يعتبر فقدان الثقة أكبر خطر على النظام المالي عموماً والأكثر خطورة على الشأنين الاقتصادي والاجتماعي - المعيشي. فعندما تنهار الثقة بين شركاء الإنتاج والمصارف بسبب فقدان العملة الصعبة «الدولار»، ويفقد المواطنون ثقتهم بقدرة المصارف على تلبية الطلب على الدولار، وتعجز الدولة ممثّلة بمصرفها المركزي عن التدخّل في السوق للحفاظ على السعر، يدبّ الذعر وتُترك العملة الوطنية لتلاقي مصيرها في السوق السوداء. تتراجع قيمتها وسط جفاف السوق من الدولارات، ثم تبدأ السوق الموازية لدى الصرافين بالتحكّم بعملية التسعير. سرعان ما ترتفع أسعار السلع وينعكس ذلك سلباً على مداخيل المقيمين في لبنان في ظلّ انكفاء الدولة عن السيطرة على الوضع واستعادة التحّكم بالسعر. وإذا حاولت الدولة تخفيف انهيار سعر الليرة بقرارات إدارية كما فعل مصرف لبنان عندما ألزم الصرافين بصرف الدولار على سعر 2000 ليرة، عندها تنشط السوق الموازية الرديفة أو السوق السوداء التي تتشكّل من صرافين يعملون في الخفاء وأفراد يتبادلون العملات وشركات القطاع الخاص التي تضارب على الأسعار أيضاً.الأسباب التي قد تؤدّي إلى نشوء سوق سوداء للدولار في بلد ما هي على النحو الآتي:
- سعر صرف للعملة المحلية مثبّت من قبل الدولة بشكل غير واقعي.
- محدودية الاحتياطات بالعملات الأجنبية إلى جانب معدل مرتفع لتضخّم الأسعار.
- قيود على حركة العملات الأجنبية ما يؤدّي إلى صعوبة توافر العملات بين الأفراد والشركات.
- فقدان ثقة المواطن بقيمة العملة الوطنية.
كل هذه العوامل حاضرة في لبنان، ما جعل نشوء السوق السوداء أمراً حتمياً. هذا بالفعل ما حصل خلال الأشهر الخمسة الأخيرة بنتيجة بنية عمل النموذج الاقتصادي اللبناني وتراكم الأزمات فيه. وفيما كان الدين العام يتراكم، وتتآكل احتياطات مصرف لبنان بالدولار، وُلدت سوق موازية لسعر الصرف: سوق الصرافين. بمعنى آخر لم يعد سعر صرف الدولار مقابل الليرة ثابتاً وبدأ يتجاوز الحدود التي رسمها مصرف لبنان له. في البداية تجاوز سعر الـ1515 ليرة لكل دولار، ثم بلغ في الفترة الأخيرة 2700 ليرة مقابل الدولار. المضاربة على الليرة بدأت تصبح فعلاً يومياً في الحياة العامة. مصرف لبنان كان يغضّ النظر عن هذه المضاربات لأشهر وسط تأويلات لأهدافه: هل يريد تكريس سعر جديد في السوق الموازية قبل إعلان خفض قيمة الليرة بشكل رسمي؟ أي سعر يستهدف؟ لاحقاً، وبهدف تخفيف وقع انهيار سعر الصرف، عمد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الطلب من الصرافين الالتزام بسعر لا يتجاوز 2000 ليرة مقابل الدولار. التزام الصرافين كان لفترة أيام بسيطة امتنعوا خلالها عن عرض الدولار للبيع واستمرّوا بشرائه بسعر لا يتجاوز 2000 ليرة. الضغوط ازدادت بعد إعلان الحكومة إعادة هيكلة الدين وتعليق سداد سندات اليوروبوندز. عندها أصدر مصرف لبنان تعميماً يحدّد فيه السعر المقبول تداوله من قبل الصرافين بنسبة 30% فوق السعر الرسمي كحدّ أقصى، أي 2000 ليرة سعر الدولار الواحد. الصرافون أعادوا الكرة وامتنعوا عن عرض الدولار للبيع فيما نشطت السوق السوداء بشكل غير اعتيادي ليصبح السعر بين 2450 ليرة و2700 ليرة.
المفارقة أن السوق الأساسية للدولار في المصارف أصبحت حركتها شبه معدومة. غالبية التعاملات تحولت إلى السوق السوداء التي تتحكّم بالسعر الحقيقي للدولار. من يريد شراء أو بيع الدولارات يذهب إلى الصراف أو يبيعه عبر «الواتساب» لأعلى مزايد أو يشتري بأرخص سعر يجده.
ولأن المصارف التي تحترم، نظرياً، سعر الصرف الرسمي لم تعد تقدّم هذه الخدمة منذ مدّة طويلة، أصبح مستوردو السلع التي لا يعتبرها مصرف لبنان أساسية وهي ليست مشمولة بالتمويل من احتياطاته يشترون حاجتهم من الدولارات من السوق السوداء. وتسعير السلع المستوردة يكون على أساس سعر هذه السوق، لا على أساس السعر المحدّد من مصرف لبنان. هذا يعني أن كل السلع التي تقع خارج سلّة التمويل من مصرف لبنان المحدّدة بالقمح والدواء والمستلزمات الطبية والمحروقات، ارتفع سعرها. هي ضريبة على التصدير وضريبة على الاستهلاك لا تذهب إلى خزينة الدولة بل إلى جيوب المضاربين.
احتاجت تركيا إلى 9 سنوات من 1980 إلى 1989 للتخلّص التدريجي المبرمج من سعر الصرف الرسمي حتى وصلت إلى توحيد سعر الصرف


الفرق بين السعر المحدّد من مصرف لبنان وبين السعر في السوق السوداء يسمى «فرق القيمة الموازية». حالياً الفرق بينهما يبلغ 69% وهو يرتفع كلما زادت الدولة قيودها على حركة العملات الاجنبية مثل إجراءات مواجهة زيادة عجز ميزان المدفوعات. وهذا الأمر يشرح حركة السعر الموازي التصاعدية في لبنان على مدى الأشهر الماضية تزامناً مع زيادة الضوابط والقيود على حركة تحويل وسحب الدولار، بل يتوقع أن يرتفع هذا الفرق في المدى المنظور لأن الدولة ستحاول الحفاظ على الاحتياط القائم بالعملات الأجنبية لاستعماله للأمور المهمة.
وبحسب ورقة بحثية لـ«ميغيل كيغل» و«ستيفن أوكونيل» بعنوان «أسعار الصرف الموازية في الدول النامية»، نشرها البنك الدولي عام 1995، فإن معظم الدول التي وقعت في مشكلة أسواق الصرف الموازية والسوداء، قرّرت في نهاية الأمر توحيد سعر الصرف بين هذه الأسواق والسوق الرسمية. لكن الخيار، يتعلق بطريقة توحيد السعر. فعلى سبيل المثال، قرّرت فنزويلا في عام 1989 توحيد السعر من دون مقدّمات عبر آلية تعويم مفاجئة لسعر الصرف الرسمي بعد 6 سنوات على نشوء السوق الموازية. وقد جاء هذا التعويم بعدما وقعت الدولة في مشكلة كبيرة ناتجة من الاختلال الخطير في ميزان المدفوعات إذ كانت في نسبة الفرق في القمية الموازية قد بلغت 200%. حدث ذلك أيضاً في الأرجنتين في عام 1989. وكان السبب هو حصول أزمة تضخّم مفرط متفجّرة.
هذه الأمثلة تشير إلى أن توحيد السعر لا يصبح خياراً بسبب عدم الحاجة إلى سوقين، بل لأن وجود السوقين لم يعد نافعاً لغاياته في عزل احتياطات البلد بالعملات الأجنبية عن أزمة ميزان المدفوعات وحماية الأسعار من التضخّم المفاجئ. في هذه الحالة لا يعود هناك ضرورة للحفاظ على سعر رسمي ثابت.
هناك مثال آخر في تركيا التي كانت تضع ضوابط واسعة على حركة العملة الصعبة وعلى الاستيراد. احتاجت تركيا إلى تسع سنوات من عام 1980 إلى عام 1989 للتخلص التدريجي المبرمج من سعر الصرف الرسمي، حتى وصلت في آخر المراحل لتوحيد سعر الصرف وتحرير الاستيراد.
بالنسبة إلى لبنان، فمن الأجدى عدم تعويم سعر الصرف مرّة واحدة. بل على الدولة أن تفرض ضوابط على الاستيراد أولاً، حتى يكون الاستيراد مدروساً بحسب حاجة السوق كماً ونوعاً. بعد ذلك يبدأ تحضير البرنامج المدروس الطويل الأمد لتعويم سعر الصرف تدريجاً مع تطبيق سياسات اقتصادية يمكنها تقوية العملة المحلية (من خلال دعم الإنتاج) بالإضافة إلى وضع سياسات ماليّة ونقديّة ملائمة. حينها سيتلاقى السعران عند سعر واحد موحّد بصورة تلقائية.