف بالتضخّم. ويتجاذب هذه الإشكاليّة أمران: الأوّل هو التسارع في وتيرة تدهور القدرة الشرائيّة لأصحاب الدخل المتوسّط والمحدود. والثاني، يكمن في تلاشي التنافسيّة الدوليّة للإنتاج اللبناني، لأنّ ارتفاع أسعار السلع الوطنيّة القابلة للتبادل يؤدّي إلى امتصاص الخفض الحاصل في قيمة العملة الوطنيّة، وإلغاء مفاعيل انخفاض أسعار الصادرات الوطنيّة مقوّمة بالعملة الأجنبيّة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه من غير المحتمل أن يشعر المقيمون في لبنان، الآن بالانهيار الحاصل على مستوى العالم في أسعار النفط، وخصوصاً أسعار الخام الأميركي. ويعود ذلك لأسباب عديدة، منها أنّ الانهيار الحاصل هو في الغالب مؤقت، وأنّ الأثر الكامل لتدهور الأسعار يتطلّب أسابيع أو أشهراً ربّما لكي يشعر به المستهلك. ورغم وجود علاقة مترابطة بين أسعار النفط العالميّة وما ينفقه المستهلك عند محطّات الوقود، فإنّ أسعار الوقود تعتمد، وبشكلٍ أساسي، على أكلاف التكرير والتوزيع والنقل، بالإضافة إلى الضرائب المفروضة على الاستيراد والمبيع.
هنا تبرز الأسئلة التالية: كيف يمكن لنا أن نفهم ظاهرة التضخّم؟ وما هي العوامل التي تؤثّر في مستويات التضخّم؟ وما هي الإجراءات التي يجب أن يتّخذها صانعو السياسات في سبيل الحدّ من التضخّم المالي هذا، إن وُجدت؟

ماهيّة التضخّم والكتلة النقديّة
يمكن تعريف التضخّم بأنّه الارتفاع المتزايد في أسعار السلع والخدمات، بما في ذلك أسعار السكن واللباس والغذاء والوقود، وما يترتّب على ذلك من تدهور في القوّة الشرائيّة للنقود. وقد ينتُج التضخّم من عوامل عدّة، أبرزها زيادة العرض النقدي (Money Supply)، أو ارتفاع تكاليف الإنتاج، أو انخفاض قيمة العملة، فضلاً عن توقّعات التضخّم، والتي هي بمثابة نبوءة ذاتيّة التحقّق. ولعلّه من البديهي القول إنّ هذه العوامل كلّها تتوافر في الحالة اللبنانيّة.
تعتبر النظريّة النقديّة الكلاسيكيّة - مثلاً - في تفسيرها للتضخّم، أنّ هناك علاقةً وثيقة بين الكتلة النقديّة (أو كميّة النقود) والتضخّم، إذ إنّ التزايد الجليّ في كميّة النقود يُعدّ من الأسباب الرئيسة للارتفاع في المستوى العام للأسعار على المدييْن المتوسّط والطويل. ومن أبرز المؤشّرات التي تقيس العرض النقديّ «مؤشّر المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة» (M1)، والذي يشمل إجمالي النقود الورقيّة المتداولة في الأسواق، والودائع المصرفيّة غبّ الطلب، بالإضافة إلى الودائع المتوفّرة غبّ الطلب للمصارف التجاريّة في مصرف لبنان. وهو يستثني الودائع المجمّدة وحسابات الادّخار. وهكذا، فإنّ حجم الكتلة النقديّة يُؤثّر تلقائيّاً في مستوى التضخّم، ويُحدّد أيضاً حجم النقد المتوفّر لشراء العملات الصعبة كالدولار، ما يجعله عاملاً مؤثّراً في مدى الضغط على سعر الصرف.
واللّافت في هذا الأمر التحوّلات الملحوظة في بنية الكتلة النقديّة في لبنان على مدار الأشهر والأسابيع الماضية، والتي تعكس الإجراءات النقديّة التي يعتمدها مصرف لبنان في ظلّ الأزمة المزدوجة. فقد ارتفع المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة (M1) بشكلٍ بارز في عامي 2019 و2020، وأتى الارتفاع مصحوباً بزيادة (في المعدّل) في المستوى العام للأسعار خلال الفترة نفسها (انظر الرسم البيانيّ).


لقد اتّسعت السيولة الجاهزة بالليرة M1 بقيمة 10457 مليار ليرة خلال الفترة الممتدّة بين كانون الثاني 2019 ونيسان 2020؛ أي بمعدّل 99%. ويعود ذلك إلى ارتفاع حجم النقد المتداول وحجم الودائع تحت الطلب. وفي الفترة الممتدّة بين 21 شباط وحتى شهر نيسان، أي منذ اكتشاف أوّل حالة إصابة بفيروس كورونا في لبنان، اتّسعت الكتلة النقديّة بمعدّل 12.67%. إن دلّ هذا التوسّع على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ معدّلات التضخّم هي في ارتفاع متزايد. وكما كان مُتوقّعاً، فقد ارتفعت الأسعار بمعدل نمو تجاوز 10% خلال السنة الماضية، وهي لا تزال في ارتفاع مستمرّ إلى درجة أنّ شرائح اجتماعية معيّنة من المجتمع اللبناني باتت مضطرّة إلى إلغاء طبق «الفتوش» البسيط من مائدة الطعام نظراً إلى الارتفاع الجنوني في أسعار الخضار اللازمة لإعداده، الأمر الذي يُعدّ سابقة في لبنان، ولا سيّما في شهر رمضان المبارك.

دور السياسة النقديّة في لبنان
من خلال أنظمة سعر الصرف الثابت في الماضي، يهدف البنك المركزي إلى تأمين استقرار العملة من خلال التداول بالعملات الأجنبيّة والمحليّة بناء على سعر الصرف المحدّد. أمّا في حالة مصرف لبنان اليوم، فقد استنفدت الاحتياطيّات بالعملات الأجنبيّة، ولم تعد السياسة النقديّة التقليديّة قابلة للاستمرار. وبالتالي، فإنّ أيّ زيادة في المعروض النقديّ ستؤدّي حتماً إلى التضخّم. وها نحن نشعر بتداعياته اليوم.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى تعميمَي مصرف لبنان الأخيرين والموجّهين للمصارف (148) (151) اللذين ينصّان على إجراءات استثنائيّة تتعلّق بالسحوبات النقديّة من حسابات المودعين، وخصوصاً بالعملات الأجنبية. وبموجبهما يتوجّب على المصارف (شرط موافقة العميل المعنيّ) تسديد ما يوازي قيمة السحوبات بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق الذي تحدّده المصارف، والذي تقلّ قيمته عن سعر الصرف المتداول في سوق الصرف الموازي. ويرى كثيرون أنّ هذين القرارين من شأنهما أن يخلقا كتلاً نقديّة تزيد التضخّم، وتُفاقم الانهيار الحاصل للعملة، فضلاً عن أنّهما يشكّلان نوعاً من «هيركات» عكسي يطال الحسابات الصغيرة والمتوسّطة والأجور بالعملة الصعبة.
اتّسعت السيولة الجاهزة بالليرة بقيمة 10457 مليار ليرة وبما نسبته 99% بين كانون الثاني 2019 ونيسان 2020 بسبب ارتفاع حجم النقد المتداول وحجم الودائع تحت الطلب


بناءً على هذه الأدلّة التجريبيّة، وانطلاقاً من معايير الشفافية والمساءلة والمحاسبة، تبرز أمامنا الضرورة القصوى للتداعي إلى نقاش معياري حول جدوى السياسات النقديّة المتّبعة من قِبل مصرف لبنان في سياق الأزمة المزدوجة. فقد بات معلوماً لدى الأشخاص العاديين وذوي الاختصاص أنّ السياسة النقديّة المعتمدة لم تُحسِن إدارة الأزمة في الشقّين المتعلّقين بانهيار سعر الصرف في السوق الموازي من جهة، والتضخّم الماليّ من جهة أخرى، ناهيك عن هروب رساميل كبيرة بالدولار في أعقاب التعاميم التي كرّست القيود والضوابط الاستنسابية (Discretionary Capital Controls)، والتي لا تزال المصارف تمارسها على عمليات السحب والتحويل رغم أنّ مصرف لبنان قادر على الحدّ من مقدار هذه الأنشطة.
لهذا كلّه تطرح الأسئلة التالية نفسها بقوّة: ما العائق أمام لجم الفلتان الجنوني لسعر الدولار؟ من يحدّد سعر الصرف في السوق؟ ما فائدة التعاميم الأساسيّة التي تؤدّي إلى توسيع الكتلة النقديّة وتفاقم التضخّم المالي في خِضمّ الأزمة المزدوجة؟ ما هي القنوات التي هربت من خلالها الودائع الكبيرة، ولا سيّما الـ5.7 مليار دولار التي حُوّلت إلى الخارج عبر المصارف اللبنانيّة خلال شهري كانون الثاني وشباط من عام 2020، كما جاء على لسان رئيس الحكومة حسان دياب؟ من هي الجهات التي استفادت من التحويلات إلى الخارج ومن تعاميم «المركزي»، وخصوصاً التعاميم الأحاديّة التي أُقرّت من دون الرجوع إلى السُلطة التنفيذيّة؟

نفاد الحلول التقنيّة
يقال: لربّما استُنزِفت السياسة النقديّة، ووَصلت، أو تكاد، إلى حدودها القصوى مع «الاختفاء» المتواصل في احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. ويقال أيضاً: لربّما حان الوقت لتقوم الحكومة اللبنانية بالإنفاق على مستلزمات العيش الكريم للشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة. على أنّ ذلك كلّه، لا يحجب الحاجة الماسّة إلى ضرورة العمل السياسي الرامي إلى معالجة الأسباب التي ساهمت، ولا تزال، في تفاقم أزمة التضخّم وغيرها من الأزمات الاقتصاديّة. وعلى الحكومة اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أن تتّخذ إجراءات فوريّة بهذا الصدد أوّلها الاستيراد المباشر للسلع الأساسيّة من غذاء ودواء ووقود، بالإضافة إلى إقرار «خطّة التحفيز والأمان الاجتماعي» وقيمتها 1200 مليار ليرة لبنانية، الرامية إلى دعم القطاع الصحّي في مواجهة فيروس «كورونا»، ومساعدة ذوي الدخل المحدود في القطاع العام، وتحفيز الأنشطة الزراعيّة والصناعيّة للعبور إلى اقتصاد أكثر إنتاجية. ويتعيّن على الحكومة أيضاً اتّخاذ القرار السياسي الحازم لمواجهة الكارتيلات والاحتكارات في أسواق السلع الأساسيّة، لأنّه ليس هناك مبرّر لارتفاع أسعار السلع والبضائع بهذا الشكل الاستغلالي الخطير، وخصوصاً في ظلّ ما نعانيه من هذه الأزمة المزدوجة.
أخيراً وليس آخراً، لقد آن الأوان لتفعيل الرقابة على حركة النقد، ومساءلة صانعي السياسات الاقتصاديّة، ولا سيّما النقديّة منها، حتى إن استدعى ذلك مواجهة قاسية مع من استفاد من الضبابية المريبة في أداء كبار المسؤولين النقديّين والاقتصاديّين إزاء التضخّم المالي وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة. فلتكن هذه الإجراءات وغيرها مدخلاً جدّياً لملاحقة المرتكبين، ولاسترداد الأموال المنهوبة من المال العام.

* أستاذ جامعي في علم الاقتصاد