السبب الرئيسي لتنامي الفكر النيوليبرالي هو لمواجهة الخطر الذي بدأ يهدّد الطبقة الرأس المالية. فالقيود المفروضة في السياسات الكينزية وغير الكينزية، أوجدت طبقة تستفيد من البيروقراطية المتنامية في أجهزة الدولة التي تتبع النهج الليبرالي المتضمّنة في السياسات الكينزية. ويمكن اعتبار النيوليبرالية مشروعاً مثالياً يعيد تنظيم الرأس المالية الدولية ويعيد الاعتبار إلى النخب الاقتصادية (أي رجال الأعمال والمال والمصرفيون والشركات الكبرى) التي فقدت الكثير من نفوذها خلال الحقبة الليبرالية المتضمنة في السياسات الكينزية، لمصلحة بيروقراطية تقرّر ما هو صالح وما هو غير صالح بذريعة الأمن القومي أو الوطني. وهدف النيوليبرالية هو إعادة تحفيز تراكم رأس المال الذي أصبح بطيئاً في حقبة السياسات الكينزية على حدّ زعم روّاد النيوليبرالية. وتعاظم البيروقراطية في الدول المتقدّمة التي اعتمدت السياسات الكينزية أصبح عائقاً للتنمية لما تجرف من موارد الدولة في مشاريع غير إنتاجية وغير داعمة لتراكم رأس المال. إذاً، هناك «حجة» اقتصادية وهي تباطؤ تراكم رأس المال وبالتالي النموّ، بينما الحجّة الفعلية هي إعادة الدور السياسي للنخب الاقتصادية. هنا أيضاً نشهد أن السياسة تستخدم الاقتصاد لمآربها، وفي هذه الحال، لمصلحة طبقة النخب الاقتصادية في المجتمعات المتقدّمة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لكن أين نشأ هذا الفكر؟ يعتبر المؤرّخون الاقتصاديون أن مجموعة صغيرة من الجامعيين والاقتصاديين التفّت حول الفيلسوف الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك لتأسيس جمعية جبل الحجّ (نسبة لجبل الحجّ أو الحجّاج في جبال الألب السويسرية Mount Pelerin) سنة 1947 ضمّت الاقتصاديين كفرانك نايت وميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو ولودفيج فون ميسز من جامعة النمسا وجورج ستيغلر والفيلسوف كارك بوبر. الطريف في تسمية الجمعية تسميتها الأولى؛ كانت جمعية دي توكفيل، غير أن فرانك نايت اعترض على الاسم لأنه «أرستوقراطي كاثوليكي»، كما أن فون ميسز اعترض لعدم تحمّل «أخطاء» ارتكبها دي توكفيل! فكان التوافق على جمعية جبل الحجّ. الدلالة هنا، العداء عند النخب البروتستانتية الانكلوساكسونية للكنيسة الكاثوليكية! (أما الفيلسوف كارك بوبر فهو من جذور يهودية لكنه اعتنق البروتستانتية اللوثرية، بينما فرانك نايت بروتستانتي جنح إلى الإلحاد). جميع المؤسسين من دعاة الديمقراطية الليبرالية.
هذه المجموعة أصدرت «ميثاقاً» يرى أن القيم الأساسية للحضارة (لم يحدّدوا عن أي حضارة يتكلّمون) في حالة خطر. فالحرّية والكرامة الإنسانية، اختفت في أكثر بقع الأرض بسبب «سياسات». والمقصود هنا السياسات الكينزية والسياسات الماركسية. والإنسان الغربي على حدّ ما أتى به البيان التأسيسي مهدّد بفقدان أثمن ما لديه وهو حرّية التعبير والفكر من قِبل قوى «تدّعي التسامح عندما تكون أقليّة وتصبح ديكتاتورية عندما تصل إلى السلطة». وهذه التطوّرات حصلت عبر التاريخ من قِبل مجموعات اعتبرت أن التاريخ لا يعترف بالقيم المطلقة والمعايير الأخلاقية إضافة إلى نموّ نظريات تشكّك في ضرورة حكم القانون. وما يعزّز ذلك التوجّه تنامي الفكر الذي يرفض الملكية الخاصة وحرّية الأسواق على حدّ زعمهم.
ولا تعتقد المجموعة أنه بالإمكان الحفاظ على الحرّية في مجتمع تخلو منه المبادرة والقوّة المنتشرة (diffuse power) المتلازمة مع الملكية الخاصة والأسواق التنافسية. وبالتالي لا بدّ من دراسة طبيعة الأزمة القائمة لإبراز الأبعاد الأخلاقية والاقتصادية. كما يجب إعادة النظر في دور الدولة للتمييز بين الدولة الشمولية والنظام الليبرالي. هذا الدور يعني أن حكم القانون يجب أن يكون بشكل يمنع أيّ شخص أو مجموعة من قضم حرّية الآخر كما أن الحقوق الخاصة لا يمكن أن تشكّل قاعدة للتصرّفات العدوانية. لا شيء يجب أن يحدّ من حرّية الأسواق التي هي تعطي أحسن النتائج. كما لا يجب الاستناد إلى التاريخ وتوظيفه للتعدّي على الحرّية، فهي أساس كل شيء لسعادة الإنسان. أما على صعيد العلاقات الدوليّة فيجب أن تهدف إلى تمكين تبادل الآراء والحفاظ على المجتمعات الحرّة.
هذه المبادئ التي نصّ عليها ميثاق «جمعية جبل الحجّ» كانت بمثابة إعلان عالم طوباوي جديد أسوة بالعوالم الطوباوية الأخرى كعالم آدام سميت والفرد مارشال أو عالم الشيوعية أو الكينزية. غير أن العالم الحرّ الذي دعت إليه تلك المجموعة لا يخلو بدوره من التناقضات. فالنظريات تختلف كلّياً عن الممارسات التي تقوم باسمها. ويركّز منتقدو النظرية النيوليبرالية على تلك التناقضات بين الفكر والممارسة. هذا ما تدلّ عليه الوقائع التي أفرزتها سياسات باسم النيوليبرالية في كلٍّ من المملكة المتّحدة والولايات المتحدة وقبلهما في الشيلي نتيجة الانقلاب على سلفادور اللندي.
النيوليبرالية عالجت تباطؤ النموّ والتضخم عبر التركيز على أولوية محاربة التضخم على حساب مكافحة البطالة ما يتطلّب عدم وجود تضخّم في الأسعار من أجل تراكم رأس المال


لكن قبل الخوض في تلك التجارب لا بدّ من الإشارة إلى الدعم الذي حصلت عليه «جمعية جبل الحجّ» من كبار المفكّرين والسياسيين في العالم الذين كانوا يرفضون الكينزية والشيوعية في آن واحد. وهذا الدعم كان سياسياً ومالياً من قِبل شركات ومجموعات رافضة لأيّ شكل أو نوع من تدخّل الحكومة في الشأن الاقتصادي، وأي تنظيم أو قيود منظّمة للنشاطات الاقتصادية والمالية. كما أنها كانت متحفّظة على أيّ تقارب مع الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك دعمت الموجة الماك ــ كرثية في الولايات المتحدة في الخمسينات من القرن الماضي، عمليات تنفيذ وتطهير واسعة من النفوذ الشيوعي في الدوائر الحكومية وحتى في المجال الثقافي كالإعلام والجامعات والسينما والمسرح والآداب. كما دعمت تلك المجموعة مراكز التفكير والأبحاث النيوليبرالية التي نشأت في السبعينات كمعهد الشؤون الاقتصادية في لندن (Institute for Economic Affairs)، ومعهد «هريتاج فونداشن» (Heritage Foundation) ومعهد فون ميسز (Von Mises Institute) في الولايات المتحدة، وفي الجامعات وخاصة في جامعة شيكاغو حيث كان ميلتون فريدمان وفرانك نايت. فحصلت النيوليبرالية الاقتصادية على المصداقية والاحترام بعد فوز عدد من مروّجي ذلك الفكر على جائزة نوبل كفون هايك وميلتون فريدمان وجيمس بيوكانن وجورج ستيغلر وموريس الليه ورونالد كوس وغاري بيكر وفيرنون سميت على سبيل المثال. والعديد من الاقتصاديين المؤمنين بمبادئ الجمعية، يجلسون في لجان التحكيم لجائزة نوبل في الاقتصاد. كما التحق بالمجموعة العديد من الصحافيين البارزين كولتر ليبمان، ماكس ايتسمان وجون شامبرلين.
ظهر النفوذ السياسي للنيوليبرالية في عهد الرئيس الأميركي كارتر عندما بدأت سياسات تفكيك القيود الناظمة للنشاطات الاقتصادية. وفي عهد الرئيس ريغان انطلقت بشكل كثيف تلك الموجة كما انطلقت أيضاً في المملكة المتحدة مع مارغريت ثاتشر. حروبهما لإضعاف النقابات العمّالية المسيطرة على أسواق العمل (عمّال مناجم الفحم والصلب في المملكة المتحدة، وعمال مراقبي الطيران في الولايات المتحدة في الثمانينات) كانت في غاية الشراسة. فالأسواق يجب أن تكون حرّة من دون تدخّل الدولة أو تدخّل مجموعات تحدّ من حرّية الأسواق. وأهمية تأثير النيوليبرالية تمثّلت عندما تبنّتها أحزاب محسوبة على الطبقة العاملة وتركت الكينزية كنهج سياسي اقتصادي. حزب العمّال البريطاني مع طوني بلير والحزب الديمقراطي مع بيل كلنتون تحوّلا إلى أحزاب نيوليبرالية تحارب بشراسة أيّ فكرة لتنظيم الاقتصاد أو لإخضاعه لسيطرة الدولة. أكبر موجة من تفكيك القيود المنظّمة في الولايات المتحدة كانت في ولايتَي كلنتون كما كانت في حكومات طوني بلير في المملكة المتحدة وليست كما يعتقد الكثيرون في عهود حكومات محافظة في المملكة المتحدة أو إدارات الحزب الجمهوري في الولايات المتّحدة. طبعاً، تبنّت تلك الحكومات اليمنية السياسات المفكّكة للنظم المعمول بها ولكن لم تبادر بها!
النيوليبرالية عالجت مشكلة التباطؤ في النموّ والتضخّم عبر التركيز على محاربة التضخّم كأولوية، وإن كانت على حساب التوظيف. محاربة البطالة لم تعد أولويّة كما كانت بعد الحرب العالمية الثانية حتى منتصف السبعينات. النموّ هو الأولوية عبر تراكم رأس المال ويتطلّب عدم وجود تضخّم في الأسعار. هذه كانت فحوى سياسة بول فولكر، الذي سمّاه الرئيس جيمي كارتر، في الولاية الأولى لرونالد ريغان حيث رفع الفائدة بشكل حادّ لتصل إلى 20% في تموز 1981 مطلِقاً انكماشاً طويلاً أفرغ المصانع وكسر النقابات. أمّا الدول المدينة كالمكسيك وعدد من دول أميركا اللاتينية، فوصلت إلى حدّ الإفلاس بسبب ارتفاع الفائدة. عندئذ بدأت إجراءات إعادة الهيكلة الاقتصادية في تلك الدول بناء على توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إجراءات بول فولكر كانت إجراءات ضرورية، ولكن غير كافية لترسيخ نهج النيوليبرالية. لم يكن كافياً الاعتماد على السياسات النقدية، بل كان ضرورياً اتخاذ إجراءات أخرى عبر تفكيك المنظومة الاقتصادية السائدة أي تفكيك القيود الناظمة أو deregulation. لذلك اعتمد الرئيس ريغان تسمية أشخاص في قطاعات البيئة وسلامة العمل والصحة والمواصلات والنقل على سبيل المثال، وهي قطاعات مليئة بالقيود المنظّمة ليخفّفوا من تلك القيود مع محاولات لإلغاء البرامج الإنفاقية الكبيرة، ثم يتراجع دور الدولة إلى أقصى الحدود الممكنة. في المقابل، ما رافق ذلك هو موجة إعادة توطين القاعدة الصناعية خارج الولايات المتّحدة للاستفادة من بيئات ليس فيها قيود على البيئة والعمالة وسلامة العمل. فالأخبار عن استغلال معامل نايك للملبوسات الرياضية في الدول النامية حيث كان تشغيل الأطفال بأسعار بخسة جدّاً، تشير إلى نموذج التحوّل الذي حصل في البنية والعلاقات الرأس المالية التي جنحت إلى «التوحّش» في تلك البيئات.
ما ساعد كل ذلك، ارتفاعُ أسعار البترول والاتفاق على تسعير برميل النفط بالدولار، ما جعل الطلب على الدولار يصل إلى مستويات عالية جدّاً وسهّل طباعة الدولار ونشره كعملة احتياط رئيسية، قبل أن تصبح العملة الأولى في العالم وتهيمن على مقدّرات الدول. السياسة النقدية التي اتُّبعت كانت ترجمة للتحوّل في التعامل والتبادل الدولي نحو تكريس سيطرة الدولار. هنا يمكن التساؤل بشكل جدّي حول فرضيات السياسة النيوليبرالية التي ارتكزت إلى قوامة السياسة النقدية بدلاً من السياسة المالية. لولا هيمنة الدولار في العالم بسبب الطلب الكبير لما كانت السياسات النقدية لتنجح في الولايات المتحدة لأن الضخّ النقدي هو بطبيعته تضخّمي لكن عبر السيطرة على الدولار، تمّ تصدير التضخّم إلى الدول الأخرى. كما أن إعادة تصدير المنتج الصناعي للولايات المتحدة، ساهم أيضاً في زيادة الطلب على الدولار. السياسة النيوليبرالية مدينة بـ«نجاحها» إلى سيطرة الدولار على التبادل الاقتصادي والمالي في العالم أكثر من الفرضيات التي اعتمدتها.
هذا يذكّرنا بمقولة نجاح «الثورة الصناعية» في أوروبا لتقدّمها، متناسية استعمار الدول الأفريقية والآسيوية لمصلحة المصانع الأوروبية. رخاء أوروبا كان بسبب الاستعمار أكثر مما كان بسبب نجاح الثورة الصناعية. وكذلك الأمر بالنسبة للنظرية النيوليبرالية التي «نجحت» بسبب هيمنة الدولار على التبادل الاقتصادي والمالي في العالم أكثر من أي عامل آخر تمّ ترويجه كحرّية الأسواق وحرّية حركة رأس المال...

*اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي