«إن الرأسمالية المنحطة، العالمية والفردية، التي وجدنا أنفسنا بين يديها بعد الحرب، ليست ناجحة ولا ذكية ولا جميلة... باختصار إننا لا نحبها وبدأنا نكرهها. ولكن عندما نفكّر بماذا نستبدلها، فنحن حائرون جدّاً»
جون ماينارد كينز في عام 1933


اليوم تصادف الذكرى الـ75 لليوم الأخير من اجتماعات بريتون وودز التي حصلت في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر تموز من عام 1944 بينما الحرب العالمية الثانية كانت على مشارف الانتهاء. كان الهدف من الاجتماع الاتفاق بين الدول الحليفة، ومن بينها الاتحاد السوفياتي، على نظام اقتصادي عالمي يؤدي إلى الاستقرار والنمو في العالم، ويتفادى إعادة سيناريو عدم الاستقرار الذي شهدته أوروبا والعالم في فترة ما بين الحربين وعلى إثر الكساد العظيم 1929، والتي لم تكن مفاعيله اقتصادية فقط، بل سياسية من صعود الفاشية والنازية وصولاً إلى الحرب الثانية نفسها.
من هذه الاتفاقيات ولدت مؤسسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. الأول كان معنياً بإعادة الإعمار والتنمية في ما بعد الحرب، أما الصندوق فاعتُبر الحامي للتوازنات الاقتصادية العالمية من ناحية مساعدة الدول على حلّ أزماتها في حال دخلت في حالة عجز خارجي، كما أُنيط بالصندوق حماية نظام أسعار الصرف الثابتة بين العملات الذي اعتُمد آنذاك. قصة، أو تاريخ، الصندوق طويلة منذ ذلك اليوم إلى الآن، ولكن أهم ما في هذا التاريخ، أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور الرأسمالية والاقتصاد السياسي للرأسمالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. كما ترابط هذا التاريخ بفكر الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز وصعوده وهبوطه وعودة صعوده اليوم في الدول الرأسمالية المتقدمة. كينز كان بالطبع أكثر الاقتصاديين شهرة في بريتون وودز. وعلى الرغم من أنه سابقاً، في خضم الكساد العظيم كان يرى في زيادة منسوب العالمية الاقتصادية خطراً، وعلى الرغم من أنه لم يطرح هو فكرة صندوق النقد الدولي، بل طرح ما أسماه اتحاد التخليص العالمي International Clearing Union الذي رفضه الأميركيون مع رديفه إقامة عملة عالمية، إلا أن الاتفاقية والمؤسسات التي انبثقت عنها حملت بعضاً من بصماته، ولو إلى حين، وحكمت العلاقات بين الدول الرأسمالية لمدة طويلة، بعد أن رفض الاتحاد السوفياتي التوقيع على الاتفاقية وأقام فضاءه الاقتصادي الخاص.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

اليوم في خضم سياسات ترامب الحمائية وتقدم الصين نحو الاقتصاد الأول في العالم والبدء بعكس العولمة وظهور القومية الاقتصادية، وكما قال مارتن وولف في الفايننشال تايمز في مقالة حول الذكرى «إن اللبرلة العالمية Global Liberalisation قد توقفت. الولايات المتحدة لم تتجه فقط بشكل حثيث في اتجاه حمائي، بل إنها بدأت تعارض قانون وروحية منظمة التجارة العالمية». والذي يتذكر كيف، منذ سنوات قليلة فقط، كانت منظمة التجارة العالمية على كل شفة ولسان والتي انضمت إليها الصين الشيوعية عام 2001، وكيف أن مديرها العام باسكال لامي كان بمثابة الحاكم الفعلي للعالم، يعرف كم تغيرت الأمور في هذه السنوات القليلة. من هنا تأتي أهمية ذكرى بريتون وودز، لتجعل الكثيرين حول العالم يدعون إلى إعادة إحياء مؤسساتها وروحيتها التي تبدو الآن أنها تحتضر، بينما العالم يعود إلى زمن الصراعات، وزمن ما قبل التوافق الذي حصل في عام 1944.

«كينز» في واشنطن
في مقالة «محاكاة»، يُحاكي فيها مؤرخ صندوق النقد الدولي آتيش غوش، زيارة لكينز إلى مقره في واشنطن في هذه الذكرى حيث يلتقي المديرة الحالية كريستين لاغارد. في الحوار بين كينز ولاغارد، تخبره أن أحد التعديلات التي حصلت على اتفاقات بريتون وودز كانت «تشريع أسعار الصرف العائمة» وهنا كان الحوار الآتي:
كينز: «معدلات عائمة! لكننا أسسنا الصندوق تحديداً من أجل الإتيان بالاستقرار إلى أسواق العملات بعد الفوضى العارمة التي حصلت في فترة ما بين الحربين».
لاغارد: «لكن نظام بريتون وودز للمعدلات الثابتة انهار في بدايات السبعينيات».
وهنا جاء رد كينز السريع «إذاً لماذا لم يتم إقفال الصندوق؟».
عندها قالت لاغارد: «آه، اكتشف العالم أنه بحاجة لنا. بالإضافة إلى ذلك، فإننا مع المعدلات العائمة، ننفذ رقابة صارمة على سياسات أسعار الصرف للدول لنتأكد أنهم لا يلعبون بعملاتهم من أجل الحصول على أفضلية غير عادلة في التجارة العالمية».
بعد ذلك يذهب كينز في جولة في المقر وعند عودته تسأله لا غارد «ما رأيك؟» يجيب كينز: «يبدو أن كل شيء تَغَيّر. في زمني، كان هناك ثلاثة أشياء ثابتة: الطقس، حصة العمال من الناتج المحلي، وآسف لقولها مكان المرأة في المجتمع. أما الآن فكل شيء في حالة دفق. لكن في نفس الوقت لم يتغير شيء. فالصندوق لا يزال بحاجة إلى أن يساعد الدول لتتكيف مع معضلات ميزان المدفوعات من دون اللجوء إلى أساليب مدمرة للانتعاش الوطني أو العالمي... كما أن إنجازنا الحقيقي في بريتون وودز... كان إقامة مؤسسة تستطيع أن وتتكيف بالفعل من أجل خدمة أعضائها».
إذاً السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه اليوم: هل طبق الصندوق ولا يزال الآن يطبق ما قاله كينز؟ وما فات مؤرخ الصندوق أي ما فات لاغارد، أن تقول لكينز، ولا أعلم ما كان سيكون رد كينز عندها ابتهاجاً أو تهكّماً، أن سياسات الصندوق ودوره كانا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بصعود وهبوط واليوم بعودة فكر كينز نفسه، أي كان مرتبطاً بالتغيرات في الاقتصاد السياسي للرأسمالية من استقرار ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الأزمة في السبعينيات إلى عدم الاستقرار اليوم الذي يمكن تشبيهه بفترة ما بين الحربين، على الرغم من أن برانكو ميلانوفيتش يحذّر من الأفراط في هذا التشبيه.

كينز والصندوق فعلياً
بعيد الحرب العالمية الثانية، وحتى عام 1949 ترسخت قوانين ومؤسسات النظام العالمي الجديد حيث بدأ تطبيق نظام العملات الثابتة، على أساس تثبيت جميع العملات في العالم تجاه الدولار الأميركي وتثبيت الدولار الأميركي تجاه الذهب، وتأسيس صندوق النقد ومجموعة البنك الدولي. لكن هذا لم يكن كل شيء. بعيد الحرب أيضاً، بدأ فكر كينز، الذي توفي في عام 1946 عن عمر 63 عاماً، جزئياً بسبب الإرهاق الذي أصابه في عمله خلال تلك السنوات، يصبح هو الفكر الاقتصادي المسيطر في العالم الرأسمالي المتقدم. فقد كانت المعضلة الأساسية التي تواجه الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة بعد الحرب هي كيفية إطلاق النمو الاقتصادي، خصوصاً في ظل الحرب الباردة التي بدأت «تستعر». كما كان من الواضح أنه لم يكن من الممكن العودة إلى رأسمالية ما بين الحربَين على مستوى العلاقات بين الدول، وبالتالي كان بريتون وودز.
لماذا لم يتم إقفال الصندوق؟ لقد لعبت هذه المؤسسة دور الأداة العالمية للرأسمال الصاعد وعودة الرأسمالية إلى ما قبل كينز

أما على المستوى الداخلي، كان التنظيم الرأسمالي خارجاً للتو من أزمة الكساد العظيم التي طرحت عدة أسئلة مصيرية: أولاً، كيف سيتم التوفيق بين مصلحة الرأسمال في ربح أعلى وبين مصلحة العمال في أجور أعلى؟ ثانياً، كيف سيتم الخروج من الدورات الاقتصادية الآن، إذا كان ما قاله كينز صحيحاً بأن الأجور لا يُمكن أن تُخَفّضْ في أيام الأزمات؟ ثالثاً، كيف يتم التوفيق بين نمو الإنتاجية الناتجة عن التطورات التكنولوجية في تلك الفترة، وخصوصاً التايلورية وخطوط التجميع، وبين القدرة الاستهلاكية للأكثرية التي كانت في تلك الفترة عمالية؟ الجواب على كلّ هذه الأسئلة كان في تطبيق في ما عُرف بالنظام الكينزي-الفوردي، حيث الأجور تُربط بالإنتاجية بحيث ترتفع الأجور والأرباح عندها سوية، ويتم القضاء على المعضلة الماركسية في التناقض بين الأرباح والأجور. وبارتفاع الأجور يتم أيضاً خلق الطلب الكلي من قبل الطبقة العاملة لشراء ما تنتجه خطوط التجميع. أخيراً، في حالة الركود لن يكون هناك حاجة لخفض الأجور، لأن الدولة تستطيع أن تُنفق وتُخرج الاقتصاد من الركود نحو الازدهار. وهكذا، بسرعة تم خلق تنظيم جديد للرأسمالية أدى إلى ما عرف بالعصر الذهبي للرأسمالية بين 1945 وبداية السبعينيات. إذا كانت الكينزية + بريتون وودز، المعادلة أو الوصفة التي كادت أن تكون سحرية، أو أبدية، لحل المعضلات الرئيسية للرأسمالية. وفي تلك الفترة أيضاً ظهر فرع جديد في علم الاقتصاد ألا وهو «التنمية الاقتصادية»، وكانت الآمال عالية في تحقيق التنمية في جميع بلدان العالم. وكان الصراع إلى حد ما بين «البيان الشيوعي» وبين «مراحل النمو الاقتصادي: مانيفستو غير شيوعي» للاقتصادي الأميركي والت روستو، ولكن الاثنين كانا يقودان العالم إلى التقدم. في خضم كل ذلك، كان دور سوق النقد الدولي هامشياً إلى حد كبير، أو منظماً لبعض هذه العلاقات، فكان مكاناً بيروقراطياً للضغط على بعض الأزرار في هذه الآلة الرأسمالية الضخمة التي كانت تتحرك دوماً إلى الأمام، والتي إلى جانبها الآلة الاشتراكية التي تحاول اللحاق بها، أو أن «تقبرها» كما قال نيكيتا خروتشوف في عام 1956.
اليوم، العالم يعيش إرهاصات نهاية الكينزية ونهاية نظام بريتون وودز. ففي عام 1971، فَكّ الرئيس الأميركي نيكسون الارتباط بين الدولار وبين الذهب، بسبب التضخم المتزايد في أميركا، وبعد أن تبين أن الولايات المتحدة تحولت من دولة دائنة إلى دولة مدينة، أو من دولة ذات فائض مع العالم إلى دولة ذات عجز، فلم تعد تستطيع أن تبقي على هذا الارتباط. ومع هذا الانفكاك، تحول نظام الصرف العالمي إلى نظام متحرك ومرن، وهذا الذي استدعى أن يقول كينز: «إذاً، لماذا لم يتم إقفال الصندوق؟». لكن الأمر الآخر الذي حصل في تلك الفترة، هو انهيار الكينزية وانتهاء العصر الذهبي للرأسمالية. وهنا تكمن المفارقة التاريخية، والجواب على لماذا لم يتم إقفال الصندوق، إذ لعب صندوق النقد الدولي، الذي ساهم كينز بتردد في بنائه، وخَصّه مؤرخ الصندوق بزيارة لمقرّه في 2019، ووضع الأميركيون «قنبلة موقوتة» في داخله، كما سنرى، في تعميق هذا الانهيار وفي تَحَوّلَهُ إلى الأداة العالمية للرأسمال الصاعد، وفي العودة إلى رأسمالية ما قبل كينز في الفكر وفي الواقع أيضاً.