«إن إعفاء أصول الشركات المملوكة من الأسر في ألمانيا من نظام الضريبة على الإرث وعلى الهدايا... يلعب دوراً مهمّاً في تعميق عدم المساواة في الثروة، وبالتالي عدم المساواة في الفرص عبر الأجيال»
صندوق النقد الدولي


من أهمّ أعمدة ثورة كينز الاقتصادية كان تخليص علم الاقتصاد من المفهوم الكلاسيكي لما عُرف بالمالية المتوازنة، التي تقول، بشكل أو بآخر، أن عجوزات الخزينة سيّئة بحدّ ذاتها، وبالتالي يكمن دور الدولة في الابتعاد عن أي عجز حتّى في خضمّ الأزمات أو الركود الاقتصادي. في إطار «بريتون وودز» والأخطاء التي أدّت إليه، كما رأينا، كان لهذا الفكر الكلاسيكي دور سيّئ خلال الكساد العظيم، من الولايات المتّحدة إلى ألمانيا، حيث تمسّكت الحكومات بالتشدّد المالي، وهو ما زاد من عمق الأزمة. وفي هذا السياق، يقول كينز إن دور مالية الدولة أساسي في الحفاظ على الطلب العام، وبالتالي يُمكن للدولة خلال الأزمات، وبشكل عام، - لأن الرأسمالية دائماً في حالة نقص طلب عامّ - أن تُنفق أكثر ممّا تجبي، وبالتالي لا شرّ مُطلق في العجوزات، بل على العكس، إنها ضرورية وأساسية في تنظيم عمل الرأسمالية.
اليوم، يأخذ هذا الموضوع حيوية جديدة بعد أن دخلت الرأسمالية المتقدّمة في حالة يسمّيها البعض «الركود الطويل الأمد»، في ظلّ عدم قدرة السياسة النقدية، أي المصارف المركزية، على إيجاد حلّ لهذا الركود. أوليفيير بلانشارد، رئيس اقتصاديي «صندوق النقد الدولي» السابق، الذي كانت له مواقف ليبرالية من التقشّف، يقود الآن حملة يسمّيها البعض «عدم أهمّية الدَّيْن العام».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

يقول بلانشارد إنه في ظلّ الفوائد المتدنّية، يصبح الخوف من الدَّيْن العام أمراً غير واقعي أو مرفوض. وهنا يكمن أساس طرح بلانشارد: الفوائد المتدنية التي لا تؤدّي إلى تراكم الدَّيْن العام على الرغم من العجوزات. ففي حال كان النموّ الاقتصادي أعلى من الفائدة، وفي ظلّ عجوزات أوّلية غير عالية، فإن الدَّيْن العام إلى الناتج ينخفض بدلاً من أن يرتفع، والعكس صحيح، أي في حال كانت العجوزات الأوّلية والفوائد عالية والنموّ متدنياً فإن الدَّيْن العام إلى الناتج يرتفع. حالياً، تتبع كلّ من أوروبا والولايات المتّحدة «قانون بلانشارد»، إذ أصبحت الفائدة في منطقة اليورو سلبية، لا فقط متدنية، ويعتقد البعض أن الولايات المتّحدة تسير في الطريق نفسه. ما يعني بالتالي، أنه يجب التخلّص من التقشّف وإطلاق عجلة الحكومة كينزياً والاستفادة ممّا سماه الاقتصادي روجر فارمر «الغذاء المجّاني» عندما تكون الفائدة متدنّية، وخصوصاً في ظلّ عجز السياسة النقدية. وفي هذا الإطار، تقول المعلّقة في بلومبرغ كاتيا ديمترييفا «أن هناك توافقاً يتشكّل بأن السياسة النقدية فقدت الكثير من فعاليتها، وأن الحكومات بحاجة للجوء إلى الإنفاق من الموازنة من أجل إنقاذ الاقتصادات المتعثّرة».
بالإضافة إلى كلّ ذلك، يبرز أمر آخر مرتبط بالعلاقة بين الفائدة والنموّ الاقتصادي، وهو تأثير هذه العلاقة، ليس فقط على الاقتصاد الكلّي، بل على التوزيع بين الطبقات الاجتماعية. وكما أصبح معروفاً، طرح توماس بيكيتي هذا الأمر كعلاقة أساسية في الرأسمالية، والتي تكمن بكون العائد على الرأسمال (وهو أعلى من الفائدة الآمنة لبلانشارد) أعلى من النموّ، يؤدّي إلى تراكم الدخل والثروة لدى الرأسمال على حساب الطبقات الأخرى. من هنا، فإن مقولة كينز في «القتل الرحيم للريعي» عبر تدنّي الفائدة إلى الصفر في الرأسمالية يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه الثلاثي الذهبي: تحرير الاقتصاد الإنتاجي من قيود الفائدة، إطلاق الحرّية للسياسة المالية للدولة، ورفع يد الريعي عن الدخل والثروة.

ماذا عن لبنان؟
يبدو واضحاً أن هذه الثلاثية الذهبية معكوسة تماماً في لبنان، فمنذ عام 2011 ترتفع معدّلات الفائدة فيما يتدنّى النمو باطراد. إذ انخفض النموّ من معدّل 9.15% بين عامي 2007 و2010، إلى معدّل 1.5% بين عامي 2011 و2018. وبالتالي، استمرّ لبنان على نسبة الدّيْن العام إلى الناتج المحلّي المرتفعة، والتي تعدّ الثالثة في العالم.
بدلاً من الثلاثية الذهبية، لدينا ما يمكن أن نسمّيه الثلاثية الصدئة: تكبيل الاقتصاد الإنتاجي بقيود الفائدة، تكبيل السياسة المالية الدولة، ووضع يد الريعي على الدخل والثروة. وفي الوقت نفسه، السياسة النقدية معطّلة، لكن ليس بسبب تدنّي الفائدة كما في الدول المتقدّمة، بل بسبب أحادية هدفها وهو الحفاظ على سعر الصرف في مواجهة كلّ الظروف. تضع المصارف المدخّرات في سندات الدَّيْن اللبنانية وفي ودائع لدى مصرف لبنان، وهو ما أدّى إلى شحّ القروض وشحّ الدولار الأميركي. وهذا الشحّ هو الشكل الذي تأخذه اليوم سياسة الدفاع عن الليرة اللبنانية. إذاً في مواجهة الأزمة الركودية المُزمنة، تقف الدولة اللبنانية عاجزة كلّياً.

لكن لماذا لم يحتَج لبنان للصندوق؟
من المعروف أن علاقة «صندوق النقد الدولي» كانت فاترة إلى حدّ كبير، إن لم تكن متوترة، مع أكثرية الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1992. لطالما شكّلت الحريرية نوعاً من «القومية الاقتصادية»، متشبّهة بالاقتصاديات الريعية في الخليج. وبشكل عام، كانت ترى أن لبنان لن يكون أبداً بحاجة إلى الصندوق، لأن ما يمكن أن يعطيه صندوق النقد من سيولة مؤمّن أصلاً من التدفّقات المالية الخارجية نحو المصارف والأصول، ومن تدفّقات العاملين اللبنانيين في الخارج، وأخيراً من تدفّقات الدول الصديقة خلال الأزمات كما في باريس 2 و3. وبالتالي، لم ترَ الأرستقراطية المالية، التي نمت خلال هذه الفترة، في صندوق النقد ووصفاته وأطروحاته إلّا المزعج الضروري للحفاظ على علاقة الحدّ الأدنى معه. بالتالي، فإن انتقادات الصندوق للإنفاق الحكومي والعجوزات المزمنة، واعتبار سعر الصرف فائقاً في قيمته (overvalued) في بعض الفترات، كان يقع على آذان صمّاء.

ما الذي كان يجب أن يقوله الصندوق؟
بدلاً من أن يأخذ الصندوق في الاعتبار أسباب هذا الفتور، تعاطى مع الظواهر التي تعتبر «روتينية» من دون أن يغوص في الاقتصاد السياسي للدَّيْن والعجوزات التي تعدّ جزءاً من النموذج الريعي اللبناني. وبدلاً من الربط بين الأزمة والثلاثية الصدئة، يدعو اليوم إلى رفع الفائدة. وإذا كان يظن أنه بذلك سيجعل النموّ يلحق بالفائدة، فهو بالتأكيد يعلم أنه واهم.
بالإضافة إلى ذلك، لم يُعِر الصندوق أي اهتمام لتأثير ذلك على توزّع الدخل والثروة. فإذا أخذنا مثلاً رأي، أو تحليل، المؤسّسة الشقيقة له في «بريتون وودز» أي البنك الدولي، نجد أن البنك في تقريره لعام 2016، احتسب أن العائد على الرأسمال (المُحتسب بالفائدة على الدَّيْن العام بعد الضريبة)، كان أعلى من النموّ بين عامي 1993 و2013 بمعدّل 2.5% سنوياً، وهو ما يؤكّد تجذّر ديناميكية بيكيتي في الاقتصاد اللبناني (التي تزداد الآن!) و«تؤدي إلى عدم مساواة في الدخل كبيرة ومستمرّة، إذ أن النموّ يشكّل الحدّ الأقصى لنموّ الأجور الحقيقية على المدى الطويل» كما يرد في التقرير.
من هنا، كان الأجدر بصندوق النقد الدولي أن يتناول عدم المساواة في لبنان من زاوية النموذج اللبناني، كما فعل في تقريره الأخير حول ألمانيا (انظر 3). فإذا أردنا أن نقيّم محاكاة لما كان يمكن أن يكتبه حول النموذج الاقتصادي اللبناني والحسابات الخارجية وعلاقتها بعدم المساواة بمنهجية تقرير ألمانيا نفسها، لكانت كالتالي: إن عجوزات الخزينة المستمرّة منذ عام 1993وحتّى الآن، أدّت إلى ارتفاع الفائدة بشكل كبير، كما أن تركّز حملة السندات في المصارف والرأسمال الكبير وتركّز الودائع في المصارف اللبنانية أدّيا إلى ارتفاع الأرباح الريعية لدى القلّة، وبالتالي إلى زيادة عدم المساواة في الدخل والثروة. كما أن ارتفاع الفائدة كان أيضاً مدفوعاً بسياسة الحفاظ على سعر الصرف المُعتمدة على تدفّق الرساميل من الخارج التي تجذبها الفائدة العالية.
السياسة النقدية في لبنان معطّلة، ليس بسبب تدنّي الفائدة كما في الدول المتقدّمة، بل بسبب أحادية هدفها وهو الحفاظ على سعر الصرف في مواجهة كلّ الظروف

كما أن العجوزات والارتفاع الحقيقي في سعر الصرف أدّيا إلى ارتفاع الاستهلاك العام والخاص وازدياد الواردات مع تراجع في تنافسية السلع اللبنانية، وأوجدا هذا العجز المُزمن في الحساب الجاري الخارجي اللبناني. كما أن تجميد الأجور لفترة طويلة والاحتكارات في قطاع الاستيراد أدّيا أيضاً إلى تزايد عدم المساواة. وبالإضافة إلى كلّ ذلك، فإن انخفاض الصادرات وارتفاع الادّخار وعدم الاستثمار نتيجة تركّز الثروة والدخل (بالتأكيد هذا التأثير أكبر منه في لبنان من ألمانيا) أدّيا إلى تحول الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ركودي مُزمن. أخيراً، كان يمكن تجاهل تركّز الثروة والدخل، لو أن تزايد الأرباح والريوع لدى الطبقة الرأسمالية أدّى، كما يظن البعض، إلى استثمارات وارتفاع الصادرات وبالتالي إلى النموّ الذي يمكن أن يُغطي على عدم المساواة.
طبعاً، كان يمكن للصندوق أيضاً أن يتحدّث عن الحاجة إلى نظام ضريبي جديد يعكس عدم المساواة وتصحيح النموذج الاقتصادي. أخيراً، ومن روحية تقرير ألمانيا، على الصندوق أن يطلب من المصرف المركزي أن يصدر، كما الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتّحدة، «الحسابات التوزيعية» التي تشير إلى توزّع الثروة في الاقتصاد اللبناني.
في كتابه «الجمهورية الفانية» يقول إدوارد واتس إن عدم المساواة، وعدم فعل أي شيء تجاهها، هي التي أسقطت روما في النهاية. بعد أكثر من ألفي سنة، لا تزال عدم المساواة تهدّد الدول، وإذا كانت اليوم مهمّة في ألمانيا، فهي أكثر أهمّية بكثير في لبنان. كما أن ارتباطها بالنموذح اللبناني والحسابات الخارجية لا تقل أهمّية عن ذلك الارتباط في ألمانيا. في هذا الإطار كان يمكن لاقتصاديي صندوق النقد الدولي أن يطرحوها، إن لم يكن لأسباب تتعلّق بالسياسات، على الأقل لفضول فكري. وبذلك كانوا أسدوا لبنان وطبقاته الوسطى والعاملة منفعة في معركتهم مع نظام اقتصادي متخلّف ومُنحلّ جعل من كينز ريعياً وحتى طائفياً. فالإنفاق الحكومي والدَّيْن العام في لبنان لم يكونا، وفق ما قدّمه كينز بالأمس ولا وفق ما يقوله بلانشارد وفارمر وغيرهما اليوم، بل للحفاظ على نظام التحاصص الطائفي ومصالح الرأسمال الريعي. طبعاً، وكما استشرف كينز الحقيقي قبل أكثر من ثمانين عاماً، كل هذا أتى على حساب الاقتصاد والنموّ والتطوّر والتقدّم.