مستقبل لبنان يرتكز إلى دور فعّال للقطاع المصرفي بغير شكله الحالي. حالياً هو قطاع لا إرادة له ولا قدرة على مشاركة حقيقية في إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وتحويله من ريعي إلى إنتاجي، بل هو عرّاب الريع المتفشّي، والفساد في الطبقة السياسية الحاكمة منذ 1993، ومساهم أساسي في تكريس اقتصاد طفيلي يزيد الفجوات بين مكوّنات الشعب وبين المناطق. بهذا المعنى هو عبء على مستقبل لبنان، ما يفرض مراجعة جذريّة خاصّة نحو حلّ بنيوي يترجَم أوّلاً في تطهير رأس الهرم أي في طاقم مصرف لبنان بعد المساءلة والمحاسبة، وفي إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر تأسيس مصارف رسمية متخصّصة لتمويل القطاعات الإنتاجية، وتأميم المصارف التي أساءت الأمانة واستفادت من الهندسات المالية أو روّجت لثقافة الريع. نتصوّر قطاعاً مصرفياً يكون ثلثاه بيد القطاع العام لجهة الملكية والودائع والتوظيفات، والثلث الأخير بيد القطاع الخاص.
أدوار تتجاوز النيوليبرالية
سلوك المسؤولين عن النظام المصرفي دليل على مواصلة نهج غير مقبول أخلاقياً واقتصادياً وسياسياً. فالأزمة في لبنان، والأزمة العالمية أيضاً، تفرضان إعادة النظر في مبادئ القطاع المصرفي ودوره الحقيقي بدلاً مما يقوم به اليوم بسبب تلازم السياسات النيوليبرالية في العالم والفساد المتجذّر بين النخب الحاكمة في لبنان والخارج. يثير هذا التوجّه عدداً من الأسئلة: ما هو دور المصرف في الاقتصاد الوطني؟
هناك موروث فكري تراكم في الجامعات الغربية وانتشر حول العالم بسبب الهيمنة الاستعمارية السياسية والاقتصادية واحتلال العقول لدى النخب الحاكمة والطامحة للحكم. هذا التراكم بالنسبة إلى المصارف، يتمحور حول التطوّر التاريخي لدور النظام المصرفي الذي كرّس أربع وظائف أساسية:
- الوظيفة الأولى: مودع الأمان. المواطن يضع مدّخراته في أمانة المصرف استناداً إلى الثقة بإمكانية استرجاع أمواله متى يشاء، أو عند الاستحقاق. عامل الثقة بنزاهة المصرف هو الأساس الذي فُقد اليوم بسبب سوء ائتمان المصارف وسوء إداراتها فضلاً عن عنجهية التعامل مع المودع الصغير.
- الوظيفة الثانية: الوساطة بين المودع والمقترض. هو دور مبنيّ على فرضية أن المصرف يقدّم خدمة تمويل القطاع الإنتاجي. هذه الوظيفة تمّ تحريفها في المصرف المعاصر لأغراض المضاربة المالية وجني الريع والثروة. وفي لبنان، استُعملت الودائع لشراء سندات الخزينة لحساب المصارف مقابل إعطاء المودعين فائدة أقل من فائدة السندات على أن يتحوّل الفرق بين الفائدتين إلى أرباح صافية للمصرف. حالياً تعثّرت الحكومة في تسديد سندات الخزينة وأصبحت الودائع في خبر كان.
- الوظيفة الثالثة: «خلق» الكتلة النقدية. هناك حاجة للنظام المصرفي برمته من أجل خلق هذه الكتلة النقدية المكوّنة أساساً من: النقود المطبوعة، والودائع قصيرة الأجل القابلة للتسييل والصرف في أيّ لحظة علماً بأن نسبة الودائع القصيرة الأجل هي الأكبر. هنا تكمن المشكلة لأنّ القطاع المصرفي يسيطر على هذه الودائع رغم الحقّ الحصري للدولة في طباعة النقود. لا الدولة قادرة على التحكّم بالعملية، ولا الكتلة النقدية خاضعة بالضرورة لتوجّهات الدولة. هذا انتقاص جوهري من سيادة الدولة على حصرية إصدار النقد. النظام المصرفي بأكمله، أصبح شريكاً فعلياً وأساسياً في خلق الكتلة النقدية، فإذا كان في قبضة القطاع الخاص سيحدّد هذا الأخير حجم الكتلة النقدية وأين تذهب. أما إذا كان القطاع المصرفي الخاص خاضعاً لتبعيّة خارجية، فتصبح الكتلة النقدية المحلّية تحت تأثير الخارج. هذا ليس انتقاصاً للسيادة فقط، بل خرق للأمن الوطني.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

تملك الدولة وسائل لكبح هذا الدور عبر رفع نسبة الاحتياط الإلزامي لكلّ وديعة، أو تعديل نسبة حسم السندات التجارية والمالية، أو «توجيه» المصارف للتوظيف في قطاعات محدّدة. نسبة الاحتياط هي أقوى سلاح بينها. إذا كان الاحتياط الإلزامي 10%، فالوديعة تخلق كتلة ودائع قصيرة الأجل توازي قيمتها الأصلية 10 أضعاف (أي وديعة بقيمة 100 تخلق كتلة ودائع بقيمة 1000). أما إذا ارتفعت نسبة الاحتياط إلى 20%، فتصبح القدرة على خلق كتلة ودائع قصيرة الأجل خمسة أضعاف فقط (أي وديعة أصليّة قيمتها 100 تخلق ودائع قصيرة الأجل قيمتها 500). لذا، إنّ رفع نسبة الاحتياط يحدّ من نسبة خلق الودائع، إلّا أنه لا يوقف الزيادة في حجم الكتلة النقدية. لو كان القطاع المصرفي ملكاً للدولة، بشكل كامل أو جزئي، عندها يصبح خلق الكتلة النقدية تحت سيطرة الدولة. لا نرى المشكلة إلّا في صيحات الليبراليين والمدافعين عن اقتصاد يزعمون أنه حرّ بذرائع مختلفة مثل خنق الاقتصاد وقتل المبادرة...
- الوظيفة الرابعة: يقوم المصرف بدور إضافيّ لجهة كفاية إدارة المشاريع. هذا يتطلّب تفاعلاً أكبر مع المودعين، بينما تتمحور الثقافة المصرفية في المصارف الحديثة، حول تقليص العلاقة الشخصية والاكتفاء بمعايير جافّة ليصبح المصرف في خدمة أولئك الذين يلبّون «الشروط الموضوعية» بعيداً عن الاعتبارات الإنسانية التي قد تبدو للبعض نوعاً من الطوباوية، فيما هي، يقيناً، بناء الثقة بين المصرف والمودع والمقترض.

تعديل موازين القوّة
في لبنان، حتى الالتزام القانوني البديهي بالحفاظ على الوديعة غير قائم. المصارف ترى نفسها فوق هذه الاعتبارات بدعم من المؤسّسة الحكومية الموكلة حماية أموال الناس. من سخرية الدهر، أن القيّمين على هذه المؤسسات يعتبرون أنفسهم نيوليبراليين، ويخونون جوهر الفكر النيوليبرالي الذي يسعى للحفاظ على الملكية الخاصة. يبدو أن الملكية الخاصة لا تشمل المواطنين، بل أصحاب المصارف وشركاءهم من المودعين الكبار على حساب الآخرين.
نجاح أيّ مصرف أو نظام مصرفي، يعتمد على الثقة المكتسَبة من الشعب عموماً، ومن المودعين والمستثمرين خصوصاً. هي ثقة مبنية على الجدارة والكفاءة في إدارة المحفظة الماليّة. لكن النظام المصرفي في لبنان فَقَدَ ثقة المواطنين والمستثمرين. أساء الائتمان، وأساء إبراز الجدارة والكفاءة برضى، إن لم نقل بتشجيع، الهيئة الموكلة بمراقبة أعماله، أي المصرف المركزي. الثقة تُكسب ولا تُعطى مجّاناً وإذا خسر أحد الأطراف ثقة الآخرين تصعب استعادتها. النظام المصرفي اللبناني خسر هذه الثقة، فيما يدلّ سلوك المصرفيين على أنهم تجاوزوا هذه الثقة واكتفوا بميزان قوّة اعتقدوا أنه لمصلحتهم يقوم على الابتزاز: شروط المصارف أو الجحيم المالي!
هكذا يصبح السؤال المركزي: كيف يمكن إعادة الثقة؟ إعادة الثقة، تبدأ بتطهير رأس الهرم من عدم الكفاءة والفساد. يتطلب الأمر حاكم مصرف مركزي ومجلساً مركزياً جديدَين من ذوي الكفاءة والنزاهة والاستقلالية عن القوى السياسية. فما هي معايير الكفاءة والاستقلالية عن القوى السياسية؟ أهمها، إن رجل المال لا يصلح لإدارة الشأن النقدي مهما علت كفاءته. فمَنْ عمل وسيطاً مالياً في مؤسسة وطنية أو دوليّة، ليس مؤهّلاً لإدارة الشأن النقدي بسبب ميله الطبيعي للتساهل مع المؤسسات التي يأتي منها. المنصب بطبيعته مؤقت وسط احتمال كبير لعودته إلى القطاع المالي، لذا لن يكون تصادمياً مع المصارف التي يراقبها. الكفاءة تكمن في أشخاص لديهم خبرة في إدارة الشأن العام مع معرفة عميقة للاقتصاد وعالم المال. قد يكون حقوقي المنشأ، وقد يكون آتياً من الإدارة العامة، وقد يكون أكاديمياً متميّزاً في أدائه ومقارباته.
بعد التطهير، تأتي الاستقلالية؛ استقلالية المصرف المركزي عن الحكومة وسياساتها، واستقلالية مسؤولي المصرف المركزي عن القوى السياسية. بالنسبة إلى الشق الأوّل، هناك مدرستان: واحدة ترى أن المصرف المركزي وسياساته النقدية مستقلّة عن توجّهات الحكومة. وثانية تقول إن السياسة النقدية يجب أن تكون منسجمة مع السياسة الماليّة للحكومة (إنفاق الخزينة ومداخيلها ربطاً برؤية تنموية اقتصادية واجتماعية وبيئية). فهل بالإمكان التوافق بين المدرستَين؟ نظرياً يمكن ذلك، لكن الأمر يعتمد على عوامل بعضها ذاتي متّصل بشخصية المسؤولين في الحكومة والمصرف، وعوامل موضوعية؛ ففي حال وجود مشروع تنموي طويل المدى يجب أن تتكامل السياسة النقدية مع توجّهات الحكومة. وفي حال تحقيق النهضة الاقتصادية يمكن أن يتم استقلالهما عن بعض بشرط توافقهما على خطوط عريضة للسياسات الاقتصادية والمالية مع هامش للتحرّك النقدي خارج الإطار المالي والعكس صحيح أيضاً. لذا، يجب أن يكون طاقم المصرف المركزي على بيّنة للتحكّم بالجرعات النقدية وفقاً لمقتضيات الظروف التي ستُملي ضخّ العملة أو سحبها من السوق. هناك مسافة طويلة تفصل لبنان عن التصادم بين الطرفين، إذ أولويته حالياً تكمن في وضع النظام المصرفي بخدمة التنمية وليس بخدمة النموّ فقط.

معايير إعادة الهيكلة
هناك خيار واضح لإعادة تركيبة البنية المصرفيّة في لبنان: وضع اليد على المصارف بعد تغيير الطاقم الحاكم في مصرف لبنان اليوم قبل غداً، على أن الريادة يجب أن تكون للدولة في ملكية القطاع المصرفي التجاري.
معظم الودائع في القطاع المصرفي «تبخّرت». هذا يفرض على الحكومة، وبمعزل عن الحساسيات السياسية الداخلية والخارجية تغيير طاقم حاكمية مصرف لبنان. الوضع استثنائي ويتطلّب إجراءات استثنائية. مصرف لبنان يحمل كمّيات كبيرة من سندات الخزينة المصنّفة أصولاً في ميزانيته كأنه خارج الدولة. حتى لو كان يجوز له حمل السندات، فهو يعرف قيمتها وقدرة الدولة على تسديدها، ويعلم أن المصارف كانت تستعمل ودائع المودعين لتمويل دولة مفلسة.
ويمكن الدولة إنشاء سبعة مصارف تملكها كاملة، أو بأكثرية، وتكون قطاعية: مصرف للتجارة العامة، مصرف للصناعة، مصرف للزراعة، مصرف للسياحة، مصرف للإنشاء والإعمار، ومصرف للبيئة، ومصرف للتنمية العامة. في مقابل التحفّظات حول كفاءة القطاع العام، فإن المصارف المملوكة من القطاع الخاص كانت فاشلة ومسيئة للأمانة.
أما بالنسبة إلى المصارف التجارية، فلا بدّ من إعادة النظر في عددها وحجمها وملكيتها. لا مبرّر للعدد الحالي، علماً بأن المصارف لم تبرهن أنها قدّمت إضافات كمّية ونوعية للاقتصاد، بل كانت شريكة في عملية نهب مدروس للمال العام. كما أن معظمهما مصارف صغيرة الرساميل والودائع، ما يحتّم مراجعة جدواها الاقتصادي. يجب دمج بعضها وتصفية بعضها الآخر. إذا عزلنا مصدر الربح الأساسي للمصارف، أي سندات الخزينة يظهر انعدام جدوى كل هذا العدد.
إعادة الثقة بالنظام المصرفي تتطلب تغييراً في طاقم مصرف لبنان وإعادة هيكلة تؤول بنتيجتها ثلثا المصارف للدولة


هناك 5 مصارف في لبنان تسيطر على 75% من الودائع وهي مسؤولة بالدرجة الأولى عن «الشراكة» مع مصرف لبنان، في نهب المال العام والخاص. نعم، الطبقة السياسية والحكومات المتتالية منذ 1993 مسؤولة مباشرة، لكن المصارف هي الشريك «التنفيذي»، وخصوصاً تلك المرتبطة عضوياً برموز الطبقة السياسية. التعاطي مع هذه المصارف يتطلب قراراً سياسياً: الخيار المفضل هو تأميم المصارف التي استفادت من «الهندسة المالية» التي نفذها مصرف لبنان، وروّجت لثقافة الريع العائد من السندات ما يفرض مساءلتها ومحاسبتها. وهناك خيار الشراكة المختلطة بين الدولة والمالكين الحاليين، أو إدخال بعض المودعين الكبار إلى بنية الملكية، أو مزيج من الخيار الثاني والثالث.
هناك من يعتبر أن «وضع اليد» على المصارف والودائع هو «انقلاب» على هوية لبنان، بينما آخرون يحذّرون من «فقدان سمعة لبنان» في تسديد الديون... في المجمل الودائع باتت مرتبطة بالدين العام والمسؤولية الكبرى تقع على عاتق النظام المصرفي بأكمله والحكومات السابقة التي سببت الأزمة عن قصد وعمد. أما المودعون، فهم ليسوا كتلة واحدة جامدة. «المودعون الصغار» هو تقدير استنسابي لـ«الحجم» إذ لا أحد يملك معياراً موضوعياً متفقاً عليه لتحديد المودع الصغير. ثمة من يرى أن سقف 100 ألف دولار يفصل بين الصغار وسائر المودعين، بينما هناك مودعو طبقة وسطى قد تصل ودائعهم إلى مليون دولار، وهناك من سيّل موجودات ثابتة لديه وأودع قيمتها في المصارف بما يصل إلى 5 ملايين دولار. كذلك الأمر بالنسبة إلى صناديق التعاونيات والنقابات المهنية التي قد تقع ضمن تلك الفئات. على السلطات دراسة حجم الودائع وتاريخها ومصدرها. هذه المعلومات متوافرة مبدئياً في سجلّات المصارف. كذلك، هناك كبار المودعين الذين رفضوا ترحيل أموالهم إلى الخارج بعد انفجار الأزمة اعتباراً من 17 تشرين الأول. من الصعب التعامل معهم كسائر المودعين.
أما الذين استفادوا على مدى عقود من «سخاء» الفوائد الربوية التي أعطتها الخزينة اللبنانية، فهؤلاء يقعون في فئة حيتان المال والسياسة. هؤلاء شركاء مباشرون في جريمة نهب الخزينة العامة والاستفادة من الفوائد الربوية. ودائع هؤلاء قد تتحمّل العبء الأكبر من أي عملية هيكلة أو هندسة مالية.

* كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي