في 2005 كانت حصّة القطاع الزراعي من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 4%، ولكنها انخفضت اليوم إلى 3% رغم أن الناتج تضاعف خلال هذه الفترة مرّتين ونصف من 21.5 مليار دولار في 2005 إلى 53.5 مليار دولار في 2017. مساهمة الزراعة في نموّ الناتج كانت سلبية في سنوات عديدة، أي أن الزراعة كانت تتغذّى على حساب القطاعات الأخرى. تراوح بين 0.2-% وبين 0.8% خلال الفترة نفسها. أما حصّته من التمويل فكانت الأكثر هشاشة بين هذه المؤشرات. حصّته من القروض المصرفية لم تزد يوماً عن 1.1% فيما تضاعفت محفظة القروض لتبلغ في 2018 نحو 70 مليار دولار. أما حصّتها من التمويل الحكومي، فقد تراوحت بين 0.5% و1%. باختصار، نموذج لبنان الاقتصادي لم يكن مصمّماً لدعم قطاعات الإنتاج، وخصوصاً الزراعة، بل كان مصمّماً لقتلها بدم بارد. أما أداء السلطة، فقد فتح الباب أمام فوضى عارمة تخبّط فيها القطاع من أبرز نتائجها ارتفاع معدلات استهلاك الأسمدة والمبيدات إلى 452 كيلوغراماً مقابل كل هكتار، أي أعلى بنحو 3.5 مرة من المعدل المسموح به في دول منظمة التعاون الاقتصادي والبالغ 131 كيلوغراماً لكل هكتار.

هذه الفوضى، تراكمت فوق طبقة أخرى من المشاكل التاريخية التي يعدّ أكبرها حيازات الأراضي. المسح الشامل الأخير للأراضي الذي تجريه وزارة الزراعة كل 10 سنوات، أظهر أن 2% من الحائزين الزراعيين لديهم مساحات زراعية تزيد عن 100 دونم ويستثمرون 33% من المساحات المزروعة. وفي المقابل، فإن 68% من الحائزين الزراعيين لديهم مساحات تقلّ عن 10 دونمات ويستثمرون 18% من المساحات المزروعة. إذاً، مستويات التركّز المرتفعة هي واحدة من سمات القطاع، وهي مشابهة لمستويات التركّز المنتشرة في القطاعات الاقتصادية المصابة بداء التركّز الاحتكاري. في القطاع الزراعي هذا التركّز يأتي بأشكال مختلفة وأبعاد لها جذور تاريخية وعائلية. إنها تركيبة المجتمع اللبناني التي غلب عليها طابع الإقطاع الزراعي، ثم الإقطاع السياسي. لم يختلف الأمر كثيراً بين الأمرين. فالإقطاع الزراعي أهدى المساحات الأكبر من الأراضي للعدّد الأقلّ في المجتمع، وهو العدد صاحب النفوذ والسلطة. ما يحصل اليوم هو امتداد للحقبة الماضية. أصحاب الأراضي ذات المساحة الأكبر والأقل عدداً (كبار المزارعين ــ التجار) يتحكّمون بأصحاب الأراضي ذات المساحات الأصغر والأكثر عدداً (صغار المزارعين ــ التجار) وهم شركاء المصلحة مع أصحاب السلطة السياسية. وهؤلاء يهيمنون على أسواق البيع المحلية بالجملة وعلى مسارات التصدير. فالمزارع الصغير، أي من ذوي الحيازات الصغيرة لا يمكنه تصدير محصوله، إلا بالشراكة مع كبار المزارعين ــ التجار الذين لديهم التمويل والشاحنات وآلات العمل والقدرة على السفر لاكتشاف الأسواق الخارجية واكتشاف الفرص.
اللافت أن كلّ الإنتاج الزراعي المحلي، يعمل بتقنيات تقليدية ومتخلّفة، وهذا الأمر مرتبط جزئياً بالحيازات الصغيرة للأراضي، ومرتبط أيضاً بعدم رغبة كبار الحائزين على الاستثمار في أراضيهم وتقنيات الإنتاج، بل إنهم يفضّلون الاستمرار في استعباد العمالة الزراعية الرخيصة الأجر، سواء تلك الأجنبية أو المحلية منها. فالعمالة المحليّة تتشكّل ممن تبقى في الأرياف لم ينزحوا إلى المدينة بعد ويمثّلون 11% من مجمل العاملين بأجر على الأراضي اللبنانية بمعدل عمر يبلغ 52 سنة. أما العمالة الأجنبية فهم يتشكّلون من بدو وسوريين ويتشاركون مع العمالية المحلية بأنهم عمال موسميون في الزراعة وموسميون في قطاعات أخرى أيضاً مثل البناء وسواها.

67%

من الأراضي الزراعية تقع في البقاع والشمال وتتضمن عدداً من المزارع التجارية الكبيرة نسبياً، فيما الجنوب يتألف من مزارع صغيرة معظمها في المناطق الريفية البعيدة


هذه الحلقات تتّسم بالمراوحة وبعدم وجود تغيّرات جوهرية لعشرات السنين. والأسوأ أن التطوّر الذي لحق ببنية القطاعات الريعية من مؤسسات وخبرات وتدريب وتقنيات، لم يصل أيّ منها إلى القطاع الزراعي. فعلى الرغم من أن نسبة المساحات المزروعة تمثّل 70% من الأراضي الصالحة للزراعة، إلا أن «لبنان لا يزال يعدّ مستورداً أساسياً للغذاء» بحسب تقرير أعدّته وزارة الزراعة عن خطّتها للأعوام 2015 ــ 2019. وتشير هذه الخطّة إلى أن «المنتجات المحلّية لا تلبّي إلا 20% من حاجات الاستهلاك المحلية ما يجعل لبنان عرضة لارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والمواد الغذائية».
بين عامي 2010 و2018، استورد لبنان منتجات غذائية من حيوانات ومواشي حيّة وأعلاف وقمح وحبوب والورقيات وسواها من الخضر والفواكهة الطازجة والمعلّبة، بقيمة 29.8 مليار دولار، وصدّر منها بقيمة 6.09 مليار دولار، أي إن عجزه المتراكم بلغ 23.7 مليار دولار بمعدل سنوي وسطي يبلغ 2.6 مليار دولار. هذه هي الفاتورة السنوية التي يدفعها لبنان لتأمين الغذاء بمختلف أصنافه. تشكّل هذه الفاتورة جزءاً أساسياً من عجز ميزان المدفوعات الذي يقيس صافي حجم دخول الأموال إلى لبنان وخروجها منه. يخرج من لبنان سنوياً 2.6 مليار دولار من أجل تمويل الغذاء، رغم أن لديه 233 ألف هكتار من الأراضي المزروعة منها 113 ألف هكتار مروية، ولديه 100 ألف هكتار قابلة للزراعة.


إذاً، وسط حلقات التركّز الاحتكاري وانعدام التوازن وسيطرة الإقطاع بهيئته الجديدة ــ القديمة على الأراضي والتصدير وتفاقم الأزمة الحالية الناتجة عن نضوب مصادر تمويل الاستيراد بالدولار وانعكاسه على سلّة السلع الغذائية بنسبة كبيرة، فقد باتت ضرورية العودة إلى الزراعة. إعادة توجيه قسم من المساحات المزروعة نحو زراعات تلبي الحاجات المحلية، أو استثمار المساحات غير المزروعة والقابلة للزراعة بعد استصلاحها سريعاً، بشكل علمي، موجّه، ومدروس، ما يزيد فرص خفض العجز في الميزان الغذائي بين لبنان والخارج، وبالتالي خفض الاعتماد على الاستيراد لتلبية حاجات السوق المحلية.
عملياً، محاولات إعادة صياغة القطاع الزراعي في لبنان، اصطدمت بالكثير من العقبات. أولها أن النموذج أصلاً مبني على القطاعات ذات الطابع الريعي، وليس على القطاعات ذات الطابع الإنتاجي. فعلى سبيل المثال، إن الأراضي القابلة للتشييد هي المهمة وليست الأراضي الزراعية التي لا تصلح حتى لرهنها مقابل تمويل مصرفي، وهذا الأخير، فيما القروض المصرفية تتركّز بنسبة واسعة في القطاعات غير المنتجة (90% من القروض للقطاع العقاري أو بضمانات عقارية) وبشكل عام فإن غالبية التمويل المتاح ذهب إلى خدمة فوائد الديون، فيما رفضت قوى السلطة في الحكومات المتعاقبة زيادة الإنفاق الحكومي والاستثمار في هذا القطاع، بالإضافة إلى هيمنة العقل التجاري على الحلقات الإنتاجية سواء من المزارعين الذين يملكون الأراضي ذات المساحات الأكبر، أو تجار المبيدات، وصولاً إلى تمسّك المزارعين بعادات متخلّفة، وعدم توافر مصادر المياه للري...
كبار التجار يستحوذون على المساحات الأكبر من الأراضي ويهيمنون على أسواق البيع


رغم ذلك، لا تزال تبرز بعض المبادرات مثل تلك التي قام بها مجموعة مهندسين زراعيين في الجنوب رفعوا شعار: «أنا مقاوم، أنا مزارع». تواصلوا مع اتحادات البلديات في مناطق مختلفة أبرزها في الجنوب، من أجل تشجيع الأهالي على زراعة أرضهم. ربما كانت مفاعيل هذه المبادرة أكبر بكثير من كلّ محاولات السلطة السياسية في وزارة الزراعة وخارجها على مدى السنوات الماضية، لأنها كرّست مفهوماً للقطاع يتناسب مع حاجات المجتمع. تقوم هذه المبادرة على تشجيع زراعة منتجات ذات قيمة مضافة، مثل التين، والصبير، والزعتر، والقمح... القيّمون على المبادرة لم يرفعوا سقف الطموحات، إلا أنّهم يأملون أن تفتح هذه المبادرة الباب أمام إعادة ربط الأهالي بأراضيهم في انتظار رسم الدولة استراتيجيات للقطاع، تبدأ بضرورة إعادة رسم البنية التحتية اللازمة للقطاع، وصولاً إلى تحقيق أهداف ديمغرافية تتعلق باستعادة البلدات أبنائها وربطهم بمسارات إنتاج مربحة وتؤمّن لهم العيش بعيداً عن المدينة.



المطلوب ثورة زراعية
هناك الكثير من المنتجات الزراعية التي يحتاج لها لبنان اليوم في ظلّ أسوأ أزمة استيراد ستواجهه في الأشهر المقبلة بعدما أقفل مصرف لبنان الباب أمام تحويل الدولار إلى الخارج. فالواقع، أن لبنان يستورد خضر وفاكهة ومعلبات غذائية والكثير من منتجات الصناعات الغذائية والسلع الطازجة أيضاً بقيمة إجمالية تبلغ 3.5 مليار دولار، وبالتالي فإن أي توفير بهذه السلع سيكون مفيداً، ولو كان توفيراً موسمياً أو محدوداً، علماً بأن الأمر يتطلب دعماً سريعاً من الدولة. الزراعات في البيوت البلاستيكية مهمة جداً وإنتاجها يشمل سلّة واسعة من الأصناف من بندورة وخيار وخضر وورقيات على أنواعها. كذلك، يمكن اللجوء إلى زراعة القمح والعدس والحمص والفول وسواها من الأصناف التي يمكن استخدامها في الصناعات الغذائية المعلبة ولا سيما أن مصانع لبنان تستورد هذه الكميات من الخارج وتعلّبها هنا لتعيد تصديرها إلى الخارج... هذا المسار يتطلب «تدمير» و«إعادة صياغة» لبعض الحلقات الزراعية، وإعادة توجيه الدعم، ومساعدة المزارعين وشراء المحاصيل. يتطلب الأمر «ثورة». ثورة على أصحاب الحيازات الأكبر، وثورة تكنولوجية تشمل تقنيات الإنتاج والاستصلاح والري، وإنتاج البذار بدلاً من استيراده. هناك الكثير مما يجب فعله مما بات الوقت ملائماً لبدء تطبيقه.


قمح طري وقمح قاسي
حالياً، تعمل وزارة الزراعة على تشجيع زراعة القمح الطري الذي يصلح لصناعة الخبز. مخاطر هذا الصنف من المزروعات كبير. يمكن القمح الطري أن يصاب بمرض الصدأ الذي يفتك بالحقول سريعاً. أما معالجته بالرش عبر الطائرة، عدا عن كونها مكلفة جداً، إلا أنها تتطلب حيازات زراعية واسعة ومتلاصقة وهذا أمر غير متاح في ظل الحيازات الصغيرة نسبياً، وخصوصاً في المناطق غير السهلية. لذا، يمكن اللجوء إلى زراعة القمح القاسي الذي يتناسب مع مناخ لبنان ويمكن استبداله مع دول أخرى لديها القمح الطري، كما تفعل سوريا التي تستبدل سنوياً نحو 3 ملايين طناً من القمح القاسي مع إيطاليا بشكل أساسي التي تحتاج إليه من أجل صناعة «الباستا».
--
الحيازات الزراعية «ع السريع»؟
حيازة الأراضي، هي العلاقة المحكومة بالقانون أو العرف بين الناس، سواء كانوا أفرداً أو مجموعات، في ما يتعلق بالأراضي. وحيازة الأراضي يمكن أن توصف بأنها مؤسّسة. بمعنى آخر هي تشمل قواعد استنبطتها المجتمعات لتنظيم سلوكها. قواعد الحيازة تحدد كيفية تخصيص حقوق الملكية داخل المجتمع، كما إنها تحدّد كيفية منح حقوق الانتفاع بالأراضي والإشراف عليها ونقل تلك الحقوق، وتحدّد ما يتصل بذلك من مسؤوليات وقيود. بعبارة أبسط، إن نظام الحيازة يحدد من يحق له الانتفاع بالموارد ولأي مدّة وبأي شروط.
حيازة الأراضي جزء من الهيكلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يعبّر عنها من خلال مصالح متشابكة تشمل: المصالح العليا حيث يكون لسلطة السيادة (أي الأمة أو المجتمع) القدرة على تخصيص أو إعادة تخصيص الأراضي مثلاً بواسطة نزع الملكية، والمصالح المتشابكة عندما يكون لعدة أطراف حقوق مختلفة على نفس قطعة الأرض مثل حق الاستئجار وحق المرور. كذلك هناك مصالح متكاملة عندما تكون لعدة أطراف نفس المصلحة على نفس قطعة الأرض.