ينتظر المفوضية الأوروبية الجديدة التي تلتئم في الأوّل من تشرين الثاني/نوفمبر مستقبل مرعب.فالعديد من الناس يشعرون اليوم بأن أسس العقد الاجتماعي الذي أبقى أوروبا موحّدة ومتماسكة بعد الحرب العالمية الثانية - ضامناً السلام والرفاه - قد تصدّع. ولم يعد الشباب يتوقّعون بعد الآن أن يعيشوا أفضل من أهاليهم. ووفق معهد الإحصاء الأوروبي «يورو بارومتر»، توقّع نحو 75% من الأوروبيين في عام 2018 أن يبقى الوضع الاقتصادي على حاله، أو أن يتدهور في العام التالي، وحين سُئِلوا عن تأثير الأزمة الاقتصادية الأخيرة على سوق العمل، أجاب 45% منهم بأن الأسوأ مقبل.
لذلك، من أجل استعادة ثقة الناس، يجدر بالمفوضية الأوروبية المُشكّلة حديثاً أن تُدرِج في صلب أجندتها تمكين الأسر الحديثة التي تضمّ شخصين منتجين. وعليها أن تدفع باتجاه تحويل جذري لمخصّصات الرفاه إلى استثمارات اجتماعية مع إعفاء التمويل المطلوب من ميثاق الاستقرار والنموّ.

حتميّة الاستثمار الاجتماعي
طوال عقدين، أطلقت المؤسّسات الأوروبية وعوداً بإجراء هذا التحوّل في الرفاه. بدءاً من فكرة «السياسة الاجتماعية لعامل مُنتج» في معاهدة أمستردام في عام 1997، إلى «رزمة الاستثمار الاجتماعي» في عام 2013 والتي أطلقها المفوّض الأوروبي(آنذاك) لازلو آندور، وصولاً إلى تفعيل المبادئ التي أُرسيَت في الركن الأوروبي للحقوق الاجتماعية. وجاء الركود العظيم (2009 - 2011) ليثبت صحّة حتمية الاستثمار الاجتماعي، بعد أن أثبتت دول الرفاه الأعلى إنفاقاً في شمال شرق أوروبا - التي تقدّم خدمات شاملة عينية ونقدية - أنها الأكثر فعالية في امتصاص انكماش الائتمان العالمي وأزمة منطقة اليورو. وقد حان الوقت لأن تستثمر المفوضية المقبلة أموالها في الأمور التي تعد بتحقيقها.
تقليدياً، اعتمدت دول الرفاه إجراءات لمساعدة الناس على تحمّل فترات الغموض والضغط، ومنها إعانات البطالة التي تساعد العمّال بعد خسارة وظائفهم والمعاشات التقاعدية لمساعدة الناس بعد التقاعد. إلّا أن الدول الأوروبية تحتاج اليوم إلى دولة رفاه جديدة تستثمر في الأجيال الحالية والمقبلة قبل أن تحتاج إلى المساعدة.
يجب أن تعتمد دول الرفاه الحديثة مقاربات مثل الرعاية المُبكرة ذات الجودة العالية للأطفال، التي تعزّز فرص نموّهم بشكل صحّي واكتسابهم المعارف، وتعليم وتدريب الشباب مدى الحياة بما يضمن تحمّلهم أسواق العمل المتغيّرة باستمرار، وإجازات أمومة وأبوّة على حدّ سواء لتحسين التوازن بين العمل والحياة في الأسر الحديثة. فكما يؤكّد علماء الأعصاب والاقتصاديون، تُعَدّ السنوات المُبكرة من حياة الطفل أساسية لمهاراته الاجتماعية والإدراكية ولحظوظه الحياتية في المستقبل، وبالمجمل يرتدّ تطوّر الطفل إيجاباً على الأداء الاقتصادي.
تعزّز ثلاث وظائف تكميلية للسياسة الصرح الجديد للاستثمار الاجتماعي. أوّلاً، عليها أن تجمع رصيداً من رأس المال البشري وتحافظ عليه، بما في ذلك مجموعات المهارات والصحّة. ثانياً، يجب أن تسهّل «التدفّقات» بين مختلف أسواق العمل وكذلك المفاوضات حول تغيير مسار الحياة. ثالثاً يجب أن تقف في وجه المخاطر الاجتماعية مثل البطالة والمرض عبر حماية الدخل والاستقرار الاقتصادي. فإذا تمّ الاستناد إلى هذه الأسس، سيُنتج نظام الرفاه الجديد آثاراً، يعزّز بعضها البعض على طول دورة الحياة، عبر تحقيق النموّ في التوظيف والرفاه الاجتماعي على المستوى الفردي ومستوى الأسر.

الأمر ليس سهلاً
يجب أن توضع سياسات الاستثمار الاجتماعي في خانة الاستثمار لا الإنفاق الجاري. فمن السذاجة أن يستبعد ميثاق الاستقرار والنموّ، الاستثمارات الحكومية في التعليم والتدريب مدى الحياة، باعتبارها نفقات استهلاك ضائعة. فبذلك، لن يكون من السهل تحويل سياسات الرفاه التقليدية إلى استثمارات اجتماعية خلال فترات النموّ البطيء والموازنات الضيّقة، وبالتالي زيادة متوسّط مأمول الحياة.
وجدت الحكومة الإيطالية على سبيل المثال، أن سلوك الاتجاه المعاكس هو أكثر تناسباً من الناحية السياسية. وتتيح إصلاحاتها المسمّاة بـ«المبادئ المئة»، تقاعد العمّال مع بلوغهم الـ62 من العمر، وبعد أن عملوا 38 عاماً. ونقلت هذه السياسات المموّلة عبر زيادة العجز في الموازنة، عبء الدفع للمتقاعدين المبكرين إلى الأجيال المقبلة من الإيطاليين، ما يعني أن الشباب الإيطاليين سيتحمّلون طوال حياتهم ديناً عامّاً ومسؤولية تسديده.
بدلاً من ذلك، على منصّة السياسة التابعة للمفوضية الجديدة أن تثبت أن المزيد من الاستثمار في أسرنا سيدرّ مدّخرات كبيرة في المستقبل، وهو مسعى سيتطلّب ابتكارات تقنية، فضلاً عن تغييرات مرنة في عقلية صنّاع السياسة الوطنية. وبدلاً من أن نحكم على أطفالنا بتحمّل أعباء تفوق طاقتهم في المستقبل، علينا الاستثمار فيهم.
يجب استخدام انهيار معدّلات الفائدة بعد وقوع الركود لإرساء استثمارات اجتماعية وتعزيزها وتوسيعها بما يفيد الأجيال المقبلة، ويعزّز صحتها المالية على المدى الطويل في مواجهة الديموغرافيا المعاكسة. لذلك، يجدر بالمفوضية الجديدة أن تعتمد «قاعدة ذهبية»، تعفي الإنفاق على رصيد رأس المال البشري من دفتر القواعد المالية في منطقة اليورو، إلى حدّ 1.5% من الناتج المحلّي الإجمالي ولفترة عشر سنوات على الأقل. وبذلك، يمكن زيادة الاستثمار الاجتماعي المحلّي ضمن سياق الاتحاد الاقتصادي والنقدي.

تفادي المخاطر
ينقل الاستثمار الاجتماعي ميزان الرفاه من النموذج التقليدي الذي يعوّض المعيل الذكر على المخاطر الاجتماعية والاقتصادية التي تختبرها الأسر خلال الأوقات الصعبة، إلى تفادي المخاطر القديمة والجديدة. ويجب تمكين الأسر من تحمّل الأتمتة الصناعية المتنامية التي تستبدل الوظائف التقليدية التي يُهيْمِن عليها الذكور مثل عمّال التعدين، فضلاً عن تغيير مواقع الوظائف التي تؤدّيها النساء تقليدياً مثل صناعة النسيج.
تثبت الأبحاث أن أفضل ضمانة ضدّ الفقر في صفوف الأطفال هو عمل أمّهاتهم. فمن غير المفاجئ أن يعمل الرجال والنساء في الدول التي تعتبر في طليعة ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أكثر من نظرائهم في الدول الأخرى، وأن يجري في هذه الدول تحوّل في الوظائف القديمة، وأن يساعد الابتكار في خلق مجالات جديدة مرتبطة بالإنتاجية المرتفعة.
يجب لعقد اجتماعي جديد في أوروبا يعتمد على الاستثمار الاجتماعي أن يمكّن الناس من رعاية أسرهم وإعالتها. وأحد شروطه الرئيسية هو وجود شبكة أمان أولية. إلّا أن عقد الاستثمار الاجتماعي لا يعزّز فقط الشعور بالأمان خلال المراحل الانتقالية في أسواق العمل ومسار الحياة، بل يمنح الأسر شعوراً متجدّداً بالاستقلالية في القرن الحادي والعشرين.

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي

أنطون إيميريجك: أستاذ في العلوم السياسية والاجتماعية في معهد الجامعة الأوروبية، باحث في السياسات الاجتماعية والاستثمار الاجتماعي ودولة الرفاه، ومستشار لدى المفوضية الأوروبية.
ماسيميليانو سانتيني: زميل في برنامج القيادة السياسية في كليّة الحوكمة الانتقالية في معهد الجامعة الأوروبية، واقتصادي رئيسي سابق في البنك الدولي. خريج جامعة هارفرد كينيدي، وباحث في مجال السرديات السياسية وكيفية حشد المواطنين حول الرؤى المتنافسة في العالم.