ليس واضحاً إذا كان ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن تسديد الودائع بالعملة اللبنانية مقصوداً، لكن كلامه يشير إلى اقتطاع جزئي لودائع الناس بالدولار التي تبلغ حالياً نحو 120 مليار دولار. الاقتطاع كما فُهم من كلام الحاكم، قد تصل نسبته إلى 40%، حتى وإن كانت له جذور قانونية فلن يكون شرعياً أو مشروعاً.هذا الكلام إذا كان صحيحاً، يعني أن هناك "قصّة شعر" أو ما يسمى "هيركات". ففي حال صحّت التفسيرات لما قاله، ستكون هذه العملية بمثابة تغطية لخسائر مصرف لبنان المتراكمة والمقدّرة بما بين 30 مليار دولار و40 ملياراً تبعاً لطريقة الحساب. وهذا يعني أن مصرف لبنان سيستردّ الخسائر التي موّلت الهندسات المالية وعمليات المبادلة، وثمن فيول أويل الكهرباء، والفوائد التي دُفعت لغير المقيمين. بعبارة أخرى، قرّر مصرف لبنان أن يمحو قسماً من الخسائر عبر الاقتطاع غير المباشر من ودائع اللبنانيين. وفي الوقت نفسه، يؤمّن الحماية لرساميل المصارف. علماً بأن النظام الاقتصادي في لبنان حرّ ومفتوح ما يعني أن الأولويات لتحميل الخسائر لرساميل الشركات. هناك تراتبية في هذا الأمر ولا يفترض أن يصل الاقتطاع إلى الودائع. أما إذا وصلت إلى الودائع في النهاية، فتكون على شكل منح المودعين أسهماً مقابل تحميلهم هذه الخسائر.
بهذه العملية يكون مصرف لبنان قد مسح خسائره المتراكمة ووفّر الحماية لرساميل المصارف التي يجب أن تتحمل الصدمة وحصّنها على حساب المودعين.
السياسة المالية والدولة تركا مصرف لبنان للسير بسياساته من دون مساءلة. بل على العكس، كانت السلطات تبارك دائماً ما يقوم به وتدافع عنه. أما اليوم، فالأدوات في يد السلطات النقدية إلى تناقص. إذ لم يعد لدى مصرف لبنان ما يكفي من الاحتياطات الصافية بالعملات الأجنبية، فيما تراكمت عليه الفوائد بالدولار، وهي دولارات دفترية لا يوجد مقابلها دخول للودائع وخصوصاً منذ عام 2011. الأدوات المتوافرة بين يديه، أقل من السابق ومن الطبيعي أن يسعى للدفاع عن المسار الذي مشى عليه، ولا أستغرب اللجوء إلى ما يقوم به، مع أن لديه خيارات أخرى من أبرزها خفض الفوائد بمستويات مرتفعة في ظل الخروج المقنّع لرأس المال، وإطالة آجال الديون على الدولة، وآجال إيداعات المصارف لديه. عليه خفض الفوائد إلى مستويات قريبة من الصفر، فيخفّف الخسائر في ميزانيته، وعن كاهل الاقتصاد. أتمنى أن يعتمد هذه الخيارات وأن لا يلجأ إلى الاقتطاع من ودائع الناس، لأن ترميم ميزانية مصرف لبنان لا يتم بعملية قصّ شعر للمودعين، بل بإعادة توزيع العبء على الدولة والمصارف وكبار المودعين، بهدف حماية حقوق الناس وإطلاق الاقتصاد وخفض الدين العام.
أفضّل تقنين خروج الأموال من دون إعطاء صلاحيات استثنائية لأحد. أي أن تكون العملية واضحة في مجلس النواب بموجب تشريع يحدّد آليات ونسب خروج الودائع: فعلى سبيل المثال، أوّل 50 ألف دولار تحوّل إلى الخارج لا يُسأل عنها، ثم هناك أولويات التعليم في الخارج والطبابة وسواها من الحاجات، وتحديد الأموال المخصّصة للاستيراد.
من المعروف أن إعادة هيكلة الدين قد تأخذ أشكالاً مختلفة. المطلوب اليوم من السلطة النقدية أن تأخذ قراراً بخفض الفوائد على كل ودائع المصارف لدى المصرف المركزي بما فيها شهادات الإيداع والاحتياطات الإلزامية وسواها، إلى مستوى أقصاه نصف بالمئة على الدولار وثلاثة أرباع في المئة على الليرة. ثم يجتمع الحاكم ووزير المال للقيام بعملية مشابهة على الدين العام المحمول من مصرف لبنان. فمن غير المقبول أن يدفع البنك المركزي فوائد يعيد توزيعها من دون أن يعود للخزينة والمواطنين أي شيء. كذلك، يجب خفض الفوائد على التسليفات والإصرار على المصارف القيام بهذه العملية حتى لا يبقى الاقتصاد راكعاً. بإمكان السلطة النقدية القيام بهذه العملية مع وزير المال من دون صلاحيات استثنائية. وإذا أحجمت المصارف عن خفض الفوائد يمكن اقتراح قانون يفرض ضريبة بنسبة 70% أو 80% على الفوائد التي تحصّلها المصارف من المدينين. الحلّ الأنسب والأكثر عملياً هو خفض الفوائد، من دون الاقتراب من أساس الديون. هذا ما يجعلنا قادرين على التنفّس والخروج من الأزمة في ظل غياب واضح لآلية مساعدات خارجية.