كل مقاربة للإصلاح الاقتصادي تستند إلى رؤية سياسية. فالهندسة الاقتصادية المطلوبة تعكس توجّهاً سياسياً لا يمكن إغفاله. كما أن العلاقة بين السياسي والاقتصادي علاقة عضوية، لا سيّما أن الاقتصاد ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام. والتوجّه السياسي المطلوب، خارجياً وداخلياً، هو على نقيض التوجّهات والسياسات المتّبعة منذ الاستقلال والتي هي المسؤولة عن الواقع الاقتصادي القائم، وبالتالي لا بدّ من تغيير جادّ، وليس الترقيع أو إعادة تأهيل ما لا يمكن تأهيله. لا ندعو إلى إقامة اقتصاد اشتراكي يعتمد المركزية في التخطيط والتنفيذ (علماً أن التجربة الصينية يجب درسها)، بل ندعو إلى بناء اقتصاد متوازن في القطاعات الإنتاجية وخارج عن الطابع الريعي وغير منكشف تجاه الخارج، أي الغرب، والتوجّه جغرافياً واقتصادياً وسياسياً نحو الشرق. كما التوجّه نحو إعادة تأهيل القطاع العام وترشيده والحفاظ على قوّامته وإلزام القطاع الخاص في تنفيذ مسؤوليّاته تجاه البيئة. في هذه الورقة سنعرض أوّلاً مقاربة مقتضبة للنظام الاقتصادي القائم، ثم سنعرض ثانياً أهداف الإصلاح الاقتصادي المطلوب، وثالثاً ملامح الاستراتيجية لتحقيق الإصلاح
أولاً
طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني
يعاني لبنان من أزمة مزدوجة: فمن جهة هناك خلل نظامي طغى على بنيته الاقتصادية، كما أن الأزمة البنيوية أدّت بدورها إلى المزيد من الخلل في النظام القائم. الخلل في البنية الاقتصادية يعود إلى التركيز على قطاع خدماتي ريعي وطفيلي في آنٍ واحد على حساب القطاعات الإنتاجية. أدّى هذا التركيز إلى تمركز الثروة في لبنان في يد مجموعة قليلة على حساب الشرائح الواسعة من الشعب اللبناني. وتتحكّم هذه الحلقة المفرغة بدينامية الأمور ما يجعل الكلام التقليدي عن الإصلاح الاقتصادي دون جدوى أو قابلية للتنفيذ.
أشار الدكتور جورج قرم الى أن لبنان شهد منذ الاستقلال تنافساً بين مشروعين اقتصاديين:
- المشروع الأول، منبثق عن فكر ميشال شيحا، أي أن تكون مَهمّة لبنان الوساطة بين الدول العربية، التي كانت تفتقر إلى البنية التحتية والمالية المطلوبة للقيام بمهامها التنموية عند حصول استقلالها من المستعمر الأوروبي. كان التركيز في لبنان على نموذج معيّن من اقتصاد منعوت بالحرّ، يركّز على قطاع الخدمات، وإن كان على حساب القطاعات المنتجة التقليدية كالزراعة والصناعة. وكان النموذج الاقتصادي المتّبع مرآة للصفقة السياسية، حيث تمّ الاتفاق على التخلّي عن التبعية للغرب عموماً وفرنسا خصوصاً من جهة، في مقابل التخلّي عن المطالبة بالوحدة مع سوريا. لذلك كان «الدور الطبيعي» للاقتصاد اللبناني «الوساطة» بين العمق العربي والغرب.
- المشروع الثاني، أطلقه الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي حاول أن يصون بنية النظام السياسي القائم عبر ترويج مفهوم التنمية المتوازنة. فكانت بعثة «إرفد» الشهيرة تحت إشراف الأب لوبريه، التي قامت بأوّل وآخر مسح شامل للاقتصاد اللبناني، مركّزة على البعد الاجتماعي الغائب في النموذج الشيحي. والجدير بالذكر أن النموذج التنموي والنهج السياسي لفؤاد شهاب ترافقا مع المشروع القومي السائد في المنطقة العربية في الستينيات. إلّا أن البيوت السياسية اللبنانية انقضّت على النهج الشهابي والنموذج التنموي بعد هزيمة 1967 وغياب المرجعية القومية الضابطة للانحرافات القومية والإقليمية. فعاد النموذج الشيحي، يبعثه إقفال قناة السويس والطفرة الأولى لارتفاع أسعار النفط في مطلع السبعينيات، إلى أن انفجرت الحرب اللبنانية وقضت على النموذج الشيحي بصيغته القديمة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

بعد حقبة الحرب اللبنانية جاء اتفاق الطائف وأتى معه من يروّج لإحياء النموذج الشيحي للاقتصاد اللبناني، باغياً استرجاع مكانة لبنان كمركز خدماتي من طراز أوّل من دون أن يعي المتغيّرات الجذرية التي حصلت في المنطقة وفي العالم. فعلى صعيد المنطقة استطاعت الدول العربية أن تستكمل بناء هيكلياتها التحتية وتستبدل الخدمات اللبنانية بخدمات غربية وشرقية نتيجة غياب لبنان المُنهك بالحرب الأهلية. كما أن انفجار الثورة التكنولوجية في المواصلات ووسائل النقل أتى بموجة العولمة التي قضت على مفهوم الوساطة الاقتصادية بمفهومها التقليدي. فدول الخليج استطاعت أن تتجاوز ما كان يقدّمه لبنان لها، بل يمكن القول إنها أصبحت راشدة وعالمة بمصالحها وغير محتاجة إلى «الخبرة» اللبنانية التقليدية. حاولت الحقبة الحريرية خلال التسعينيات أن تتجاهل تلك الحقائق حالمة باسترجاع مكانة لبنان كمركز خدماتي يتطلّب إعادة بناء البنية التحتية التي تؤهّله للقيام بذلك الدور، مراهنة على مشروع سلام في المنطقة رفضه الكيان الصهيوني مع اغتيال رئيس وزراء كيانه عام 1995. اكتفت السياسة الحريرية بالتركيز على القطاع العقاري والقطاع المالي وتسخير الدولة لخدمة القطاعين فقط، ما أسفر عن مديونية عامّة حقّقت أرقاماً قياسية بالنسبة للناتج الداخلي حيث وصلت إلى 150%.
هذا العرض السريع لطبيعة النظام الاقتصادي اللبناني ضروري لتبيان الفارق مع ما هو مطلوب للخروج من المأزق الخانق القائم. وهذا يدفعنا إلى تحديد الأهداف، ثم الاستراتيجية المطلوبة بما فيها القرارات السياسية الضرورية، وإعادة الاعتبار إلى فكر التخطيط المركزي الذي أثبت تاريخياً جدواه في العديد من الدول كالصين حالياً، وإلى الإجراءات المؤسّسية والعملية لتنفيذ الخطة.

ثانياً
الأهداف من الإصلاح الاقتصادي
الهدف الأول، هو الخروج من المستنقع الذي يحيط بالنشاط الاقتصادي اللبناني، والمضي في إعادة الاعتبار إلى الاقتصاد العيني الفعلي الإنتاجي، عبر دعم القطاعات الإنتاجية كافة التي أُهملت منذ بدء العمل باتفاقية الطائف.
الهدف الثاني، هو إعادة التنمية في مختلف المناطق، التي أُهملت بسبب سياسات الحكومات المتتالية في حقبة جمهورية الطائف، بما فيها مناطق الشمال والبقاع التي تجاهلتها النخب الحاكمة خلال العقود الثلاثة الماضية.
الهدف الثالث، هو تقليص هجرة الطاقات المُنتجة من عقول ومهارات، وإيجاد فرص للإبداع والإنتاج.
الهدف الرابع، هو مقاربة الفوارق الاجتماعية التي أوجدتها سياسات الريع والمحسوبية وإهمال الطبقات الوسطى والفقيرة. فلا إصلاح اقتصادي ولا تنمية ممكنة مع إهمال الواقع الاجتماعي بين مكوّنات الشعب في لبنان.
الهدف الخامس، هو تخفيف الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج وخصوصاً التبعية للغرب.
هذه الأهداف، وخصوصاً الهدف الخامس، تتطلّب اتخاذ سلسلة من الخيارات والسياسات التي تُنهي التبعية للريع وللخارج الغربي ولا سيّما المؤسّسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبحيث تعتمد السياسات الجديدة على سياسة التشبيك العربية (سوريا، العراق، الأردن، فلسطين عند التحرير، وفي مرحلة لاحقة الدول العربية في شمال أفريقيا والجزيرة العربية) والإقليمية (الجمهورية الإسلامية في إيران، تركيا) والدولية (الكتلة الأوراسية وأفريقيا (جنوب أفريقيا)، وأميركا الجنوبية كـ(فنزويلا، البرازيل وكوبا). فلبنان لا يستطيع أن يحقّق شيئاً خارج إطار التشبيك العربي والإقليمي، وهذا تحوّل كبير وجديد في الذهنية المطلوبة من النخب الحاكمة.

ثالثاً
استراتيجية الإصلاح الاقتصادي
المحاور الأساسية: هيكلة الدَّيْن العام، استخراج النفط والغاز، إعادة بناء البنية التحتية. كيف؟ عبر الترشيد والتشبيك، والتوجّه للشرق للتمويل والتقنية، وإعادة الاعتبار إلى التخطيط المركزي.
ملاحظات تمهيدية: تعتمد الاستراتيجية سياسة التركيز على أولويات في المدى المنظور، ثم في المدى المتوسّط وفي المدى الطويل.
من الواضح أن العبء الأكبر يقع على عاتق الدولة. فالقطاع الخاص، على الرغم من الادعاءات بحيويته وإبداعه، لم يكن يوماً البديل الفعلي عن القطاع العام والدولة. فلا فعالية للقطاع الخاص من دون وجود القطاع العام، حيث ينظر القطاع الخاص إلى «واجبات» الدولة من دون التكلّم عن «واجباته» هو!
الدولة، عبر القطاع العام، لها مسؤولية تأمين البنية التحتية من شبكة طرقات ومواصلات وتواصل وطاقة. يستطيع القطاع الخاص عبر المبادرات الفردية أو الشركاتية القيام بالاستثمار المنتج بدلاً من المضاربات في القطاعات العقارية والمالية بغية تحقيق الربح من دون مجهود ومخاطرة. ونستغرب دائماً نداءات الفعاليات الاقتصادية إلى إجراء «إصلاحات» (في معظمها نداءات للخصخصة!) من دون أن تقدّم رؤية متكاملة للبنية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان ومن دون تحديد المسؤوليات والموجبات. فأين مسؤولية وموجبات القطاع الخاص وخصوصاً تلك التي تتعارض مع البيئة الطبيعية والاجتماعية؟
ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها؟
1- الأولويات في المدى المنظور:
المدى المنظور هنا هو فترة لا تتجاوز السنتين. وإذا كان لا بدّ من الدولة أن تقوم بمسؤوليّاتها الإنمائية والتنموية فعليها أن تحرّر مواردها المالية من عبء الدَّيْن العام. تتراوح التقديرات للدَّيْن العام بين 85 و100 مليار دولار وفقاً لطرق الاحتساب، ما يجعله في المرتبة الثالثة في العالم من حيث نسبة الدَّيْن العام إلى لناتج الداخلي والذي يتجاوز 150%. بلغت الموازنة العامّة ما يوازي 16 مليار دولار، بينما بلغت خدمة الدَّيْن (أي الفوائد ورأس المال المستحق) 8،9 مليارات دولار لعام 2018، وهو ما يوازي أكثر من نصف الموازنة، هذا إذا صحّت الأرقام المتداولة!
فهل يجوز أن تصرف الدولة ما يوازي نصف ميزانيتها على خدمة دَيْن عام لا تستفيد منه إلاّ القلّة، أي المصارف اللبنانية الحاملة لسندات الخزينة؟ إن إعادة هيكلة الدَّيْن لتضحى خدمته لا تتجاوز 10% من إجمالي الموازنة، ما يتيح الفرصة للدولة للقيام بمشاريع استثمارية طويلة المدة، كإعادة تأهيل بعض المرافق الحيوية أو مشاريع جديدة تمكّن القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة وتزيد من قدرتها التنافسية. على أن تكون هذه المشاريع في شبكة المواصلات كسكك الحديد التي تربط مختلف المناطق بعضها ببعض وتشبّك العلاقة مع الداخل المشرقي العربي وحتى الإقليمي كسوريا والأردن والعراق من جهة والجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا من جهة أخرى. أمّا على الصعيد الداخلي، فتعدّ شبكة النقل المشترك الشعبي ضرورة ملحّة تستدعي إعادة تأهيل شبكة سكك الحديد والباصات وما يعادلها من مواصلات محرّكة بالكهرباء أو الغاز.
إذاً، تكمن الأولوية في إعادة هيكلة الدَّيْن العام لتخفيض حجم خدمته السنوية إلى أقل من 10% من الموازنة العامّة سنوياً. وهناك سيناريوات عدّة لإعادة الهيكلة تتناول توحيد الدَّيْن العام إلى كتلة واحدة مدّتها 25 سنة أو أكثر وبفائدة مخفّضة لا تتجاوز معدّل التضخّم إلاّ بنسبة بسيطة. نعي أن العبء الأكبر سيكون على المصارف اللبنانية التي استفادت لأكثر من عقدين من فوائد مرتفعة وربوية ومن ثبات سعر صرف العملة اللبنانية من دون أي مخاطر تحمّلتها المصارف.
أما المواطن اللبناني فلا مسؤولية عليه من تحمّل عبء إعادة هيكلة الدَّيْن، الذي لم يستفد منه خلال العقود الماضية، لأن الدَّيْن العام صُرف لتسديد دَيْن عام سابق تمّ الاقتراض به بفوائد مرتفعة جدّاً ولآجال قصيرة جدّاً لتمويل مشاريع طويلة المدى، والتي لم تنجز (الكهرباء والماء على سبيل المثال). وهنا لا بدّ من فتح تحقيق قضائي حول جدوى تلك السياسات التي خالفت أبسط معايير علم الاقتصاد والمال، ومحاسبة المسؤولين عن ذلك المساس بسلامة الاقتصاد الوطني.
وترافق إعادة هيكلة الدَّيْن عملية ترشيد نفقات الدولة عبر:
- أولاً، منع الهدر المالي الناتج عن استباحة أصول عائدة للدولة لمصالح خاصّة تحميها قوى سياسية.
- ثانياً، عدم الإسراف في الإنفاق إلاّ ضمن الضرورة القصوى.
الموضوع لا يعني تخفيض الرواتب والأجور وتعويضات نهاية الخدمة، بل يعني مراكز الهدر والإسراف وهي عديدة لا مجال لتعدادها كنفقات السفر للمسؤولين وحاشياتهم على سبيل المثال.
هذا يعني أيضاً ترشيد سياسة الاقتراض بشكل عام، والارتكاز على الاقتراض بالليرة اللبنانية، وليس بالعملات الأجنبية. وطالما الدَّيْن العام داخلي فإن إمكانية التدخّل في السيادة اللبنانية تبقى محصورة. لا يجب أن يتبع لبنان مسيرة اليونان الذي أصبح خاضعاً كلّياً للمؤسّسات الدولية. كما أن الاقتراض يجب أن يقترن بمشاريع محدّدة وليس بشكل عام لتمويل الإدارة.
الأولوية الثانية في المدى القصير، هي إعادة تأهيل قطاع الكهرباء عبر التفاهم مع شركات صينية أو إيرانية، عرضت بناء محطّات لتوليد الكهرباء من دون تحمّل الدولة اللبنانية عبء البناء. ويكون ذلك على قاعدة «بناء ثمّ إدارة تمّ تسليم»، أي أن يُعطى للشركة امتياز استثمار المحطّات لفترة تستطيع استرجاع استثمارها. وكذلك الأمر بالنسبة لمحطّات المياه التي يجب إعادة تأهيلها وفقاً للخطّة نفسها. المهم هنا أن تبقى المرافق الاستراتيجية ملكاً للدولة اللبنانية، ولكن بإدارة القطاع الخاص وفقاً لمعايير تضعها الدولة.
الأولوية الثالثة، تكون في مباشرة استخراج النفط والغاز ضمن فترة لا تتجاوز السنة لتوفير السيولة للدولة، تمكّنها من المباشرة في تنفيذ مشاريع إنمائية متوسّطة وطويلة الأجل، كما تساهم في خدمة الدَّيْن العام بعد إعادة هيكلته.
الأولوية الرابعة، هي إعادة العلاقات مع سوريا وتفعيل الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية والأمنية. فسوريا هي الرئة التي يتنفّس من خلالها لبنان، كما أنها ستكون مركز انطلاق نهضة اقتصادية كبيرة في الإقليم عند بدء إعادة الإعمار. والتشبيك مع سوريا ضرورة حيوية للاقتصاد اللبناني ناهيك عن الاعتبارات السياسية.
2- الأولويات على المدى المتوسّط:
المدى المتوسّط هو بين ثلاث وسبع سنوات. في خلال تلك الفترة تباشر الدولة في تنفيذ مشاريع تطوير شبكة سكك الحديد في البلاد بغية ربط المناطق بعضها ببعض، وبغية تخفيف العبء السكّاني عن العاصمة والمدن الكبرى. كما أن تلك الشبكة ستخلق فرص عمل يستفيد منها المواطن. بإضافة إلى شبكة سكّة الحديد، تقوم الدولة بإنشاء وسائل نقل مشترك داخل المدن لتخفيف استعمال السيّارات الخاصة. وهذه الوسائل تكون مسيّرة كهربائياً للتخفيف من التلوّث. وتلفّ هذه الشبكة العاصمة وضواحيها والمحاور الرئيسية داخلها.
الأولوية الثانية على المدى المتوسّط، هي الاستثمار في تحسين جباية الضرائب وفقاً للقوانين الموجودة، وخصوصاً فيما يتعلّق بضريبة القيمة المضافة. ففي عام 2014 بلغ عدد المتهرّبين من الاشتراك في دفع ضريبة القيمة المضافة من شركات وأفراد ما يوازي 20 ألف مشترك، وذلك وفقاً لما صرّح به الوزير السابق فادي عبود على شاشة قناة «الجديد». بغضّ النظر عن دقّة تلك التقديرات التي قدّمها عبود فلا بدّ للدولة من ضبط الخلل.
الأولوية الثالثة، هي إعادة الأموال المصادرة عشوائياً للتعاونيات، التي لا تزال ترزح تحت وطأة الشحّ المالي الناتجة عن قرارات حكومات سابقة وعن عدم تنفيذ أحكام مجلس شورى الدولة لصالح التعاونيات. وتفعيل التعاونيات ضروري للمستهلك اللبناني وخصوصاً صاحب الدخل المحدود.
الأولوية الرابعة، هي إعادة الاعتبار للتخطيط المركزي والتنسيق بين وزارات المال والاقتصاد في ما يتعلّق بالمشاريع الاقتصادية. مجلس الإعمار الذي حلّ مكان وزارة التخطيط لم يستطع أن يقدّم رؤية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للبنان. اختصرت مهمّته في إعداد مشاريع غير مترابطة وغير منسّقة وغير معنية بالبعد الاجتماعي والبيئي لها. ويترافق مع إعادة الاعتبار للتخطيط المركزي، إعادة النظر في الطاقم الذي أدار السياسات المالية والنقدية في لبنان ليكون منسجماً مع توجّهات الدولة وليس العكس.
الأولوية الخامسة، تكمن في فكّ الارتباط بالدولار، لا سيّما أن الشريكين التجاريين الأكبرين للبنان هما الصين والاتحاد الأوروبي.
التوجّه السياسي المطلوب هو على نقيض التوجّهات والسياسات المتّبعة منذ الاستقلال، وبالتالي لا بدّ من تغيير جادّ وليس الترقيع أو إعادة تأهيل ما لا يمكن تأهيله

فليس هناك من مبرّر اقتصادي لربط الليرة اللبنانية بالدولار، إلاّ اعتبارات سياسية كانت تعكس في الماضي ميزاناً للقوّة لم يعد قائماً اليوم. فالتوجّه نحو الشرق مع الحفاظ على علاقة مع الاتحاد الأوروبي هو التوجّه المستقبلي الحتمي. وفكّ الارتباط بالدولار يخفّف من وطأة العقوبات الأميركية على لبنان طالما أن لبنان يحضن المقاومة ضد الكيان الصهيوني. من جهة أخرى، النظام المصرفي القائم في لبنان، وإن كان مسؤولاً مباشراً عن تفاقم الدَّيْن العام، إلاّ أنه مستهدَف من قبل الكيان الصهيوني. فالعقوبات الأميركية المفروضة بحجج واهية تستهدف متانة النظام المصرفي اللبناني وهي مؤامرة بدأت في الستينيات من القرن الماضي في استهداف بنك انترا والتدمير الممنهج للنظام المصرفي.
أخيراً يجب الانتهاء من التفكير في خصخصة بعض مرافق الدولة الاستراتيجية كالكهرباء والمياه ومطار بيروت. كما ندعو إلى تفعيل دور الشركة الوطنية للنفط والغاز الذي تمّ تجاوزها بالاتفاقات المعقودة مع الشركات الأجنبية.
3- الأولويات على المدى الطويل:
الأولويات هنا مزدوجة. من ناحية هناك ضرورة لترسيخ قاعدة إنتاجية عينية في الزراعة والصناعة وبعيدة عن حيثيات الاقتصاد الريعي الطفيلي، ومن جهة أخرى ضرورة القيام بتنمية متوازنة في القطاعات الإنتاجية وفي المناطق اللبنانية على حد سواء. وهذا يتطلّب إعداد خطط تنموية رباعية أو خماسية، تحدّد الأهداف لكل سنة، ولكل قطاع ولكل منطقة. وهذه الخطط تبدأ من اليوم حيث لن تظهر نتائجها إلاّ بعد فترة طويلة نسبياً.

رابعاً
العوائق
تكمن العوائق على الصعيد اللبناني في التركيبة الطائفية، وضمن تلك التركيبة المصالح الضيّقة لفعّاليات داخل الطوائف وعابرة للطوائف. والتركيبة السياسية غطاء فعّال للفساد على المستويات كافة (سياسياً، اقتصادياً، مالياً، اجتماعياً، ثقافياً وبيئياً). كما أن التركيبة السياسية منذ الاستقلال ارتبطت بالتبعية شبه المطلقة للغرب ولوكلاء الغرب في المنطقة. فالتوجّه شرقاً للخروج من المأزق الاقتصادي سيصطدم بهذا الواقع.
على الصعيد الإقليمي العربي، لن يرضى وكلاء الولايات المتحدة بتوجّه لبنان شرقاً للمساعدة الاقتصادية. ولا يزال الوكلاء يملكون أوراقاً يبتزّون بها النخب اللبنانية كالتهديد بالتضييق على اللبنانيين الذين يعملون في دولهم أو حتى طردهم.
على الصعيد الدولي، فلا الولايات المتحدة ولا فرنسا الدولة المستعمِرة (بكسر الميم الثانية) سابقاً ستقبلان بالتوجّه إلى الشرق. ولا تزالان تملكان بدورهما أوراقاً تستطيعان ابتزاز النخب الحاكمة.
إذاً، في مطلق الأحوال هناك ضرورة لمقاومة اقتصادية للتدخّلات الخارجية في الاقتصاد اللبناني وتوجّهاته. فلا فرق بين مقاومة المحتلّ للأرض ومقاومة المحتلّ للقرار الاقتصادي والاجتماعي.

* كاتب وباحث اقتصادي وسياسي الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي