«في الاقتصاد تأخذ الأمور وقتاً لتحصل أكثر ممّا تظن، وبعدها تحصل بسرعة أكثر ممّا كنت تظن»
روديجر دورنبوش



حسناً فعل المصرف المركزي بوضعه قيوداً، ولو بشكل غير رسمي، على التعامل بالدولار الأميركي، فهذا يعني أنه لا يزال يدافع عن الليرة اللبنانية على الرغم من الضغوط التي نجمت عن أزمة ميزان المدفوعات التي جعلته يخسر نحو 6.8 مليار دولار من احتياطه منذ أيار/ مايو 2018. فهذه القيود على الصرف (exchange controls)، هي الخيار البديل عن تخفيض سعر صرف العملة في هذه الحالة. فبهذا التدبير، يحاول المصرف المركزي تقنين الدولار بالكمّية بدلاً من تقنينه بالسعر، وفي هذه المرحلة، وتحت هذا الضغط، وفي المدى القصير، هذه سياسة جيّدة. كذلك إن نجاح هذه السياسة، حتّى الآن، مرجّحة لأسباب اقتصادية-سياسية، تؤدّي - في هذا الإطار - إلى عدم وجود سيولة كبرى تحاول المضاربة ضدّ الليرة، ما عدا ما يحدث من عمليّات صغيرة لدى الصرّافين، والتي يحاول البعض تضخيمها. طبعاً، كل هذا لا يعفي المصرف المركزي وسياسته النقدية، ولا السياسات الاقتصادية والمالية عامة منذ 1992، من مسؤولية الوصول إلى هذا الوضع.
في هذا السياق، يحاول البعض من الموقع الليبرالي أن ينتقد المصرف المركزي الذي طبّق سياسة مُمنهجة كهذه لأوّل مرّة في تاريخه. طبعاً، بعض هذا «الانتقاد» الضمني هو للدفاع عن الأسواق الحرّة، فهناك من يحاول اليوم أن يتّهم المصرف المركزي بأنه يتدخّل في الاقتصاد الحرّ أو أنه علّق العمل به. بالتأكيد، المصرف المركزي أبعد من أن يكون مُغرّداً خارج سرب «الاقتصاد الحرّ»، ولكن في هذه الظروف بالذات، وإذا أراد الاستمرار في سياسة تثبيت سعر صرف العملة عليه فعل ذلك، وهذا لا علاقة له بالموقف من الاقتصاد الحرّ. وفي النطاق الأوسع، فإن المصرف يتصرّف كجزء أساسي من الاقتصاد السياسي اللبناني الذي يحاول الدفاع عن سياسة تثبيت سعر الصرف بكلّ الوسائل المتاحة من السياسات الكلاسيكية في رفع الفائدة، إلى «الهندسات المالية»، إلى جذب الودائع والاستدانة (عملية غولدمان ساكس)، وأخيراً إلى هذه السياسات التدخّلية في سوق القطع.

الاقتصاد السياسي vs كروغمان
طبعاً، أتت هذه الإجراءات لتزيد من تواتر السؤال الكبير الذي يُسأل هذه الأيام: «هل ستنهار الليرة أمام الدولار؟». طبعاً، الجواب على سؤال كهذا، لسوء الحظ، يتعدّى الإجابة بنعم أو بلا، إلّا إذا أراد البعض طبعاً أن يلعب دوراً في التنجيم الذي أصبح رائجاً حالياً في بلد يبتعد الناس فيه عن الواقعية والعلم والعقلانية (راجع مقال «الدولة والثروة... الريعية والتنجيم»). بالطبع، هناك، بالإضافة إلى «المنجّمين المزمنين»، «الاعتذاريون» (Apologists) الذين لا يقدّمون أيّ تحليل وإنّما دفاعاً سطحياً واستعلائياً عن سياسات الدولة، وهناك «الإنذاريون» الذين يرون في كلّ منعطف أزمة كبرى. طبعاً، المسألة، ككلّ الأمور الاقتصادية، لهي أعمق من ذلك بكثير. فلو كانت الأمور «تقنية» فقط، أي أن قيمة الليرة تتبع بعض المؤشّرات الاقتصادية، فكان يجب أن تنهار (أو يَتغيّر سعرها)، ليس اليوم، بل في منعطفات عدّة، أولها منذ 20 عاماً تقريباً حين كانت بعض المؤشّرات، التي عادة تُستعمل في التنبؤ أو الاستشراف بتخفيض سعر الصرف، «سيّئة» في لبنان. ففي عام 1998، كانت بعض تلك المؤشّرات تُنذر بالتخفيض من حجم الكتلة النقدية إلى الناتج المحلّي، إلى درجة الارتفاع الحقيقي لسعر الصرف إلى حدوث فورة في الإقراض، والتي كانت أرقامها شبيهة بتلك التي كانت في الأرجنتين والمكسيك والفيليبين قبل أن تحصل فيها أزمات نقدية. لكن هذا لم يحصل في لبنان في تلك الفترة، وما زالت الليرة ثابتة حتى اليوم.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

السبب هو الاقتصاد السياسي لحماية الليرة في لبنان على الأقل، الذي لا يزال صامداً حتّى الآن، وهو متمثّل بالترويكا: المصارف، المصرف المركزي، والدولة. كما أن الجوّ الشعبي، بالإضافة إلى الأحزاب السياسية وقطاعات البورجوازية المختلفة والنقابات العمّالية كلّها مع ثبات الليرة. بالتالي في ظلّ اقتصاد سياسي مماثل، فإنه يمكن الدفاع عن الليرة حتّى في أحلك الظروف، فقرار أو حصول التخفيض يتمّ بطريقتين: إمّا الدولة، ومن ضمنها المصرف المركزي، تقرّر التخلّي عن التثبيت لأسباب اقتصادية (أو تحت الضغط السياسي للبورجوازية أو العمّال)، وإمّا الأسواق تؤدّي إلى أزمة نقدية عبر المضاربة أو بيع السندات أو عدم شراء السندات الحكومية الجديدة. حتّى الآن، الظروف غير متوفرة لهاتين الطريقتين في لبنان. طبعاً، هنا لا بدّ من وضع إشارة إلى أن الصراع بين أجنحة الحكم الذي ظهر بعد اجتماعات الجمعية العامّة في نيويورك، والذي طال الموضوع الاقتصادي أيضاً، قد يهدّد هذه الترويكا. وهنا يكمن بعض الخطر ولكن حتّى الآن، وعلى الرغم من الاتّهامات المتبادلة، لم تبرز دوائر سياسية تريد تخفيض سعر الصرف.
في هذا الإطار، فإن دور الاقتصاد السياسي لحماية الليرة اللبنانية أساسي في تفسير الواقع الحالي ولا يتعلّق الأمر بالتعداد المحاسباتي أو الظواهري للأرقام الاقتصادية، وعلى رأسها مثلاً، احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية. يظنّ البعض أنه إذا كان لدى المصرف المركزي احتياطات تبلغ 38 مليار دولار، بينما مثلاً يفقد مليار دولار دفاعاً عن الليرة شهرياً فإنه يستطيع الدفاع عن الليرة اللبنانية لمدة 38 شهراً، أي حتّى نفاد احتياطه بالكامل. لكن هذا الأمر غير صحيح، فقد بيّن بول كروغمان في نموذجه حول أزمة ميزان المدفوعات أنه عندما يبدأ المصرف المركزي بفقدان احتياطه بشكل مستمرّ تصل الأمور إلى نقطة حيث يقوم المضاربون بالهجوم على العملة، ما يؤدّي إلى استنزاف الاحتياطي بسرعة فائقة وتنهار العملة بسرعة كبيرة وتختصر مدة الـ 38 شهراً إلى عدة أشهر أو حتّى أقل. السؤال اليوم: هل نحن أمام أزمة هجوم مضاربي كروغمانية؟ الجواب، حتّى الآن: كلا، لأن مصرف لبنان فقد منذ أيار/ مايو 2018 نحو 500 مليون دولار شهرياً من احتياطه من دون أن يتمّ الهجوم عليه. طبعاً، الماضي لا يعني الاستمرار على المنوال نفسه في المستقبل، لكن ما دامت المصارف لم تقرّر الهجوم والمضاربة وكونها هي الحامل الأساسي للدَّيْن العام خارج مصرف لبنان، وما دام الدَّيْن المحمول خارجياً صغير الحجم نسبياً ويستطيع البنك المركزي التدخّل خارجياً لشراء سنداته، فإن «الاقتصاد السياسي» يغلب «نموذج كروغمان» الذي يفتقد عندها للاعب أساسي، أي «المضاربين» (speculators).

شبح الثمانينيات
في هذا الإطار، فإن أحد أهم أسباب هذا «التوافق» العام حول ثبات سعر الصرف هو رهاب اللبنانيين من تكرار التجربة التضخّمية التي حصلت في ثمانينيات القرن الماضي، حيث فقد الكثيرون مدّخراتهم وخسر العمّال أجورهم وأُعيد خلط التوزيع الطبقي بشكل كبير. لكن في الثمانينيات أيضاً نستطيع أن نرى دور الاقتصاد السياسي، ولكن هذه المرّة للدفع باتجاه الأزمة. فليس صحيحاً أن سياسات العهد آنذاك أو سحب منظّمة التحرير الفلسطينية لودائعها من لبنان أو غيرها من الأسباب التي أدّت إلى الانهيار في سعر الصرف، قد تكون هي التي مهّدت لذلك، ولكن كان هناك تلاقي مصالح اقتصادية-سياسية بين المصارف والدولة والطبقة البورجوازية الصناعية باتجاه خفض سعر صرف العملة. كما كان هناك هجوم واضح على الأجور التي اعتُبرت مرتفعة في ذلك الوقت، وتؤدّي إلى عدم توازن ماكرو اقتصادي، فالأجور على الرغم من الحرب وتدمير الرأسمال وانخفاض الإنتاجية، حافظت على ارتفاعها في تلك الفترة، فكان لا بدّ من تخفيض قيمتها الحقيقية للحفاظ على أرباح الرأسمال، فكانت الأزمة.
القيود على الصرف هي الخيار البديل عن تخفيض سعر صرف العملة، إذ يحاول المصرف المركزي بهذا التدبير تقنين الدولار بالكمّية بدلاً من تقنينه بالسعر


السؤال اليوم: هل هناك الآن مصالح شبيهة بتلك التي كانت في الثمانينيات؟ هناك بعضها، فالصناعيون سيستفيدون من خفض سعر الصرف ليصدّروا أكثر (ولكن تمّ تأمين بعض من مصالحهم برفع التعرفة الجمركية على بعض السلع)، كما أن خفض سعر الصرف سيؤدّي، كما يطرح البعض، إلى خفض القيمة الحقيقية لسلسلة الرتب الأخيرة، وهذا صحيح. ولكن حتّى الآن لم تصل تلك المصالح القطاعية إلى تشكيل هذا الائتلاف المؤيّد لخفض سعر الصرف، لأن الدولة والمصارف والمصرف المركزي لا تزال خارجه.
ثلاثة أمور في النهاية. في خضم الأزمة الأخيرة انقسم بعض «الآذاريين» بين من يلمّح لـ«مؤامرة أميركية» في شحّ الدولار ومن يرى «مؤامرة» لتهريب الدولار إلى سوريا. الأمران، لا دلائل حسّية عليهما، ويتجاهلان أن الأزمة كانت تتحضّر لفترة طويلة، وإن ظهرت بشكل مفاجئ. فهؤلاء يريدون استعمال الأزمة لتصفية الحسابات في نظام المحاصصة الطائفية الذي يتشاركونه، ولا يريدون أن يروا أن المعضلة هي في النموذج الاقتصادي. فالمصرف المركزي وَعِيَ (أخيراً!) أنه لا يستطيع طبع الدولار، بينما هم يظنّون أن المساعدات الخارجية - أي طريقتهم في «طبع الدولار» - ستستمرّ إلى الأبد. ففي عقلهم البورجوازي الصغير، الممزوج بالمذهبية، لا يستطيعون رؤية أبعد من ذلك.
الأمر الثاني، هل سياسة التثبيت التي يدافع عنها الاقتصاد السياسي اللبناني نهائية أو من دون كلفة؟ بالطبع لا، لأن عجز الحساب الجاري هو من أعلى العجوزات في العالم، ويبلغ 27% من الناتج المحلّي، وعجز الخزينة يصل إلى نحو 10% من الناتج، وكلاهما أعلى بكثير من الدول التي تعتبر عجوزاتها عالية مثل الأرجنتين في عام 2018 حيث كانا نحو 5% و6% على التوالي! وبالتالي هناك كلفة للتثبيت في ظلّ تراجع التدفّقات الرأسمالية من الخارج. وهنا نأتي إلى النقطة الثالثة، لأن الحفاظ على التثبيت ليس له فقط كلفة نقدية، فالعجوزات الكبيرة تحتّم على لبنان إحداث تكيّف: إما بسعر الصرف أو بالاقتصاد الحقيقي، وهذا هو، كما سنرى، الأمر الأهمّ في موضوع الليرة vs الدولار.