إن مأزق النيوليبرالية يكمن في جذوره الفكرية والتناقضات الداخلية وبين تطبيق المبادئ والممارسة، رغم صعوبة تحديد ملامح الدولة النيوليبراية. هذه الدولة تجسّد ذلك المأزق، إذ إنه يصعب تحديد ملامحها لأن الظروف المحيطة بها تختلف في المكان والزمان. هذا ما أشار إليه الباحث الاقتصادي دافيد هارفي وهو أحد أبرز الناقدين للفكر النيوليبرالي في الولايات المتحدة. وهو يعتبر أن الانحراف عن المفاهيم الأساسية للفكر النيوليبرالي سرعان ما تظهر في الدولة النيوليبرالية بسبب تناقضات داخلية وبسبب ظروف خاصة بالدولة. وبما أن الواقع يفرض إمّا التكيّف معه، أو السقوط، فإن دينامية التطوّر النيوليبرالي جعلت التكيّف مع الواقع المتنوّع ممكناً. لذا يصعب تحديد شكل الدولة النيوليبرالية في قالب محدّد، بل هناك قوالب عديدة تلبسها الدولة النيوليبرالية.ورغم صعوبة تحديد الشكل السياسي للدولة النيوليبرالية، إلا أن جميع أشكالها تتفق على ضرورة إنشاء البيئة الملائمة للاستثمار. هذا يتطلّب حكم القانون والاستقرار السياسي من دون المساس بالتركيبة الطبقية. لكن الواضح أن الدولة النيوليبرالية منحازة ضد طبقة العمّال، سواء كانوا في معامل أو في الآلة الإنتاجية أو في قطاع الخدمات الذي لا يسهّل قيام تجمّعات عمّالية. وبالتالي تقف النيوليبرالية إلى جانب كل ما يدعم المناخ الاستثماري وإن كان على حساب حقوق المجموعات (أي النقابات والتجمّعات العمّالية) وحتى على حساب البيئة. أيضاً هناك الانحياز المطلق للنظام المالي القائم وتأمين ملاءته مهما كان الثمن. من هنا، نفهم تدخل حكومة بوش الابن في آخر ولايته الثانية إبان الأزمة المالية التي عصفت بالأسواق المالية في الولايات المتحدة وفي العالم بسبب انهيار منظومة الرهونات العقارية. كما أن الرئيس المنتخب بعده، أي باراك أوباما، التزم بتعويم المصارف عبر ضخّ الأموال فيها. هنا يبرز تناقض واضح. فالنيوليبرالية تزعم أن السوق يصحّح نفسه والأخطاء التي ارتُكبت، بينما نرى الدولة التي تدّعي أنها نيوليبرالية تتدخل في السوق لمنع الانهيار بحجج واهية كحجم المؤسسات المصابة بعجز مالي التي لا يسمح لها بالانهيار بسبب التداعيات على الأسواق والاقتصاد، وذلك دون تحديد كيف ولماذا!

أنجل بوليغان ــ المكسيك

الغريب هنا هو أن الداروينية تفسّر أن البقاء هو للأقوى الذي يستطيع أن يتكيّف مع الظروف الجديدة التي تفرضها التطوّرات. بينما نرى في الداروينية النيوليبرالية أن الأقوى يحتاج إلى حماية الدولة وإن كان على حساب المواطن أو البيئة. السوق قد يكافئ الأفضل إذا التزم بالقيود المنظّمة التي لا يريدها النيوليبرالي، فتغييب القيود المنظّمة يؤدّي إلى التوحّش، والتوحّش يؤدّي إلى إقصاء الآخرين تحت راية التنافس. فالنيوليبرالية هي إطار فكري لحماية طبقة جديدة من المتموّلين الذين ليسوا بالضرورة من الذين يساهمون في الاقتصاد الوطني، بل في التراكم الرأس المالي النقدي والمالي وإن كان في الأساس مبنياً على المضاربة والصفقة غير المرتبطة بواقع اقتصادي ملموس. الثروات الافتراضية الرقمية أصبحت أساس المقياس للنجاح أو الفشل. غير أن النجاح قد يكون افتراضياً، بينما الانكشاف الفعلي يكون مادياً وحقيقياً وقد يطيح كل شيء.
فاشتعال البورصة في نيويورك يعود إلى ضخّ الكمّيات الهائلة من النقد لشراء الأسهم. أحد مصادر هذه السيولة، المصارف التي استولت على ودائع المودعين وبدأت المضاربات المالية (الأزمة المصرفية في لبنان مثل آخر عن ذلك وإن لم يكن هناك قانون في الأساس يمنع المصارف من استعمال أموال المودعين في سندات الخزينة وإن كانوا على علم بعدم قدرة الدولة على التسديد). حتى آخر التسعينيات، كانت تلك المضاربات المستندة إلى أموال المودعين ممنوعة. فأحد «إنجازات» الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون كانت في إلغاء قانون ستيغال غلاس الذي وضع عام 1933 أي في بداية عهد فرانكلين روزفلت والذي يفصل بين نشاطات الاستثمار المالي والنشاطات المالية العادية المستندة إلى أموال المودعين. غير أنه في سنة 1999 أقدم الرئيس الأميركي كلينتون على مطالبة الكونغرس بإلغاء ذلك القانون لإطلاق اليد للمؤسسات المالية في التصرّف بأموال المودعين. فكانت المضاربات المالية بشكل عام وتلك المتعلّقة بالرهونات العقارية بشكل خاص، والتي كادت تطيح النظام المصرفي والمالي في الولايات المتحدة وذلك بعد أقل من عشر سنوات من إلغاء قانون ستيغل غلاس.
اللافت للنظر أن الطبقة الحاكمة النيوليبرالية لم تستوعب دروس انهيار 2008. فلا تزال تمارس السياسة النقدية نفسها عبر ضخ كمّيات هائلة من السيولة في الأسواق المالية لتحفيز العجلة الاقتصادية نظرياً. لكن هذه الأموال لا تستغلّها الشركات الكبرى للمزيد من الاستثمارات والإبداع، بل لشراء أسهمها لرفع قيمتها لأن في ذلك منفعة مباشرة لمديري الشركات والمساهمين، وإن لم يكن ذلك الارتفاع متلازماً مع تحسّن في أداء الشركة. فمن جهة، نرى تباطؤاً في النمو الاقتصادي الفعلي، بينما نرى الأسواق المالية والبورصات تشتعل. بل ربما تفاقم الوضع حيث حجم المضاربات المالية أدّى إلى انكشاف خطر للغاية ليس فقط على الولايات المتحدة بل على العالم أجمع.
فانكشاف أكبر خمس مؤسسات مالية أميركية (جي. بي. مورغن، مجموعة سيتي غروب، غولدمان ساكس، بنك أوف أميركا، مورغان ستانلي، وولز فارغو) قد يصل بسبب حجم العقود المبرمة وغير المسنودة إلى أكثر من 476 تريليون دولار حسب التقديرات، بينما بعضها يصل إلى 1،2 كوادرليون دولار (15 صفراً بعد الواحد!). أما الخسائر فيصعب تقديرها بدقة بسبب الحجم وبسبب الانكشاف الناتج من المضاربات المالية في المشتقات المالية (derivatives) وهي تفوق قدرات السلطات النقدية المعنية في الولايات المتحدة والعالم أجمع. فإن لم تتداركها السلطات المعنية، أي الاحتياط المركزي ووزارة الخزينة والمسؤولون الماليون في المؤسسات المالية، فإن الانهيار سيكون شاملاً!
في المقابل، إن حجم الأصول المالية لتلك المؤسسات لا يتجاوز 10.2 تريليونات دولار لعام 2015، أي المطلوبات تفوق بأضعاف الموجودات أو الأصول المالية. أما في ما يتعلق بأرقام عام 2019-2020 فقد تكون أضعاف الأرقام المذكورة بسبب الارتفاع الجنوني لحجم المداولات المالية في الأسواق المالية العالمية! وإضافة إلى ذلك الانكشاف، يجب أن نلفت النظر إلى حجم الدين العام الأميركي الذي تجاوز 23 تريليون دولار لعام 2019 وقد يصل إلى 31 تريليون دولار في آخر 2030. أما الدين الخاص فيفوق الدين العام حيث وصل في 2019 إلى 27 تريليون دولار. لذلك تعيش الولايات المتحدة على وتيرة دين عام وخاص يصعب عليها تسديده وذلك بسبب السياسات النيوليبرالية. النيوليبرالية تأكل أولادها!
من ضمن تناقضات الدولة الليبرالية سياسات تتبعها الدول التي تدّعي حماية التجارة الدولية الحرّة، لكنّها لا تخجل في وضع قيود وتعريفات جمركية لحماية تجارتها الوطنية! هكذا فعل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لتحسين حظوظ نجاحه في الانتخابات، وهكذا فعل ترامب تنفيذاً لوعوده الانتخابية بحماية الصناعة الوطنية. وهكذا نفهم الحرب التجارية مع الصين والقيود المتبادلة بين الدولتين اللتين تدّعيان اتباع سياسات نيوليبرالية.
بعض التناقضات بين المبادئ والتطبيق تعود إلى ما يُسمّى بالاحتكاكات الناتجة من مراحل انتقالية في النظم الحاكمة. ففي دول أوروبا الشرقية في مطلع التسعينيات، انتقلت الدول الأوروبية من النظام الاقتصادي الموجّة إلى نظام اقتصاد السوق حيث جرت خصخصة المرافق العامة بوتيرة سريعة جدّاً أدّت إلى خلق احتكارات وأوليغارشيات كبيرة وارتدادات اجتماعية لا تزال قائمة حتى الساعة. في المقابل، الدول الاسكندينافية التي تتبع سياسات نيوليبرالية أخرجت من اقتصادات السوق عدداً من المرافق العامة كالتربية والصحة والإسكان على أساس أن الحاجات الإنسانية الأساسية لا يمكن للسوق أن يكون المدخل لها. فالسوق يقلّص إمكانية الاستفادة بسبب القدرة الاقتصادية والمالية للمواطن المستهلك في حال خصخصتها، بينما الدولة تؤمّن تلك الخدمات متجاوزة محدودية الإمكانيات الفردية. هكذا كان الوضع في المملكة المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مارغريت تاتشر غيّرت كل ذلك، بينما استطاعت السويد مقاومة تلك النزعة. أما دول آسيا كسنغافورة والصين فاتبعت استخدام القطاع العام لتقديم تلك الخدمات عبر التخطيط المركزي والتعاون الوثيق مع الشركات المحلّية والمتعدّدة الجنسية. هنا مرّة أخرى، نرى قوّامة السياسة على الاقتصاد خلافاً لما ادّعى به المفكّرون النيوليبراليون الذين نظّروا لقوّامة الاقتصاد على السياسة.
الطبقة الحاكمة النيوليبرالية لم تستوعب دروس انهيار 2008 ولا تزال تمارس السياسة النقدية نفسها عبر ضخ كمّيات هائلة من السيولة في الأسواق المالية لتحفيز العجلة الاقتصادية نظرياً


تدخّل الدولة في العجلة الاقتصادية وفي تقديم الخدمات العامة قد لا يتناقض مع حيثيات خلق البيئة الملائمة للاستثمار خلافاً لما يدّعي النيوليبراليون. فعبر التخطيط يمكن إيجاد البيئة الملائمة لمناخ تنافسي ولاستقرار في السياسة وفي السوق. البنى التحتية على سبيل المثال لا يبنيها القطاع الخاص لارتفاع كلفتها ولانخفاض مردودها المالي في وقت قصير، بينما هي ضرورة حيوية لخلق البيئة التنافسية المطلوبة. الخصخصة التي تأتي لاحقاً، لا تعقلن بالضرورة إدارة تلك المرافق، بل في معظم الأحيان تخلق احتكارات في القطاع الخاص وعلى حساب جودة الخدمة وكلفتها. غاية الربح فوق أي اعتبار، وهنا تكمن الخطورة. أشرنا سابقاً إلى مقولة ميلتون فريدمان أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة لدى رئيس الشركة هي تأمين ربح المساهمين والمستثمرين وليس المجتمع. كما أن تصريح رئيس شركة بوينغ بأن سلامة المسافرين ليست هدفاً قائماً بحدّ ذاته، بل لتأمين تدفق المداخيل والأرباح للمساهمين! هذا دليل في رأينا على الادعاءات الكاذبة لذلك النوع من التنظير الفكري الذي يدّعي الكفاءة والتصحيح التلقائي في الأسواق، لكنه في آخر المطاف ليس إلا داروينية اقتصادية مالية قاتلة.
هذه الداروينية تخلق طبقة مسيطرة على الاقتصاد كما على المال، سواء كان خاصاً أو عاماً. التمركز المالي في المصارف الأميركية وصل إلى عدد من المؤسسات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ففي عام 1960 كان عدد المصارف المستقلّة بحدود 13 ألف مصرف. أما في 2018 فهناك خمسة مصارف فقظ تملك ما يوازي 75%من الأصول المالية (غولدمان ساكس، مجموعة ج. ب. مورغان - شيز، بنك أوف أميركا، مجموعة سيتي غروب، ولز فارغو، بانك كورب). وهذه المؤسسات تملكها أربع مؤسسات فقط (فانغرد غروب، ستيت ستريت كوربوريشن، بلاك روك، أف-ام-ار) وتسيطر بشكل مباشر على النظام المالي والنقدي في الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، هناك تمركز للإعلام. ففي سنة 1984، أكثر من خمسين مؤسسة كانت تملك 90%من الإعلام الأميركي، أما في عام 2019 فعدد المؤسسات التي تملك 90%من الإعلام، أي آلاف الصحف والمجلاّت، ومحطّات الراديو والتلفزيون وحتى استديوات السينما فهي لا تتجاوز عدد الأصابع كجنرال إلكتريك، سي. بي. أس، فياكوم، ديزني، نيوزكورب، تايم وارنر (هناك احتمال دمج بعض المؤسسات ليصبح العدد خمساً). وهذه المؤسسات من ملكية 15 مليارديراً أميركياً فقط لا غير! وحوالي 232 مسؤولاً تنفيذياً ينقلون المعلومات لحوالي 280 مليون مواطن أميركي.
أضف أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها شركتان أو ثلاث (فيسبوك، غوغل، بي أن). فشركة فيسبوك تملك: واتساب، تويتر، انستغرام، سنابشوت، الخ. بمعنى آخر، تستطيع هذه الشركات أن تقفل حسابات المشتركين بخدماتها متى شاءت دون أي مراجعة. هذا يعني أن الرأي العام الأميركي أصبح أسيراً وخاضعاً لمزاجية ومصالح الشركات التي تملك وسائل الإعلام ووسائل التواصل. كل ذلك حصل بسبب تفكيك القيود الناظمة والتي بدأت مع إدارة رونالد ريغان واستمرت مع بيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وبارك أوباما، ودونالد ترامب.
هذه بعض الأمثلة التي يمكن أن تشمل قطاعات عديدة وحيوية. والسؤال يصبح: كيف يمكن التوفيق في الادّعاء بأن النيوليبرالية تشجّع التنافس، بينما في حقيقة الأمر تمهّد للاحتكار وحكم المال أي البلوطوقراطية التي في معظم الأحيان تنتهي بحكم اللصوص أي الكلبتوقراطية كما يحصل في لبنان منذ بداية الحقبة الحريرية وحتى الساعة!
أحكام النيوليبرالية أدّت إلى توفير النمو المالي والاقتصادي عبر الاستدانة. نظرياً، الاستدانة مفيدة لأنها تشكّل رافعة تحقّق المردود على الرأس المال الموظّف إذا تمّ التوظيف في زيادة الطاقة الإنتاجية. لكن الإفراط في الاستدانة وتحويلها لتمويل المضاربات المالية يؤدّي إلى انكشاف غير مغطّى بأصول فعلية وبمدخول مستدام.
حقبة الثمانينيات شهدت موجة تعثّر في تسديد الديون السيادية التي أطلقتها النيوليبرالية وبناءً على توصيات المؤسسات الدولية. شهادات «القاتل الاقتصادي» جون بركينز فضحت اللعبة حيث الديون السيادية ذهبت مهب الريح وهدّدت المصارف الكبرى التي ساهمت في تمويل تلك الديون. لذلك أجمعت الدول الرئيسية النيوليبرالية على تكليف كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتوفير المساعدة للجم خطر الإفلاس العام. فكانت التوصيات في إعادة هيكلة الاقتصادات للدول النامية تحت شعار الإصلاح الهيكلي (Structural Adjustment Reform) والتي أدّت إلى خصخصة مرافق القطاع العام وإلى رفع الدعم عن السلع الرئيسية كالمواد الغذائية والوقود وإلى تحرير العملة الوطنية عبر تخفيض قيمتها بالنسبة إلى الدولار لجعل الأصول في تلك الدول رخيصة للمستثمر الخارجي، ورفع الضرائب عن الاستثمارات الخارجية لأن الأخيرة هي الوحيدة التي تستطيع توفير النمو الاقتصادي في الدول الناشئة. هذه الإجراءات يمكن دحضها بسهولة، لكن المساحة المتاحة هنا لا تسمح بذلك. المهم هنا هو أن السياسات النيوليبرالية أدّت وتؤدّي إلى تمركز الثروة في يد القلّة وعلى حساب المواطن والبيئة، وأن دور الدولة هو حماية تلك الطبقة المنتفعة من تلك السياسات. فحماية الاحتكار الخاص هي النتيجة الطبيعية لحماية حرّية التنافس من دون قيد أو شرط!