يوجد إقرار عام أن لبنان يعاني من أزمة اقتصادية مالية ونقدية. يذهب البعض إلى القول إن لبنان على طريق الانهيار، أو إنه في حالة الإفلاس، ويعتبر آخرون أنه متعثّر، وترى مؤسّسات التصنيف الدولية أنه بلد عالي المخاطر وقد يعجز عن سداد ديونه. حتى أن السلطة، وهي المسؤولة عما وصلت إليه البلاد منذ اتفاق الطائف، اعترفت بالأزمة بعد مكابرة وإنكار.لكن الإقرار بوجود الأزمة لا يعني الاتفاق على تشخيص أسبابها وسبل التصدّي لها، ما أدّى إلى التخبّط وزيادة المخاطر. ولذلك تداعى أركان الحكم إلى اجتماع في قصر بعبدا، بتاريخ 02/09/2019، وحدّدوا مكامن الخلل بالتالي:
أ- العجوزات في المالية العامّة وفي الميزان التجاري والحساب الجاري.
ب- تراجع حجم التدفّقات المالية من الخارج وزيادة صعوبة تمويل الدولة بالعملات الأجنبية.
ج- الارتفاع المُفرط في حجم الدَّيْن العام.
د- ارتفاع أسعار الفائدة وانعكاسه على خدمة الدَّيْن العام وعلى الاقتصاد والاستثمار.
ه- معدّل نموّ حقيقي ضعيف.
كل هذه المكامن ليست أسباباً للأزمة التي يعاني منها لبنان، وإنّما نتائج للسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المعتمَدة منذ عام 1993. ولكن المجتمعين في بعبدا تجاهلوا الأسباب وناقشوا برنامج عمل أوّلياً يمتدّ على ثلاث سنوات، يتضمّن مزيجاً من إجراءات التقشّف وزيادة ضرائب الاستهلاك وتجميد الأجور وإصلاح نظام ضرائب الدخل وإصلاح النظام التقاعدي وتسريع عمليات الشراكة مع القطاع الخاص في مشاريع البنية التحتية وإصلاح نظام الدعم للقروض.
يعدّ برنامج العمل على سنوات عدّة ضرورياً للخروج من الأزمة، ويتّسم الكثير من الإجراءات المقترحة بأهمّية كبيرة، إلّا أن المرحلة التي بلغتها الأزمة باتت تحتاج إلى تحرّك سريع ينطوي على تحوّل جذري في السياسات نفسها، وهنا تبرز أولوية تخفيض الفوائد وخدمة الدَّيْن العام، التي وضعها اجتماع بعبدا في النهاية بدلاً من الأوّل، أو بمعنى أوضح، جعلها تتمّة للبرنامج المقترح لا أحد الركائز التي يقوم عليها.

معضلة تراكم الدَّيْن العام
لقد تفاقم الدَّيْن العام إلى أكثر من 150% من الناتج المحلّي الإجمالي، واستأثرت خدمة الدَّيْن العام بأكثر من 40% من الإنفاق الحكومي و60% من الإيرادات العمومية، وارتفع سعر الفائدة على القروض إلى معدّل 10.58% على الليرة و9.31% على الدولار، وهي معدّلات لم يشهدها لبنان منذ سنوات طويلة، وباتت تشكّل العائق الأساسيّ أمام حركة الاستثمار وتهدّد باستمرار الركود الاقتصادي على المدى المتوسّط. إذ جذبت أسعار الفائدة المرتفعة رؤوس الأموال إلى المصارف التجارية، وحقّق أصحابها أرباحاً طائلة من دون أيّ مخاطر. وعلى مدى السنوات الماضية، أخذ الدَّيْن العام والعجز المالي بالتراكم، في حين لم ينَل الشعب اللبناني إلّا البطالة والهجرة والتقنين في الكهرباء والتقطير في المياه وتراجع خدمات الصحّة والتعليم وضمان الشيخوخة. لذلك لا يمكن كسر هذه الحلقة إلّا بتخفيض سعر الفائدة، واتخاذ قرار جريء يقضي بتصفير الفوائد في الموازنة العامّة لمدّة ثلاث سنوات على الأقل، يجري خلالها تنفيذ برنامج طموح لتحويل الموارد من الريع إلى الإنتاج.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لكن، بدلاً من اتّخاذ القرار الحاسم بخفض سعر الفائدة وخفض الدَّيْن العام، وبالتالي خفض عجز الموازنة والخروج من الحلقة المُقفلة، تذهب الورقة التي ناقشها اجتماع بعبدا إلى طرح حلٍّ ضبابي:
أ – «العمل على تقليص حجم الدَّيْن العام من خلال اعتماد الشراكة بين القطاعَين العام والخاص، وتشركة مؤسّسات عامّة ذات طابع تجاري وهيئات غير استراتيجية، وطرح نسبة من أسهمها للجمهور». وهذا يعني التخلّي عن القطاع العام وخصخصته في ظروف مالية واقتصادية غير ملائمة، ما يؤدّي إلى البيع بأسعار متدنية جداً، وتكبيد مالية الدولة خسائر إضافية. فضلاً عن أن الخضخضة ليست هي الحلّ، والتجارب اللبنانية تدل على ذلك.
ب- «التعاون بين وزارة المال ومصرف لبنان من أجل تحسين إدارة السيولة والدَّيْن العام، وتخفيض تدريجي لمعدّلات الفوائد. كما التفاهم بين وزارة المال ومصرف لبنان والمصارف التجارية لخفض خدمة الدَّيْن العام بالتوازي مع الإصلاحات المالية والاقتصادية». وهذا يعني تحويل الثلاثي (وزارة المال ومصرف لبنان والمصارف التجارية) إلى هيئة عليا تحكم البلاد، خلافاً لأحكام المادة 65 من الدستور التي تمنح مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحية وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات واتّخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها.
على أيّ حال، يتحمّل الثلاثي المذكور قسطاً وافراً من المسؤولية عن الأزمة القائمة في لبنان. فوزارة المال هي المسؤولة عن انخفاض الجباية الضريبية وعدم مكافحة التهرّب الضريبي وتراخي رقابتها على الإنفاق الحكومي، فضلاً عن اعتمادها سياسة التسويات الضريبية والإعفاءات الضريبية، ومنها إعفاء فوائد سندات الخزينة بالعملة الأجنبية من الضريبة. ومصرف لبنان هو المسؤول عن تنفيذ سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، ما أضعف ميزانيته وساهم في حجب التمويل عن الاقتصاد اللبناني وحمّل المالية العامّة أعباء تفوق قدرتها بسبب الفوائد السخيّة والهندسات المالية. أمّا المصارف التجارية فهي المستفيد الأكبر، إذ أن الفوائد التي جرى تسديدها على الدَّيْن العام منذ عام 1992 وحتى نهاية حزيران/ يونيو 2019 بلغت أكثر من 83 مليار دولار. وعلى الرغم من الأرباح الطائلة التي جنتها المصارف، إلّا أنها ترفض الاكتتاب بسندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%.
يبقى الأسوأ في الطرح الذي تبنّاه اجتماع بعبدا هو ربط الخفض التدريجي لمعدّلات الفوائد وخدمة الدَّيْن العام بالتقدّم في تنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية، ما يعني الانتظار لوقت طويل فيما الأزمة القائمة تؤدّي إلى زيادة أسعار الفوائد وبالتالي زيادة كلفة خدمة الدَّيْن. ما يجعل المردود المتوخّى من هذه الإصلاحات غير ذي جدوى أمام تنامي كتلة الدَّيْن العام وفوائده وركود الاقتصاد.

تجاهل الأسباب والتعامل مع النتائج
على الرغم من أن اجتماع بعبدا استعرض الوقائع والنتائج، إلّا أنه لم يوفّق في تحديد الأسباب الحقيقية للأزمة، وتجاهل طرح الحل الجذري للتصدّي للأسباب والنتائج معاً.
جاء في مقدّمة مشروع الموازنة لعام 2020 أن «المعالجات المُقترحة منذ نهاية الحرب حتّى اليوم، أثبتت فشلها الكبير في تصحيح الوضع اللبناني المتأزّم، وفي إعادة البلاد إلى النموّ المستدام والعدالة الاجتماعية، وانطلاق الطاقات والمبادرات التي من شأنها إعادة تكوين النسيج الذي يؤمّن النجاح الاقتصادي والاستقرار المالي والأمني والسياسي (...) وأصبح من الضروري جدّاً أن تقوم الحكومة اللبنانية بانعطافة كبيرة في مجال إدارة الوضع المالي، وفي مراقبة الوضع الاقتصادي والتنموي والاستثماري بشكل مختلف، يترجم في أرقام الموازنة وفي الخيارات الأساسية وفي طريقة التعاطي مع المال العام».
إلّا أن ما يجري طرحه لا يتوافق مع ما ورد في هذه المقدّمة ولا مع الكثير من التصريحات والتقارير التي تدعو إلى اتخاذ قرار سياسي موحّد حول مشروع إنقاذي يفتح آفاقاً جديدة على الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية في مواجهة الأزمة. وهذا ينطبق على مشروع قانون موازنة عام 2020 كما على مضمون بيان اجتماع قصر بعبدا والأوراق المتعدّدة التي تقدّمت بها الأحزاب المشاركة في الحكومة.
ازداد عجز الموازنة بنحو 767 مليار ليرة بالمقارنة مع عام 2019، وجاءت هذه الزيادة بالدرجة الأولى في فوائد الدَّيْن العام


فبدلاً من التركيز على خفض الفوائد ومدفوعاتها، يتمّ حجب المال عن الضمان الاجتماعي ولا تُدفع مستحقّاته، ويتمّ فرض المزيد من الضرائب على الاستهلاك والاقتطاعات من معاشات التقاعد، ويتمّ أيضاً تلزيم البنية التحتية عن طريق الاتفاقات بالتراضي، ومنها صفقات بواخر الكهرباء بكلفة عالية، ويتمّ أيضاً تقليص صلاحيات إدارة المناقصات العامّة، والإمعان في الكسب غير المشروع من المقالع والكسّارات واستفحال أزمة النفايات وزيادة كلفتها وعدم جباية أي إيراد من الأملاك العامّة البحرية، ويستمرّ التوظيف غير النظامي في القطاع العام والتسويات الضريبية المخالفة للدستور والإعفاءات الضريبية المخالفة لمبدأ العدالة الضريبية... وفي المقابل، لا تتمّ ترجمة الكلام عن تحفيز الإنتاج ولا تفسيره في النصوص القانونية، وأهمّها الموازنة العامّة، لا سيّما أن الكلام عن تحفيز الإنتاج يعني قبل أيّ شيء آخر اعتماد نظام ضريبي جديد يعاقب الاقتصاد الريعي وينزع منه الحوافز الضريبية الحالية ويحوّلها إلى الاستثمار المُنتج في الصناعة والزراعة والخدمات، فضلاً عن تخفيض أسعار الفائدة وزيادة الاستثمار في البنية التحتية.
ما يحصل هو عكس ذلك، فنسبة الإنفاق الاستثماري الحكومي (على سبيل المثال) تراجعت من 9.7% عام 2018 إلى 7.1% عام 2019 وإلى 5.4% في مشروع موازنة 2020. وعلى الرغم من ذلك، يتبيّن في مشروع موازنة عام 2020 أن النفقات الجارية ازدادات بمقدار 1028 مليار ليرة، وكذلك ازداد عجز الموازنة من 4323 مليار ليرة إلى 5090 مليار ليرة، أي بزيادة قدرها 767 مليار ليرة ونسبتها 17.74%، وجاءت هذه الزيادة بالدرجة الأولى في فوائد الدَّيْن العام التي ازدادت بمقدار 882 مليار ليرة.
وفق مقدمة مشروع الموازنة لعام 2020 فإن الدولة لا تملك، على الرغم من إنفاقها آلاف المليارات، أي صورة واضحة وشاملة للمشاريع المنفّذة لصالحها، ومن ضمنها تلك المنفّذة من قِبل مجلس الإنماء والإعمار. وفي ظل هذه الضبابية تركّز الطروحات على تنفيذ برنامج الاستثمارات العامّة (سيدر)، المموَّل بالقروض الخارجية ووفق شروطها. بمعنى ترك الفوائد تقضم الموازنة العامّة في حين ترك الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية وتحفيز الإنتاج لمشيئة الدائنين ومصالحهم.
طالما أن الحكومة لا تملك حلّاً للأزمة. فهل يتجرّأ أصحاب القرار السياسي والمالي على خفض سعر الفائدة، لكي يدفع رأس المال للاستثمار في القطاعات الإنتاجية بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد الريعي، الذي يفاقم التباطؤ والانكماش ويزيد البطالة. وهل يتجرأون على خفض خدمة الدَّيْن إلى أدنى مستوى كي يتم حشد الموارد المالية في برنامج للخروج من الأزمة والنهوض بالاقتصاد والمجتمع؟

* مدير المؤسّسة اللبنانية للخدمة الضريبية
* النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان
* مدير المحاسبة العامّة السابق في وزارة المال