دول الشرق الأدنى غير المنتجة للنفط هي تقليدياً دولٌ تعتاش على الريع الجيوسياسي. إثر طفرة النفط الأولى في السبعينيات أصبحت هذه الدول أكثر اعتماداً على الريوع. وبالنتيجة، قام مزيجٌ من سياسات المؤسسات المالية الدولية لـ«الإصلاح الهيكلي" والمساعدات والتحويلات من الخليج بنزع القدرة التصنيعية تدريجياً عن هذه الدول («عكس-التصنيع»). بدوره، فاقم عكس-التصنيع من اعتمادية هذه البلدان على المساعدات، أو حتى نستخدم تعبيراً أدقّ: الاستثمارات الامبريالية في الانقسامات الاجتماعية وفي تأمين الامبريالية. سيكون من العجيب أن نصدّق بأنّ الامبريالية الأميركية - الأوروبية، التي حصدت ما يقارب المليار بشري منذ بدء حروبها حوالي عام 1500، تتبرّع بتقديم العون بنبلٍ للبشرية، أو أنها ستبذل جهوداً لمنع الحروب والكوارث الطبيعية. ومن الأكثر غرابة أن نصدّق أن دول الخليج تتمتّع بأي استقلالية لتقديم المساعدات من غير الرضا الأميركي.لبنان ما بعد الحرب، التي دمرت بنيته التحتية والصناعية، أصبح أكثر اعتماداً على مصادر التمويل الخارجية للحفاظ على مستوى الاستهلاك. خرجت الدولة أكثر ضعفاً بعد الحرب، وتم توكيل مهامها الاجتماعية إلى "المجتمع المدني" الممول أميركياً وأوروبياً، أو إلى المؤسسات الموازية التي تقيمها الطوائف. حتى نشدد على نقطة ذكرناها سابقاً: ما نشهده في تظاهرات لبنان اليوم هو نتيجة استثمارٍ لثلاثين عاماً في السياسات الرجعية، وهي مجسّدة في شعبٍ يعاني من مأساة اجتماعية ساحقة، وسط جرعاتٍ قاتلة من النيوليبرالية العنيفة.
من الممكن نظرياً لرد الفعل الاجتماعي على هذه الظروف أن يتحول إلى موقف طبقي، ولكن اليسار ضعيفٌ من ناحية التنظيم والموارد، فيما المنظمات التي يمولها الخليج أو أوروبا أو الطوائف تملك في متناولها قدرات مالية كبيرة.

■ ■ ■


في حالة لبنان، فإنّ "الطّوق الضيّق" للتمويل، أي مليارات الدولارات التي تحتاج إليه بشكلٍ دوري لخدمة الدين، يتمّ حالياً تأخيرها، والامبريالية الأميركية هي التي تقرّر. إنّ في رأسهم خطّة ما وهي تتعلّق بحزب الله. الطبقة المالية العالمية التي تقودها أميركا، وعبر تحكمها بالنظام المالي اللبناني، هي التي تملك الصوت التقريري في الزمن التاريخي الفعلي. إنّها تجلس ببساطةٍ وتراقب، بينما صوت الشعب اللبناني المهزوم يبدو، تشبيهاً، كحليةٍ تزيينية لنظام عبوديّةٍ حديث.
كما تعلّمنا الدروس القديمة من حروب التحرير الوطنية، فإن الانطلاق من "جبهات عميقة»، وبخاصة جبهاتٍ تحتوي على دعمٍ شعبي "من تحت" وتمزج بين الأمن والتنمية، هي القاعدة الصالحة للنضالات التحررية. رغم أن معاداة الامبريالية ليست صفةً طبقيّة ملازمة للطبقات الحاكمة في إيران، إلا أن أن الامبريالية تحرم الناس (الناس من جميع الطبقات وليس الطبقة العاملة وحدها) ليس من السيطرة على مواردهم فحسب، بل أيضاً على حياتهم، فتقتلهم وتقصّر أعمارهم. تقوم الامبريالية في حالاتٍ كثيرة بإحراق الكمبرادور الطرفي، ومعه "الارستقراطية العمالية" وكامل المناخ الاجتماعي في البلد، عبر قنابل تحوي اليورانيوم. إنها تقوم بالتهجير وتدمير السكّان لتحقيق الأرباح.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

الطبقة الحاكمة الإيرانية هي طبقة ريعيّة. بينما يقوم البعض في إيران بإيهام أنفسهم عبر طموحات "ميني-امبريالية»، فإنّ صراع الشعب الإيراني هو صراع - حرفياً - على البقاء. أحلام العظمة المستقاة من امبراطورياتٍ قديمة ليست أكثر من في حالة ايران، بينما حقيقة أن إيران قد تشهد مصير العراق أو أفغانستان هو أمرٌ بيّن. إن مقياس قوة الجبهة الداخلية في إيران يتعلق بالكمّ الذي يتم فيه تحويل السلع الأساسية إلى ملكية للمجتمع ودعمها، وتوليد وظائف في المجتمع تقوم على دورةٍ مالية قوميّة - متحررة من التمويل الدولي - بغية تحضير الظروف المؤاتية للحرب الشعبية.
بتعابير أخرى، إن الشّعب يتم إنتاجه وإعادة إنتاجه عبر العمل الحيّ المحروم من ظروف حياتيّة أفضل، وليس عبر الهوية. إن أي قراءةٍ لهذه اللحظة التاريخية، ولموازين القوى، تظهر بوضوح أن إيران هي في موقع الدفاع عن النفس. ولكن حكومتها الحالية تفشل في توفير الوظائف والرعاية التي تؤمن القاعدة الاجتماعية للحرب الشعبية. لو انطلقنا من المقدمة التي تقول بأن حروب الغزو الغربية في الإقليم هي جزءٌ من صناعة "العسكرة»، وأن الامبريالية تعتاش على الهدر عبر التهجير، فإن أمن إيران عبر حزب الله هو أمنٌ مشترك ومتبادل مع لبنان.
تثبت التظاهرات أن الطبقة هي الحقيقة التي تعود إلى الظهور في أوقات الأزمات. نقص الخبز والديمقراطية أو الفقر في لبنان هي أمورٌ عابرة للطوائف. إن الخبز والديمقراطية يتمّ تشكيلهما عبر العلاقات الاجتماعية قبل أن يصبحا "أشياء" أو أفعالاً. هي علاقات تاريخية وعلاقات قوة يتمّ تحقيقها عبر النضال الطبقي. ولكن هذه المفاهيم، الخبز والديمقراطية، قد أصبحت - حتى بالنسبة إلى اليسار - مصنّمة ولاتاريخية. إنها ببساطة الأشياء (الأرغفة) والصناديق التي يتم الاقتراع فيها. وهذه المفاهيم تستمر على هذا النحو لأن الماركسية الغربية تقدمها على هذا النحو. يقوم المثقفون اليساريون في الغرب، وهم يملكون نسبياً وقت فراغٍ أكثر من نظرائهم في العالم الثالث، بتوليد مفاهيم تناسب خطط "المسؤولية في الحماية" (وهو مشروعٌ تنموي ترعاه الأمم المتحدة).
عبر تناسي تاريخ رأس المال والنكبات الاجتماعية والبيئية القائمة حولنا، فإنّ هؤلاء اليساريين الزائفين قد طوّروا في أنفسهم إعجاباً عميقاً بنموذج الديمقراطية الانتقائية التي يروج لها رأس المال الغربي، ويرون أن الفظائع التي ترتكبها هذه النماذج هي بمثابة كلفةٍ ضرورية للتقدّم.
لو شئنا تقديم هذه الأمور بطريقة مختلفة لقلنا بأن "الخبز" هو الحصة من المدخول الاجتماعي الذي يشترط قطعاً مع الغرب، ويشترط تضامناً ضمن الطبقة العاملة و – بشكلٍ ضروري ولكن ليس حصرياً – الصراع المسلّح ضد الامبريالية.
نحصل على التنمية عبر مزج الأمن بالمقاومة. كان من الممكن للفقر في لبنان أن يكون أسوأ من حاله في مصر لولا حزب الله والمقاومة. بينما يستخدم بعض الزعماء الطائفيين حالة الفقر التي فرضوها على الناس عبر مصارفهم للتفاوض على حصّة أكبر من الريع الامبريالي مقابل تسليم حزب الله.
الطّوق الضيّق للتمويل، أي مليارات الدولارات التي تحتاج إليه بشكلٍ دوري لخدمة الدين، يتمّ حالياً تأخيرها، والامبريالية الأميركية هي التي تقرّر. إنّ في رأسهم خطّة ما وهي تتعلّق بحزب الله


الأزمة في لبنان لم يكن من الممكن تلافيها. السبب الذي دفع المصارف إلى النهب لدرجة أن الدولة تشلّ يتعلّق بأهداف رأس المال في خلق أزمة اجتماعية يمكن أن تُضعف حزب الله. بينما تتهاوى العملة وترتفع كلفة الحياة، يجتهد الطائفيون والمنظمات غير الحكومية في العمل على حرف الانتفاضة. التاريخ الذي تمّ تعقيمه من الايديولوجيا الاشتراكية هو إلى جانبهم. ستحول المنظمات غير الحكومية الصرخات التي تطالب بالعدالة إلى صرخةٍ ضدّ حزب الله. يبدو أن الاشتراط الأميركي هو على النحو التالي: سلموا سلاح حزب الله واحصلوا على التمويل الذي تحتاجون إليه للحفاظ على مستوى حياتكم. ولكن الاقتراض على المدى القصير لن يقوم سوى بتأجيل هجمة الفقر لأشهر معدودة.
حتى نعيد: السبب الذي جعل القطاع المصرفي يستنزف البلد عبر معدلات فائدة ربويّة لمدّة طويلة جداً هو أن سادتهم، الطبقة المالية العالمية، يصنعون أرباحاً أكثر عبر توليد الفقر والحرب في لبنان والمنطقة. قد تقوم الطبقة المالية العالمية، بنزعتها العسكرية، بالتضحية بالطبقة المصرفية اللبنانية الصغيرة. ولكن، كيفما اصطفّت الطوائف في المسرح اللبناني الداخلي، فإن الأحداث في لبنان ستسير بحسب أداء الولايات المتحدة في هجومها القائم على مستوى المنطقة ككلّ.
على مستوى أصغر، فإن مسار هذه الثورة العفوية في لبنان هو امتحان لصلابة اليسار. يجد اليسار نفسه في مواجهة مع منظمات غير حكومية امبريالية، تملك دعماً من دول الخليج، وهي تحاول كسب تأييد الناس اليائسين عبر رشاوى يحتاجون إليها للعيش والبقاء. بينما يخسر الناس مداخيلهم، على اليسار أن يقدم بدائل. حتى تتحول الطبقة العاملة إلى بروليتاريا، عليها أن تلتقي وتصطفّ ضدّ المواقف الرجعية. حتّى الآن، شكّلت العفويّة، مدعّمة بمنظمات غير حكومية ليبرالية أو إسلامية، فخاً انتحارياً بالنسبة إلى اليسار. في مقدور اليسار أن يمارس الانتحار، وفي وسعه أن "يقفز" من البنية الفوقيّة ليصطدم بالقاعدة، ولكن في وسعه أيضاً - عبر الصراع والنضال - أن ينتصر.

* مختارات من نص أطول تم نشره في: www.globalresearch.ca
** علي القادري، مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».