نعيش، من دون شك، واقعاً اقتصادياً صعباً، يزداد فيه قلق الناس، خصوصاً مع تكاثر التحليلات ووجهات النظر، والخلط بين الوقائع والآراء. لذلك أرى أن من حقّ الناس أن تَطّلع بالأرقام على المعطيات الاقتصادية والمالية. كما من واجبنا أن نضع بعض مقترحات الحلول ونسعى لبناء توافق عليها.وضعنا دقيق، صحيح. إلّا أنّ إمكانيات تغييره ليست مستعصية، بل هي في متناول أيدينا، متى قرّرنا السير بإصلاحات تعيد النموّ إلى اقتصاد البلد وتعمّم منافعه على الفئات الاجتماعية والقطاعات المختلفة، وتحقّق التوازن في المالية العامّة، وتعزّز إنتاجية القطاع العام، وتحفّز الاستثمار الخاص المُنتج على حساب الريع، وتؤمّن الحماية الاجتماعية وفرص العمل والابتكار.
نحن اليوم نواجه الحقائق التالية:
- عجز في المالية العامّة وصلت قيمته إلى 6.25 مليار دولار عام 2018 (11.1% من إجمالي الناتج المحلّي) ويؤمل تخفيضه عام 2019 إلى نحو 4.5 مليار دولار (7.6% من إجمالي الناتج المحلّي)، وفق قانون الموازنة.
- عجز في الميزان التجاري وصل إلى 16.65 مليار دولار عام 2018 في مقابل 15.87 مليار دولار عام 2017.
- تراجع صافي حساب الخدمات (Net Services) من 2.156 مليار دولار عام 2015 إلى 1.438 مليار دولار عام 2018 (أي انخفض نحو 700 مليون دولار).
هذه التطورات انعكست زيادة في عجز الحساب الجاري من 8.542 مليار دولار عام 2015 إلى 12.134 مليار دولار عام 2017 وإلى 12.444 مليار دولار لعام 2018. وقد ترافق ذلك مع:
- تراجع في حجم الإيداعات الخارجيّة.
- استمرار الضمور في حجم الاستثمارات الخارجيّة المباشرة (FDIs).
- تراجع في صافي التحويلات، خصوصاً بسبب زيادة التحويلات الخارجة من لبنان (Outgoing transfers).
- ارتفاع أسعار الفائدة وبالتالي كلفة خدمة الدَّيْن العام.
كلّ ذلك، أدّى إلى تناقص تراكمي في صافي الموجودات الخارجيّة (عجز ميزان المدفوعات - BOP)، وهذا مصدر قلق كبير لكلّ نموذج اقتصادي يعتمد بدرجة كبيرة في تمويله على التدفّقات الآتية من الخارج، ولا سيّما أن النموذج اللبناني يتّسم بنسبة استهلاك أعلى من إجمالي الناتج المحلّي، ومعدّل نموّ حقيقي أقلّ من 1% سنوياً، ومساهمة متدنية لقطاعي الزراعة والصناعة في تكوين الناتج المحلّي، وتزايد في الهجرة والبطالة، ولا سيّما لدى الشباب والمتعلّمين، فضلاً عن مديونية مرتفعة ولا مساواة عالية في توزيع الثروة والدخل ونظام ضريبي غير عادل وغير كفوء.

أنجل بوليغان - المكسيك

هذه الحقائق تفرض علينا مقاربة الأزمة الراهنة من منظور بنيوي شامل، فنعمل جميعاً من أجل بناء اقتصاد مُنتج، حيوي واحتوائي، وهذا يحتاج إلى أن تبدأ الدولة حواراً واسعاً مع الأحزاب وهيئات القطاع الخاص والنقابات العمّالية والمجتمع المدني، برعاية رئيس الجمهورية، الذي دعا في بداية عهده إلى «حماية الليرة بالإنتاج لا بالدَّيْن». إلّا أن الحقائق نفسها تفرض أن نتحرّك بسرعة على جبهات مختلفة، مالية واقتصادية واجتماعية، في موازاة الحوار المطلوب.
وفي هذا السياق، أقترح هذه الخطوط العريضة لبرنامج عمل يمتدّ على 3 سنوات (2020-2022):
أوّلاً، في السياسة المالية
البتّ بحسابات الدولة النهائية ضمن المهلة المُحدّدة في القانون. وتقديم مشروع موازنة عام 2020 من دون أي تأخير، والتزام أحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية التي تفرض أن تكون الموازنة شاملة كلّ نفقات الدولة وإيراداتها بما فيها المتأخِّرات وكل إنفاق يجري من خارج الموازنة. إن العودة إلى احترام قواعد النظام العام هي الشرط الأساسي لنجاح أي سياسة مالية تهدف إلى تجسيد وظائف الدولة في المجالات كافّة.
هناك ضرورة لتخفيض العجز المالي وزيادة الإنفاق الاستثماري في آنٍ. وهذا يقتضي العمل على تخفيض الإنفاق الجاري، ولا سيّما خدمة الدَّيْن العام والتحويلات التوزيعية من الموازنة، وزيادة الإيرادات، ولا سيّما عبر مكافحة التهرّب الضريبي والتهريب والإثراء غير المشروع وإصلاح النظام الضريبي. لذلك أقترح العمل على استكمال تخفيض العجز وحصره اعتباراً من موازنة عام 2021 بالإنفاق الاستثماري على تجهيز البنية التحتية والمرافق العامّة والخدمات الأساسية، ولا سيّما الكهرباء والنقل. وهذا يتطلّب إجراءات واضحة لتخفيض الإنفاق غير المجدي وزيادة الإيرادات لتغطّي مجمل الإنفاق الجاري. وهذا يفترض سلسلة إجراءات، منها:
- إعادة النظر بالنظام الضريبي عموماً ليصبح أكثر كفاءة وعدالة، بدءاً من إقرار الضريبة التصاعدية على دخل الأسرة الموحّد وإصلاح الضرائب على الأملاك. علماً أن نسبة إيرادات الدولة (CGR) لإجمالي الناتج المحلّي في لبنان هي أقلّ من 21% في مقابل 37% إلى 46% في الدول المتطوّرة (OECD).
- فرض ضرائب أرباح مرتفعة على الامتيازات والأنشطة المُضرّة بالبيئة. ومراجعة كلّ الإعفاءات الضريبية والتسويات وإعادة ربطها بأهداف دعم الإنتاج والعمل والابتكار والمساواة وحماية البيئة والصحّة العامّة.
- استكمال العمل على لجم التهرّب الضريبي ومواصلة خطّة مكافحة التهريب، وتوحيد قواعد المعلومات والبيانات بين وزارة المالية والضمان الاجتماعي، وإمكانيّة الولوج المتبادلة بينهما.
- تخفيض الحدّ الأدنى من الخضوع الإلزامي للضريبة على القيمة المضافة من 100 مليون إلى 50 مليون ليرة لبنانية.
- إصلاح المؤسّسات المتعارف عليها كمحميّات اقتصاديّة - سياسيّة، واعتماد الشفافية والمساءلة في إدارتها، وإعلان حساباتها دورياً.
- إجراء مسح شامل لموجودات الدولة وممتلكاتها ووجهة استعمالها وكيفيّة إدارتها، على أن تحدّد مهلة ستة أشهر لإنجاز الملف.
- التنسيق مع مصرف لبنان من أجل تخفيض تدريجي لمعدّلات الفوائد، بالتوازي مع الإصلاحات المالية والاقتصادية.
- اعتماد المكننة (e-government) في إدارات الدولة.
ثانياً، في السياسة الاقتصادية
تَحفيز زيادة الإنتاج (سلعاً وخدمات) من خلال سلسلة إجراءات تقود إلى نموذج اقتصادي مؤنسن يرتكز على ما يلي:
- تطوير إنتاجِ السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، ويحرص في الوقت نفسه على حماية البيئة وتكريس احترامها.
- اعتِماد التكنولوجيا بشكل مكثّف ومطرد في مختلف المجالات.
- دعم مشاركة النساء بفاعلية في النشاط الاقتصادي.
- خلق فرص عمل جديدة للبنانيين عموماً والشباب بشكل خاص.
وفي هذا الإطار، يجب العمل على تنفيذ الخطوات التالية:
- مناقشة دراسة «ماكينزي» بما يخدم تعزيز قطاعات الإنتاج، وإقرار الأولويّات الواجب المباشرة باعتمادها في الزراعة والصناعة والسياحة واقتصاد المعرفة والقطاع المالي، وإصلاح نظام الدعم، لا سيّما القروض المدعومة، وفق معايير محدّدة تربط الدعم بالقيمة المضافة المنتجة وعدد الوظائف ومستوى الأجور، لا سيّما العمالة الماهرة.
- المباشرة بتنفيذ المشاريع الضرورية من برنامج الاستثمارات العامّة (سيدر) وخطّة الكهرباء ومشاريع الصرف الصحّي، لما لهذا الإنفاق الاستثماري من تأثير إيجابي على النموّ الاقتصادي وتوفير فرص العمل.
- إقرار خطّة مستدامة لإدارة النفايات الصلبة.
- إقرار نظام نقل عام متطوّر وواسع الاستخدام، يخفّف أزمات السير والتلوّث والفاتورة الصحيّة وفاتورة استيراد المحروقات ووسائل النقل، ويسهّل الأعمال عبر شبكة طرق محدّثة وقطارات وباصات وترامواي.
- وضع الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية موضع التنفيذ وجعلهِا إلزامية وليس فقط إرشادية (مرسوم رقم 2366 تاريخ 20/6/2009).
- إقرار مشاريع القوانين المحالة إلى مجلس النوّاب، لا سيّما:
مشروع قانون المنافسة لتفكيك الاحتكارات المقنّعة والواضحة.
مشروع قانون الشركات المتناهية الصغر، الصغيرة والمتوسطة (جديد).
مشروع قانون حماية المؤشّرات الجغرافيّة (زراعة، صناعات غذائيّة...).
مشروع قانون إنشاء وِكالة تنمية الصادرات اللبنانية المحال عام 2017 من الحكومة إلى مجلس النواب.
مشاريع قوانين عائدة لحماية الملكية الأدبية والفنية.
- اعتماد الشبّاك الموحّد (One Stop Shop) في الاستيراد والتصدير.
- اتخاذ الإجراءات الرامية إلى تطوير الأسواق المالية.
- العمل على تطوير قطاع التأمين ليأخذ دوره في الاقتصاد اللبناني أسوة بقطاع المصارف.
ثالثاً، في السياسة الاجتماعية
يجب توفير الحماية للفئات الاجتماعية الضعيفة وتوفير الأجر الاجتماعي عبر:
- إقرار نظام تقاعد وحماية اجتماعيّة لجميع اللبنانيين العاملين في لبنان، وذلك في غضون ستة أشهر، مع تأمين الإيرادات اللازمة لتغطية كلفته.
- إقرار نظام التغطية الصحيّة الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين في لبنان، وتأمين تمويله من الموازنة بدلاً من الاشتراكات، ممّا يحفّز الاستثمار وخلق فرص العمل النظامية ويخفف الكلفة من خلال معالجة تشتّت أنظمة الضمان، وذلك قبل نهاية عام 2020.
- وضع سياسة إسكانية تقوم على مبدأ الحقّ بالسكن ولا تقتصر على تشجيع التملّك.

* وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني